كان المقهى مكتظًّا في ذلك النهار، ولم أجد كرسيًا شاغرًا لأجلس على طاولة صديقاتي. كنّا قد اعتدنا أن نجتمع أسبوعيًا لنحافظ على الرابط الذي وُلِدَ بيننا أيّام الثانويّة. وبالرّغم مِن اختيار كلّ واحدة منّا إختصاصًا جامعيًّا مختلفًا، بقينا ملتحمات كالسّابق.
وبعدما وجَدتُ المقهى مليئًا بالناس، قرّرتُ إلقاء التحيّة على صديقاتي، ومِن ثم الرّحيل، لكنّ شاباً وسيماً أعطاني كرسيّه قائلًا:
ـ تفضّلي آنستي... لقد انتهيتُ مِن تناول قهوتي."
وابتسمَ لي وخرجَ وركبَ في سيّارته السريعة واختفى. وكان قد تركَ وراءه أثرًا ملحوظًا لدَيّ، بسبب لطفه وأناقته ولياقته البدنيّة إذ كان مِن الواضخ أنّه كان يرتاد المراكز الرياضيّة. وضَحِكَت صديقاتي من إعجابي الواضح به، فلم أكفّ عن التكلّم عنه طوال جلستنا.
ومرَّ أسبوع على الحادثة، وإذا بي أرى ذلك الشاب مرّة أخرى في المكان نفسه. وفي تلك المرّة، ذهبتُ إلى طاولته ودعوته للإنضمام إلينا كعربون شكر، ولكن السبب الحقيقيّ كان أنّني لم أنفكّ عن التفكير به. وقَبِلَ وجاء إلى طاولتنا وتعرّفنا إليه أكثر: كان اسمه جلال، وكان في آخر سنة طب ويطمح إلى أن يُكمل اختصاصه ليُصبح جرّاحًا. وزاد إعجابي به بعدما قال إنّ هدفه في الحياة هو إراحة الناس مِن أوجاعهم وإنقاذ حياتهم. أخبرتُه أنّني درستُ الفلسفة وأنّني مدرسّة. وأكملنا حديثنا جميعًا، وتطرّقنا إلى ذكريات أيّام الدراسة وكيف كنّا نقيم أنا وصديقاتي المقالب بأساتذة وزملاء لنا لأنّنا كنّا شقيّات نحاول إضفاء أجواء مرحة في تلك المدرسة الخاصة الصّارمة. وقبل أن نفترق، طلَب جلال رقم هاتفي وسط ضحكات صديقاتي اللواتي رأين فيه عريسًا مناسبًا لي.
واتصل بي جلال في اليوم التالي وكلّ يوم حتى التقينا مجدّدًا. ومِن دقّات قلبي المتسارعة أثناء وجودي معه، علِمتُ أنّني أكثر مِن معجبة به. أخَذَني إلى أماكن فخمة وأمضَينا فترات جميلة جدًّا. ومِن ثمّ طلَبَ أن يتعرّف إلى أهلي، فشعرتُ أنّ العلاقة بدأت تأخذ منحاً رسميًّا وخفتُ مِن تسارع الأمور. ولكنّني لم أجرؤ على عدم استقباله عندنا كي لا يظنّ أنّني أخجل مِن بيتنا أو من عائلتي. صحيح أنّنا لم نكن بِثرائه ولكنّنا كنّا أناسًا مكتفين ومثقّفين.
وأحبَّه الجميع، لأنّه كان الصهر الذي تتمنّاه كلّ عائلة، ونال البركة واستطعنا الخروج براحتنا. ولكنّه لم يأخذني يومًا للتعرّف إلى ذويه ووجدتُ الأمر غريبًا، فسألتُه عن السبب. أجابَني:
ـ يا ليت ذلك ممكنًا... ولكنّني يتيم الأب والأمّ... وولد وحيد... أجل هذه حالتي... ليس لديّ أحد سواكِ، يا حبيبتي... ربَّتني جدّتي ومِن ثمّ ذهبَت إلى دنيا الحق هي الأخرى... وبِفضل الميراث الضخم الذي حصلتُ عليه مِن والِدَيّ، ذهبتُ لأدرس الطبّ في الخارج وعدتُ للتوّ لأرى إن كان باستطاعتي العيش في بلدي وإكمال اختصاصي هنا... وحتى مؤخّرًا كنتُ قد نوَيتُ العودة إلى الخارج، لأنّني لم أرَ سببًا للمكوث هنا... أمّا الآن فقد أصبح لي حبيبة وقريبًا خطيبة وزوجة."
