خطأٌ جسيم

يوم زارَنا العريس، كان البيت كلّه سعيدًا ومُنهمِكًا بالتحضيرات. فذلك الرجُل الذي اسمه زين، كان مُغترِبًا ثريًّا جاءَ إلى البلَد ليختار عروسًا ويطيرُ بها إلى مسكنه في أمريكا. وقَعَ الخيار على نوال أختي ربّما لأنّها جميلة وفتيّة ومِن عائلة تقيّة ذات سُمعة جيّدة. كانت أمّ كامِل قد دبّرَت هذه الزيجة، وهي إمرأة عجوز تُجيد تزويج الناس ولا تُخطئ أبدًا. وهي لَم تكن تطلبُ أيّ مُقابل، بل كانت تكتفي بتعزيز لقَبها كأفضل وسيطة زواج في المنطقة.

وصَلَ زين مُحمّلاً بالهدايا لكلّ فرد مِن العائلة، بعدما سألَ أمّ كامِل عن التفاصيل اللازمة، وخصَّصَ عروس بسوار مِن الذهب. إحمرّ وجه أختي مِن الفرَح، وأنا حسَدتُها قليلاً على هذا الكمّ مِن الاهتمام.

للحقيقة تفاجأتُ بوسامة زين وبشخصيّته المُميّزة، وأثّرَ ذلك كثيرًا على قرار أهلي. أمّا بالنسبة لنوال، فهي وقعَت تحت سحر ذلك الرجُل شِبه الكامل. فالجدير بالذكر أنّ نوال كانت فقط جميلة، لكنّها لَم تُكمِل دراستها ولا تُجيد فعل شيء بالتحديد، وكان مِن الواضح أنّ ذلك كان كافيًا لعريسها. لكنّني لاحظتُ شيئًا غريبًا، فزين لَم ينظر إلى أختي إلا عندما دخَلَ البيت وتعرّفَ عليها، لكن بعد ذلك، ركَّزَ نظره ووجَّهَ حديثه لي ولأهلي. ردَدتُ الأمر إلى خجَل لدَيه وعدَم ارتياحه لكونه موجودًا في دار عروس المُستقبل لأوّل مرّة. أعطى أبي برَكته لزين شرط أن يبقى في البلَد الوقت اللازم لنسأل عنه جيّدًا ولتتعرّف عليه نوال أكثر. فالعريس كان على عجلة مِن أمره، إذ أنّه ترَكَ وراءه أعماله الكثيرة. لكنّه قبِلَ شرط أبي فبدأ يُواعدُ أختي بشكل شِبه يوميّ ورافقتُهما في كلّ مرّة، فلَم يكن مِن الجائز أن يلتقيا لوحدهما. وأيضًا لاحظتُ عدَم اكتراث زين بنوال، بل أنّه بقيَ يجلسُ بعيدًا عنها ويفعلُ جهده ألا يلمسَ ولو يدَها، بالرغم مِن أنّ حديثه لها كان يدلّ على اهتمامه بها. غريب أمره... ربّما هو مُهذّب لِدرجة كبيرة ويخشى أن تُفسّر حركاته خطأً؟ سافَرَ العريس بعد أن تمَّت خطوبته نوال، على أن يعودَ بعد ستّة أشهر ليتمّ عقد القران. وفي تلك الأثناء هما بقيا على تواصل يوميّ. مِن الواضح أنّ أختي كانت قد بدأت تحبّه، لكنّ شعوره نحوها بقيَ غامضًا بالنسبة لي. ثمّ وصلَت نوال مبالغ مِن المال بانتظام لتشتري لنفسها جهازها وكلّ ما تشاء، ونِلتُ نصيبي مِن المُشتريات عندما رافقتُها لتتسوّق. في كلمة، كان ذلك الزوج المُرتقَب ما تتمنّاه كلّ فتاة.

التقصّي الذي قامَ به أبونا عن زين كان إيجابيًّا، فعائلته في البلد هي مُحترمة ولا شائبة عليها، أمّا بالنسبة لوضعه في الخارج، فكان على ما يبدو بالفعل رجُل أعمال ناجِح. لكن لماذا شعرتُ بالقلَق حيال زين، أم أنّني غِرتُ مِن أختي ففتّشتُ عن أيّ دليل لخطَب ما؟

إقترَب موعَد عودة زين إلى البلَد، وكانت نوال جاهزة لتتزوّج وعواطفها لخطيبها في أوَجّها. لكن في إحدى الأمسيات طلبَت أختي أن تُكلّمني على انفراد:

 

ـ أُريدُكِ أن تُرافقيني حين أُسافِر.

