يوم خرَجَ عماد زوجي مِن السجن كنتُ أسعَد النساء. فلمِدّة خمس سنوات، إقتصرَت لقاءاتنا على زيارات خاطفة وباردة في غرفة مكتظّة بالزوجات والأمّهات. كنتُ أُحبُّ عماد مِن كلّ قلبي، مع أنّني لَم أوافق يومًا على أفعاله بل عمِلتُ جهدي لإبعاده عنها. وهو خالَ أنّه سيفلتُ في كلّ مرّة مِن شبكة العدالة، وسجنه كان البرهان بأنّه مُخطئ.
كبُرَ إبننا مِن دون أن يعرفَ أباه، إذ أنّه كان في الثانية مِن عمره حين قُبِضَ على أبيه، إلا أنّني بقيتُ أروي له قصصًا حميدة عن رجُل أخطأ ويدفعُ ثمَن أخطائه، وأريه صورًا له كي لا يستغربَ كثيرًا وجوده حين يعود. سمِعَ إبننا طبعًا العديد مِن الإنتقادات مِن قِبَل رفاقه في المدرسة، الأمر الذي خلَقَ في قلبه شعورًا بالعار والنقص تجاههم. أسِفتُ أن يدفَع ولدٌ ثمَن أغلاط رجل ناضج، كان مِن المفروض به أن يكون مثالاً أعلى له، إلا أنّ الحياة لا ترحَم، حتى الصغار.
عائلتي، مِن جهتها، لَم تنفكّ عن تعييري بزوجي طوال مدّة حَبسه، وتذكيري بأنّهم نبّهوني منه حين بقيتُ مُصرّة على الزواج منه. فالجدير بالذكر أنّ سيرته لَم تكن منذ البدء نظيفة. أحبَبتُ عماد لأنّه كان يُحِسنُ مُعاملتي ويُحبُّني كثيرًا. وما كان يفعله خارج البيت لَم ينمّ عن شخصيّته الحقيقيّة، بل عن سوء اختياره لأصحابه وصعوبة حياته حين كان فتىً.
كان عماد سارقاً مُحترفاً، وهو ظنَّ لفترة طويلة أنّ ذلك برهان عن ذكاء فائق وليس عن قلّة أخلاق. فللحقيقة، هو لَم يسرُق سوى كلّ غنيّ وصعب المنال. ولم يستوعِب عماد أنّ السرقة هي فعل مُشين أيّاً كانت الضحيّة.
عادَ زوجي رجلاً مكسورًا وبكيتُ لدى رؤية ما فعلَه السجن به. فهو كان يعملُ جهده لإبراز بسمة عريضة خلال زياراتي له، لطمأنتي بأنّه بألف خير، إلا أنّه لَم يعُد قادرًا على التمثيل بعد عودته إلى البيت. وهكذا سادَت أجواء مُحبِطة تخلّلَتها فترات شجار بينه وبين إبننا الذي وجَدَ صعوبة للإعتياد على وجود "رجل غريب" بيننا.
لَم يجِد عماد عمَلاً لدى خروجه، فكيف لأحد أن يُوظّف سارقًا؟ وكان راتبي يكفي لإثنَين لكن ليس لِثلاثة، وخفتُ أن يُعاود زوجي الإتصال بشركائه القدامى، وهم نفسهم الذين سرق معهم ولَم يُسجنوا لأنّ زوجي لَم يشِ بهم. هو اعتبَرَهم مُدينين له وأنا صلَّيتُ بألا يُنفّذ عمليات معهم. لِذا قلتُ له في إحدى الأمسيات:
ـ ستجدُ عملاً لكن عليكَ أن تصبر.
ـ لن يُعطيني أحدٌ عملاً ولا يسعُني العَيش مِن راتبكِ، فأنا رجل البيت. إضافة إلى ذلك، أنا مُعتاد على حياة سهلة ومُريحة...
ـ إسمَع... أنا لن آكل بعد الآن مِن مال حرام ولن أقبَلَ بأن تعودَ إلى السجن.
ـ مَن قالَ لكِ إنّني سأُسجَن؟
ـ سأكون صريحة معكَ يا عماد... لقد انتظرتُكَ هذه المرّة ولن أُعيد الكرّة. أودّ أنّ أعيشَ كسائر الناس، أي مرفوعة الرأس. فكِّر بإبننا، فالمسكين محطّ سخرية رفاقه طوال الوقت. لا تكن أنانيًّا ولا تبحَث عن الرزق السهل. إن علِمتُ أنّكَ عدتَ إلى السرقة سآخذ ولدنا وأرحَل. هذا هو قراري النهائيّ.
