ها أنا على متن طائرة مجدداً متّجهة نحو دُبي لإتمام صفقة للشركة التي أعمل لحسابها منذ أكثر من عشر سنوات. فأنا أقضي نصف وقتي بالجوّ، أتنقّل من بلد إلى آخر. هذه حياتي ولطالما كانت هكذا. لا أستطيع المكوث في مكان واحد لوقت طويل.
سألتُ نفسي مراراً لماذا أنا هكذا. السبب هو على الأرجح لأنّ أهلي وضعوني في مدرسة داخلية بسبب علاماتي المتدنّية وسلوكي الثائر. فغادرتُ بيتي وأنا في الثالثة عشرة من عمري ولم أرجع إليه فعلياً.
بعدما قضيتُ سنين في تلك المدرسة وتخرّجتُ منها بإمتياز، عرض عليّ المدير أن أعمل لحساب أخيه كمساعدة مدير مشروع في العاصمة. قبلتُ فوراً فأنا لم أكن راغبة في العودة إلى المنزل حيث ينتظرني غرباء. صحيح أنهم أرسلوني هناك لكي أتعلّم ولكن في ذلك السنّ اعتبرتُ هذا وكأنّه تخلٍّ، ولم أكن مستعدة بعد لمسامحتهم.
إستأجرتُ شقة صغيرة في المدينة وبدأتُ العمل. أحببتُ التحدّي وساعات العمل الطويلة. أحياناً كنتُ أنام في المكتب لكي لا أضيّع الوقت.
وأصبحنا نفوز بمناقصات كبيرة ونستلم مشاريع ضخمة. ونظراً لعملي الدؤوب حصلتُ على ترقية. أصبح لي مكتبي الخاص في الشركة ومشاريع أديرها لوحدي. كم كنتُ فخورةً بنفسي!
علاقتي بأهلي لم تتحسّن ولم يكن يهمّني الأمر. كنتُ في عالمي الخاص مكتفية بنفسي. لم أكن بحاجة لأحد. وبدأتُ السفر. كم كنتُ سعيدة أن أطير هكذا من بلد إلى آخر متمنّية ألاّ أحطّ أبداً!
ولكن حصل ما لم يكن بالحسبان: وقعتُ في الحبّ. طيلة حياتي لم أتخيّل أن بإمكاني التعلّق بشيء أو بأحد. كنتُ أضحكُ على زميلاتي عندما كُنَّ يروينَ لي قصصهنَّ وأقول لنفسي : "هذا لن يحصل لي أبداً!"
ولكن عندما رأيتُ خالد للمرة الأولى شعرتُ بإحساسٍ غريب. نظرتُ إليه بدهشةٍ حتى قال لي مديري:
- ما بكِ يا جومانا؟ هل تعرفين الأستاذ خالد من قبل؟
- لا... لا أعرفه... عذراً سيّدي
شرحَ لي مديري أنّ خالد هو عميل جديد يودّ تنفيذ مشروع كبير في البلد وأنه سيوكلني بالملف. قبلتُ طبعاً ولكن بتردّد، فلم أحبّ هذا الشعور الذي ينتابني.
عملتُ على المشروع مع خالد بإتقان وبموضوعيّة. كنتُ أجتمعُ به عند الضرورة فقط متجنّبة أي لقاء خارج نطاق العمل. عرضَ عليّ مراراً أن نذهب لتناول الغداء أو لاحتساء القهوة ولكني كنتُ أرفضُ دوماً. لاحظ خالد أنني كنتُ أتجنّبه فقال لي:
- أشعرُ بأنّي أضايقكِ وأنكِ تعملين جهدكِ لكي لا تتواجدي معي، لماذا؟ هل قلتُ شيئاً أزعجكِ أو تصرّفتُ معكِ تصرّفاً غير لائق. إذا حصل هذا، أرجو منكِ أن تُسامحيني. فأنا معتاد أن أتعامل مع رجال.