 

ـ ماذا؟!؟ لِما لَم تُثيري الموضوع مِن قَبل؟ فلدَيّ عمَلي ولقد أخذتُ كلّ فرَصي السنويّة. على كلّ الأحوال، أحتاج لتأشيرة سفَر إلى هناك.

 

ـ هذه ليست مُشكلة، فلَن أُرافِق زين فورًا بعد الزفاف، بل هو بحاجة إلى بعض الوقت لتجهيز أوراقي. ستتمكّنين مِن تدبير أموركِ في تلك الأثناء. إسمَعي، أنا خائفة مِن الذهاب لوحدي إلى بلَد بعيد وكبير، حيث لا أعرفُ سوى رجُل لا أعرِفه جيّدًا! تعالي معي إلى حين أعتاد قليلاً على بيتي الجديد، أرجوكِ!

 

لَم أستطِع الرفض، فوضعتُ نفسي مكانها ورأيتُ أنّ لنوال الحقّ بالشعور بالخوف والوحدة. لِذا بدأتُ أحضّرُ كلّ ما يلزم لمُرافقتها يوم تُسافِر إلى زوجها.

عادَ زين وكما في المرّة السابقة، جلَبَ معه الهدايا الثمينة لجميعنا والحلى الأخّاذة لخطيبته. راقبتُه جيّدًا لأرى إن كان سيعيرُ أختي أخيرًا بعض الاهتمام، لكنّه تصرّف تمامًا كما في السابق وبالكاد نظَرَ إليها. وقعتُ في حيرة من أمري، فأطلعتُ أخيرًا والدتي على ما يُزعِجُني إلا أنّها ضحِكَت عاليًا قائلة:

 

- الرجُل خجول وحسّاس يا إبنتي، وهو يعرفُ أنّ لدَيه العُمر كلّه ليكون مع نوال ويراها كلّ يوم.

 

لَم يُقنِعني تفسير أمّي إلا أنّني قرّرتُ عدَم ذكر الموضوع بعد ذلك، فعلى ما يبدو كنتُ الوحيدة المُنزعِجة مِن الأمر.

وفي أحَد الأيّام، إلتقَيتُ بأمّ كامل صدفةً في الشارع، فركضَت إليّ وقبّلَتني بحرارة. ضحكتُ لهذا الكمّ مِن الحماس تجاهي، وابتسمَت لي العجوز سائلةً إن كنتُ سعيدة، بعد أن وبّخَتني على عدَم الالتفات لها حين هي نادَتني مِن الجانب الآخَر مِن الشارع. فأجبتُها أنّني دائمًا سعيدة، واعتذرتُ منها قائلة إنّني لَم أنتبِه لِمُناداتها لأنّ رأسي مُنشغِل بأمور مُتعلّقة بالعمَل. غابَت المرأة عن نظري حين أكملَت طريقها، لكنّني شعرتُ أنّ هناك شيئًا تُريدُ ان تقوله لي. هل هي بصدَد البحث عن عريس لي؟ للحقيقة، لَم أكن مُتأكّدة مِن أنّني أريدُ بالفعل عريسًا مِن خلال أمّ كامِل، بل فضّلتُ أن ألتقي برجُل حياتي صدفةً، وأن نقَعَ في حبّ بعضنا مِن دون وسيط. لكن مَن يدري ما يُخبّئ لي القدر؟ لَم أكن جميلة مثل نوال، إلا أنّني كنتُ أكثر حنكة وذكاء ومعرفة، لكن على ما يبدو صارَ الرجال يُفضّلون الشكل على المضمون.

تمَّ عقد القران وعادَ العريس إلى الخارج، بعد حفل الزفاف الضخم الذي أقامَه والذي ضمّ عددًا لا يُحصى مِن المدعوّين. كان والدانا فخورَين كثيرًا بأنّ ابنتهما قد وجدَت عريسًا بهذا الكمّ مِن الكرَم والنجاح، وبقيَ عليهما إيجاد عريس لي. لكنّني كنتُ أعلَم أنّ ما حصَلَ لنوال كان نتيجة الحظّ وتدخّل أمّ كامل، وأنّ عريس كهذا لن يأتي إلى بيتنا مرّة أخرى.

مرَّ الوقت وجهزَت أوراق نوال، وحصلتُ على فيزا سياحيّة طويلة الأمَد، فحضّرنا حقائبنا وودّعنا والدَينا اللذَين بكيا كثيرًا. ثمّ جعلَتني أمّي أعِدُها بأن أعودَ إليها وألا أتزوّج مِن أمريكيّ هناك! ضحكتُ وأكّدتُ لها أنّ زوجي المُستقبليّ سيكون إبن بلَدنا الحبيب.