وبعد أشهر طويلة، عرَضَ عليّ عماد أن ننتقِل إلى مدينة جديدة حيث لا يعرفُنا أحد، فقد تتحسّن أحوالنا جميعًا. شرَحَ لي أنّه قد يجدُ هناك عملاً، وأنا أرتاحُ مِن تلميحات الناس وإبننا مِن سخرية رفاقه. رحبّتُ بالفكرة مع أنّني كنتُ سأخسرُ عمَلي، إلا أنّه وعدَني بأنّه سيُعوّض لي عن تلك الخسارة. إتّكَلتُ على الله وترَكنا بيتنا ومُحيطنا لنقلِبَ الصفحة ونبدأ مِن جديد.
لكنّ الحياة في تلك المدينة كانت صعبة، وصرَفنا القليل الذي كنتُ قد وضعتُه جانبًا بسرعة فائقة. وجَدَ عماد أخيرًا عملاً كحارس في مُجمَّع تجاريّ، فقط لأنّ لَم يتكبّد أحدٌ عناء سؤاله أو البحث عن ماضيه. مِن جانبي صرتُ جليسة أطفال لدى عائلة ميسورة، ودخَلَ إبننا مدرسة حيث استطاعَ أخيرًا إعتبار نفسه كأيّ تلميذ آخر. في كلمة، عادَ إليّ الأمل بحياة طبيعيّة بعد كلّ الذي عانَيتُه.
مرَّت الأشهر ثمّ السنة وأخذتُ أُفكّر بالإنجاب مُجدّدًا، الأمر الذي كان مُستحيلاً سابقًا بسبب وجود زوجي في السجن. رحَّبَ عماد بالفكرة ووعدَني بإيجاد عمل آخر يدرّ علينا مالاً أكثر، فمجيء طفل جديد يعني مصروفًا أكبر.
إلا أنّ الصّدَف لعِبَت ضدّ زوجي، فلقد علِمَت إدارة المُجّمَع التجاريّ بأمر حبسه السابق، فاستغنوا عن خدماته وأعلموا باقي التجّار بما اكتشفوه. إنتابَ عماد غضبٌ شديدٌ حيال ذلك الظلم، فهو كان قد دفَعَ ثمَن أخطائه ويحقّ له أن يحظى بفرصة ثانية والعَيش بكرامة. أسفِتُ كثيرًا مِن أجله، فكان مِن الواضح أنّه يغرقُ في الإحباط، فطمأنتُه بأنّ عمَلي يكفينا كلّنا، وكلّ ما عليّ فعله هو تأجيل مسألة الإنجاب. بكى عماد ثمّ نشّفَ دموعه قائلاً: "سأجدُ حلاً، لا تخافي". خفتُ مِن ذلك القرار... ولَم أكن مُخطئة.
فزوجي لَم يقطَع يومًا صلته بشركائه القدامى، أي أصحاب السوء كما كان قد وعدَني أن يفعَل بل خطَّطَ معهم لِسرقة... العائلة التي كنتُ أعمَل لدَيها! لَم يُطلِعني طبعًا على ما يدورُ في رأسه بل صارَ يسألُني أسئلة "بريئة" عن بيت هؤلاء الناس وعاداتهم. هو فعَلَ ذلك بحرَفيّة كبيرة ولَم أنتبِه لشيء على الإطلاق. يا إلهي... كيف له أن يُقرِّر سرقة مَن يؤمِّن لنا لقمة عَيشنا؟ ألن يصطلِح زوجي أبدًا؟!؟
يوم قرَّرَت "عصابة" زوجي السطو على ذلك المنزل، كنتُ هناك مع أولاد أرباب عملي بينما هما يحضران مُناسبة ما. كان الوقت قد قاربَ الثامنة مساءً وهبَطَ الليل منذ أكثر مِن ساعتَين. دخَلَ الأولاد غُرَفهم بينما جلستُ أمام التلفاز لأشاهد برنامجًا فكاهيًّا.
فجأةً سمعتُ صوت زجاج يُكسَر، فرِحتُ أرى ما جرى ظنّاً منّي أنّني نسيتُ أحد الشبابيك مفتوحًا. وإذ بي أرى شخصًا مُقنّعًا واقفًا أمامي وبِيَده عصًا كبيرة فأطلقتُ صرخة عالية. حاوَلَ السارق إسكاتي بوضع يده على فمي إلا أنّني عضَّيتُه بكلّ قوايَّ، فأفلتَني. لكنّ مُقنّعَين آخرَين ظهرا فجأة وسألاه ما الذي يجري، وشعرتُ بألَم شديد في رأسي ثمّ أُغميَ عليّ.