- لا أبداً... أنا فقط لستُ على ما يرام هذه الأيام.
- دعيني آخذك إلى مطعم سيعجبك تماماً حتماً ويُغيّر مزاجك. أرجو أن تقبلي دعوتي
قبلتُ الدعوة وقضينا وقتاً ممتعاً نتحدث. أخبرني عن حياته وكيف أصبح رجل أعمال كبير. لم تكن الأمور هكذا منذ البداية، فكان خالد فقيراً جداً. عمل جهده ليكوّن لنفسه مستقبلاً أفضل ونجح. أُعجبتُ بطموحه ومثابرته. أخبرني أيضاً أنه قد مَلَّ من حياته المليئة بالسفر والصفقات، وكم يتمنّى أن يجد شخصاً يرتاح معه من هذه الضوضاء، قال هذا وهو ينظرُ إليّ. ثم أمسك بيدي وقبّلها بلطف. ولكنني سحبتُ يدي بسرعة قائلة :
- أنا سعيدة بحياتي كما هي ولا أنوي أن أستقرّ.
- ممَ تهربين يا جومانا؟ ممَ تخافين؟
- من لا شيء! أنا فقط سعيدة هكذا.
- عندما يكون لك جواب على هذه الأسئلة أرجو منك أن تأتي إليّ. سأكون بإنتظارك. أعلم أنكِ تشعرين بشيء تجاهي ولكن لا أعرف لماذا ترفضين رؤية الحقيقة. أعدكِ ألاّ أتكلّم بهذا الموضوع مجدداً وأن أتصرّف معكِ كأي عميل.
سُرِرْتُ لسماع هذا. كان خالد سيدعني وشأني أخيراً!
إلتزمَ خالد بوعده لي. كنا نلتقي لمتابعة المشروع فقط دون أن نتكلّم بأي شيء آخر. حتى نظراته لي تغيّرت، لم أعد أرى فيهما الإعجاب أو الحب مثل قبل. وهذا أزعجني كثيراً. كنتُ أعتقد أنني سأُسَرُّ بإبتعاده عنّي ولكن لا، ما حصل هو العكس تماماً. لم أعد أنام جيّداً في الليل، أتقلّب بفراشي حتى بزوغ الضوء وأصبحتُ أبحثُ عن أي إشارة منه تدلّ على أنه ما زال يكنّ لي بأي إحساس. وبعد فترة لم أعد أتحمّل الوضع فقلتُ له:
- أخاف من التعلّق بأحد لأنني أخاف من أن يتركني هذا الشخص. أسعيدٌ أنتَ الآن؟ حصلتَ على جوابِكَ؟
- أنا سعيد لأنكِ أنتِ حصلتِ على جوابكِ. جومانا... حبيبتي... ليس كلّ من يحبّ يجد نفسه وحيداً، فالناس كلّها تحبّ بعضها وتبقى مع بعضها سنين طويلة وحتى الموت أحياناً. خوفكِ هذا حَرَمَكِ من السعادة لسنين وقد يمنعكِ منها طيلة حياتك. لن تستطيعي حماية نفسكِ كل الوقت، لا بدّ أن تتألّمي وهذا جزء من الحياة. ثقي بالآخرين قليلاً، ثقي بي وثقي بنفسك، فأنتِ أقوى ممّا تتصوّرين. دعيني أحبّكِ وإذا خذلتُكِ، حينها فقط خذي قراراً بتركي ولكن لا تحكمي على حبّنا بالإعدام قبل ولادته.
كلامه هذا وضّحَ لي كم كنتُ قد تأذّيتُ مما فعله أهلي وإلى أي حدّ كنتُ قد حصَّنْتُ نفسي ضدّ أي أذى آخر قد يُصيبني. أخذتُ يد خالد وأغمضتُ عينيّ واثقةً أنني لن أندمَ أبداً.
حاورتها بولا جهشان