مسكنُ أختي الجديد في أمريكا كان جميلاً للغاية، ومُحاطًا بحديقة رائعة تتوسّطها بركة سباحة كبيرة جدًّا. كانت هناك أيضًا إمرأة مُخصّصة للأعمال المنزليّة وأخرى للطهو، فهنأتُ نوال على هكذا حظّ. مرّة أخرى شعرتُ ببعض الغيرة، لكن سرعان ما طردتُ ذلك الشعور مِن رأسي، فزين لَم يكن ولن يكون أبدًا الرجُل الذي أختارُه زوجًا لي. لا، كنتُ أريدُ لنفسي شخصًا مثلي، عاديًّا وحقيقيًّا يملكُ أفكارًا كأفكاري ويرى الحياة كما أراها.

قضَيتُ مع أختي وزوجها أيّامًا جميلة، وأعترفُ أنّني بدأتُ أرى صهري بصورة مُختلفة، فهو بدا لي أكثر ارتياحًا وكلامًا، ربّما لأنّه كان في منزله وفي البلَد الذي سكنَه منذ سنوات لا تُحصى. نوال كانت هي الأخرى مُرتاحة أكثر لزوجها، فاطمأنّ بالي عليها وشكرتُها على فكرتها بأن أرافقها. لكنّ زين قال:

 

ـ إنّها فكرتي، فنوال لَم تدرِك كَم سيكون الأمر صعبًا عليها لوحدها في الغربة.

 

ـ إذًا أشكرُكَ يا صهري، فأنا أستطيع الآن العودة وبالي مُرتاح.

 

ـ لن تعودي! عليكِ البقاء هنا، فقد تكون نوال حامِل.

 

ـ ماذا؟ يا إلهي، ما هذا الخبَر السار!

 

ـ لسنا أكيدَين بعد.

 

ـ لكن عليّ العودة إلى عمَلي وإلا طردوني! لا، لا أستطيع البقاء.

 

ـ خذي سنة إجازة ... سأدفعُها لكِ. نوال بحاجة إليكِ هنا، اليس كذلك يا نوال؟

 

لَم تُجِب أختي بل هزَّت برأسها، فنظرتُ إليها باندهاش. في المساء نفسه، سألتُها عن الذي يجري، أي مسألة الحمَل وبقائي معها. وهي أجابَت:

 

ـ زين يعرفُ ما يجبُ فعله... للحقيقة لا أدري إن كنتُ حامِلاً... زين قال إنّه يشعرُ بأنّني حامِل... وزين يُريدُ ألا أبقى لوحدي بل أن تمكثي هنا إلى حين أولِد.

 

ـ إلى حين تلِدي؟ كيف إن لَم تكوني حامِلًا؟!؟ ما الذي يجري يا نوال؟

 

ـ لا تفتعلي المشاكل يا أختي، خذي سنة إجازة مِن عملكِ، إبقي هنا فلدَينا كلّ ما نحتاجُ إليه.

 

ـ أحبّ بلَدي واشتقتُ لوالدَينا وأصدقائي وزملائي. إسمعي، إن كنتِ حامِلاً، فقد أفكّر بالأمر. لكن عليكِ أن تتأكّدي مِن الأمر! فهذه أوّل مرّة أسمِع فيها أنّ زوجًا يعرفُ إن كانت زوجته حامِلاً بدلاً عنها!

 

أذاعَت نوال خبَر حَملها على أهلنا والجيرة ومعارفنا، والكلّ ضغطَ عليّ لأبقى إلى جانب أختي حتّى تلِد. وحدي كنتُ أشكّ بالأمر ولقد غضبتُ كثيرًا مِمّا يجري. فشعرتُ أنّني وسط مسرحيّة حيث الكلّ يلعبُ دورًا بإستثائي!

بعد يوم، أخذتُ أختي إلى الصيدليّة واشترَيتُ لها فحصًا للحَمل وأجبرتُها على استعماله. كانت نوال مُتردّدة لكنّها لَم تستطِع الرفض. وكما توقّعتُ، جاءَت النتيجة سلبيّة. عندها بدأتُ أصرخُ عليها لتُخبرَني ما يجري، فقالَت لي باكية:

 

ـ زين لا يُريدُني.

 

ـ ماذا؟!؟ هل أنتِ مُتأكّدة؟ هو قال لكِ ذلك أم أنّه مُجرّد شعور لدَيكِ؟

 

ـ هو قالَ لي إنّه لا يُريدُني.

 

ـ هل لأنّكِ لستِ حامِلاً؟ أنتِ عروس جديدة و...

 

ـ ليس هذا السبب. زين يُريدُكِ أنتِ.