وحين استفقتُ وجدتُ نفسي مُحاطةً بأناس كثيرين مِن بينهم والدَاي الأولاد واستنتجتُ أنّ الآخرين هم مِن الشرطة. كان أحد الأطفال قد اتّصَلَ بأهله بعدما سمِعَ وأخوَته صرختي وتأكّدَ مِن رحيل اللصوص. نقلوني إلى المشفى وأجروا لي فحوصات وصوَراً، واستطعتُ الإتّصال بزوجي الذي أسرَعَ بموافاتي. مكثتُ في المشفى ليلة واحدة ليتأكّدوا مِن أنّني بِخير ثمّ عدتُ إلى البيت. لَم يتركني ربّ عملي بل دفَعَ كلّ التكاليف، وأعطاني مبلغًا مِن المال ليُعوّضَ لي عمّا حصَلَ وكأنّ خسارته لَم تكن كافية. فكان اللصوص قد أخذوا معهم لوحات ثمينة وفضيّات وجميع مجوهرات زوجته وساعاته. وهم لَم ينسوا أخذ بعض المال الموجود في الجوارير، إلا أنّهم لَم يتمكّنوا مِن فتح الخزنة التي كانت مِن طراز حديث. كان يجدرُ بي تشغيل نظام الإنذار، لكنّني أرتبكُ منه خاصّة أنّني لَم أكن أُجالسُ الأولاد ليلاً إلا نادرًا. لَم يُوبّخني أحد بشأن الإنذار، والحمد لله.
حين وصلتُ بيتنا وعانقَني إبني مطوّلاً وبكى، إستطعتُ أخيرًا الجلوس مع زوجي وإخباره بالتفصيل عمّا جرى. عندها فقط لاحظتُ الرباط الذي يلِفُّ يده. سألتُه عمّا جرى لها فأجابَني: "حاولتُ تحضير وجبة العشاء في تلك الليلة لإبننا فجرحتُ يدي بالسكين. لا تخافي، فالجرح ليس بليغًا".
ضحكتُ لفكرة عماد يُحضّر العشاء، إلا أنّ شيئًا في ملامح زوجي وهو يروي لي القصّة لَم يُرِحني، فشعرتُ بأنّه يُخبّئ عنّي أمرًا ما. لِذا رحتُ إلى غرفة إبني وسألتُه ماذا أكَلَ ليلة السطو وهو قال: "لقد فتحتُ علبة فول وحضّرتُها بنفسي، فأبي ترَكَ المنزل بعد مُغادرتكِ بقليل ولَم يعُد إلا بعد ساعات". وتذكّرتُ فجأة العضّة التي سدّدتُها للّصّ الذي وضَعَ يدَه على فمي!
وركضتُ إلى الصالون صارخة في عماد:
ـ أرِني جرحكَ!
ـ لماذا الصريخ؟ قلتُ لكِ إنّني بخير.
ـ وأنا أقولُ لكَ أرني جرحكَ!
نظَرَ زوجي إليّ مطوّلاً ورأيتُ دموعًا في عَينَيه، ثمّ فكَّ الرباط الموجود على يده واستطعتُ رؤية أثَر أسناني في جلده. لَم أتمالَك أعصابي فصفعتُه بقوّة قائلة:
ـ أيّها الفاشل! لقد هدَرت خمس سنوات مِن حياتي وحياة إبنكَ ولَم تتعلّم الدرس!
ـ الذنب ليس ذنبي بل ذنب المُجتمع الذي لَم يغفُر لي.
ـ كان عليكَ المحاولة مُجدّدًا لإيجاد عمَل شريف! أو حتى العَيش مِن دون أكل أو شرب على قيامكِ بسرقة أناس شرفاء وكريمين! إضافة إلى ذلك، فإنّكَ عرّضتَ حياتي للخطَر وحياة هؤلاء الأطفال البريئين!
ـ نبهّتُ شريكَيّ بعَدم لمسكِ أو الأطفال، لكنّكِ بدأتِ بالصراخ فاضطرَّ أحدهما لإسكاتكِ.
ـ وماذا لو كانت الضربة التي تلقّيتُها مُميتة؟ يا إلهي... إنّكَ بالفعل وحش ضارٍ! إسمَع... لا أُريدُكَ في البيت بعد الآن، أخرج وبسرعة! إذهب إلى شركَيكَ وأبقَ معهما! إبني يستحقُّ أبًا أفضل منك. إضافة إلى ذلك، مصيرُكَ هو السجن، إن لَم يكن اليوم فغدًا أو بعد سنة. وهذه المرّة لن أنتظرُكَ!
غادَرَ عماد وبكيتُ كثيرًا لأنّني أملتُ أن يتغلَّبَ الخير الذي فيه على شرّه. تكلّمتُ مُطوّلاً مع إبني وشرحتُ له أنّ الحياة التي يعيشها أبوه لا تُناسبُنا، وشعرتُ أنّه ارتاح لِخبَر رحيله، فالمسكين كان قد عانى مِن سيرته البشعة. حصلتُ على الطلاق بسرعة وتركتُ بيت رَبَّي عمَلي لِكثرة خجَلي منهما.
وجدتُ عملاً في بيت آخر وعلِمتُ أنّ عماد عادَ إلى السجن. هززتُ برأسي وأسِفتُ عليه وعليّ وعلى إبننا.
مِن وقت لآخر أسألُ نفسي إن كان عماد لِيترك حياته كلصّ لو أعطاه المُجتمع فرصة، أم أنّ الرذيلة تجري في دمه؟
حاورتها بولا جهشان