 

ـ أنا؟!؟ النَذل! الفاسِق! سأريه! أين هو؟!؟

 

ـ إهدَئي... فلقد حصَلَ خطأ منذ البدء... الحق يقَع على أمّ كامِل... فهي بعثَته إلى دارنا مِن أجلكِ لكنّها أخطأت بالإسم... قالَت لنا وله نوال بدلاً مِن منال. وحين هو جاء إلينا، أُعجِبَ بكِ فتعجَّبَ كيف لأمّ كامِل أن تختار له عروسًا لا تُناسبه، بالرغم مِن سمعتها ومعرفتها العميقة باختيار الثنائيّ المُناسِب. بعد ذلك، هو قصَدها وفهِمَت المرأة ما حصَل، لكنّها أقنعَته بالا رجوع عن خطوَته تجاهي ووعدَته بأنّه سيُحبّني بعد فترة وسنكون زوجَين مُتناسقَين بالفعل. إلا أنّه بقيَ مُعجبًا بكِ بالرغم مِن مُحاولاته التأقلم معي. ومع مرور الوقت لَم يعُد قادرًا على التراجع بسبب سمُعته وسُمعة أهله. وحين أقنعَني زين باصطحابكِ معي، لَم أكن أعلَم بعد حقيقة مشاعره تجاهكِ، لكن بعد وصولنا إلى هنا، إعترفَ لي بالحقيقة.

 

ـ يا إلهي... أنا آسفة يا حبيبتي... لكن لا دخلَ لي بكلّ هذا!

 

ـ أعلَم، أعلَم.

 

ـ هيّا بنا نعود!

 

ـ بل سنبقى. فلقد عرَضَ عليّ زين أن يتزوّجكِ أيضًا فنكون زوجتَيه.

 

ـ أنتِ مجنونة!

 

ـ فكّري بالأمر يا منال... أنظري إلى حياتنا هنا، فلن نحظى بكلّ هذا في البلَد. زين رجُل صالِح وكريم.

 

ـ لكنّني لا أحبُّه ولا أريدُه!

 

ـ قد تُبدّلين رأيكِ مع الوقت.

 

ـ أنتِ فقدتِ عقلكِ يا أختي. أين كرامتكِ؟!؟ كيف تنوين العَيش مع رجُل لا يُريدُكِ ولا يُحبّكِ؟

 

ـ حياتي جميلة هنا ولا أريدُ العودة.

 

ـ إبقِ إن أردتِ، فأنا راحلة.

 

ـ لا! إن رحلتِ فعليّ الرحيل أيضًا.

 

ـ تُريدين أن أضحّي بنفسي، بحياتي ومُستقبلي، لتعيشي في بيت جميل مُحاطةً بالخدَم؟!؟ هذه أنانيّة كبيرة مِن جانبكِ. أنا أختكِ يا نوال!

 

ـ وأنا أختكِ يا منال!

 

عدتُ إلى البلَد في اليوم التالي مِن دون أن أودّع أحَدًا. لَم أُخبِر والدَينا بما حصَل، فكنتُ آمل أن يتراجَع زين عن قراره لو ابتعَدتُ عنه. لكنّ أختي عادَت هي الأخرى بعد أقلّ مِن شهر. كان زين قد خصّصها بمبلغ كبير مِن المال لإسكاتها، وهي لَم ترَ مانعًا بأن تتطلَّق بعد فترة قصيرة مِن زواجها.

علاقتي بأختي تأثَّرَت كثيرًا بعد ذلك، فصرنا كغريبتَين وشعرتُ أنّها بالفعل لَم تعُد تُحبّني. أنا مُتأكّدة مِن أنّ قراري كان صائبًا لكن كيف أُقنعها بذلك؟ على كلّ الأحوال، سأتركُ البيت قريبًا فلقد تمَّت خطوبتي على أحَد زملائي في العمَل. هو إنسان خلوق وعاقِل وطموح، ويُحبُّني كثيرًا. أرجو فقط أن أسعَد معه وأن أستعيد يومًا حبّ أختي لي.

غريب كيف أنّ أولويّات الناس وكرامتهم وحبّهم لبعضهم تتغيَّر بوجود المال والجاه. فقد كانت أختي مُستعدّة لمُشاركتي زوجها عالِمةً تمام العِلم أنّه لا يُريدِها، فقط لتحتفظ بمكانتها وامتيازاتها. هل كانت بهذه الأخلاق منذ البداية أم أنّها تبدَّلَت لحظة ذاقَت طعم المال؟ مِن المؤسف جدًّا أنّني اكتشفتُ أنّني لَم أكن أعرف على الاطلاق مَن هي أختي بالفعل!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button