وابتسمتُ واحمرّ وجهي لكثرة سروري عند سماعه يتكلّم عنّي هكذا، ووعدتُه بأنّه لن يندم على قراره بالبقاء وأنّني سأفعل المستحيل للتعويض له عن نقصه الحنان والدّفء.
وبعد حوالي شهر على زيارته لأهلي، دعاني جلال إلى شقّته، وكانت أوّل مرّة يدعوني فيها إلى هناك لأنّه لم يكن يُريد أن يُلطّخ سمعتي. ولكن بعد أن أصبحَت علاقتنا شبه رسميّة، رأى أنّ لا عيب في أن يستقبلني في مسكنه. وأنا أيضًا لم أرَ أيّ مانع في ذلك. بالعكس، كنتُ متشوقّة لرؤية المكان الذي كان حبيبي يعيش فيه. وأعجَبَتني طبعًا الشقّة لأنّها كانت مفروشة بذوق. وبينما كنتُ أتفرّج على الأثاث الجميل، قال لي:
ـ لن نسكن هنا... سآخذ لنا مكانًا أجمل بكثير."
وكان جلال قد حضّر لي عشاءً طهاه بنفسه، وجلسنا إلى مائدة مزيّنة بِذوق، عليها شموعٌ مضاءة وعلبة صغيرة موضوعة قرب طبقي. وركَعَ على ركبته وأمسَكَ يدي وقال:
ـ هل تقبَلين بي زوجًا لكِ؟"
ولكثرة فرحتي، شعرتُ وكأنّ الغرفة تدور بي. كنتُ أعيش لحظة رأيتُها مرارًا في الأفلام وقرأتُ عنها في الكتب. وأسرَعتُ طبعًا بالقبول وتعانقنا مطوّلاً. وبعد أن أنهَينا عشاءنا اللذيذ، أخَذَني جلال بيدي وقادَني إلى غرفة النوم. وقَفتُ عند الباب وسألتُه عمّا يفعل. فقال:
ـ أحبّكِ... وأريد أن أعيش حبّنا فعليًّا... ستصبحين زوجتي قريبًا ولقد قبلتِ خاتمي الليلة... ممّا تخافين؟
ـ لستُ خائفة على الأقل ليس منكَ، ولكن لا يجوز...
ـ ما الذي لا يجوز؟ أقول لكِ إنّني متيمّ بكِ وأنوي الزواج بكِ اليوم قبل الغد... أرى أنّكِ لا تثقين بي كفاية.
ـ لا! بالعكس!
ـ تعالي إذًا!
ودخلتُ معه غرفة النوم وجلستُ على حافة السرير وقلبي يدقّ بسرعة فائقة. وحين بدأتُ بخلع ثيابي، ضحِكَ جلال عاليًا. نظرتُ اليه باندهاش فلم تكن ضحكته بمكانها. وامتلأت عينايَ بالدموع عندما رأيتُ نظرة جلال التهكميّة. وقال لي:
ـ ألم تتعرّفي إليّ يا ريما؟
ـ ما تقصد؟
ـ أنظري إليّ بتمعّن... ألم ترَي هذه الملامح مِن قبل؟
ـ لا... لم أرَك قبل ذلك اليوم في المقهى.
ـ أتذكرين مازن؟
ـ مَن؟
ـ مازن... ذلك التلميذ الخجول الذي تحمّلَ تعديّاتكِ أنتِ وصديقاتكِ؟ لقد دمّرتِ حياتي!
ـ كيف؟ لا أذكر شيئًا مِن الذي تتكلّم عنه!
ـ بلى... لم تفوّتي فرصة للسخرية منّي... كنتُ بدينًا وكان وجهي مغطًّى بالبثور كما يحدث غالبًا للمراهقين... ولكنّكِ لم ترحَميني وحمَلتِ التلامذة على مضايقتي... لم أفعل شيئًا لأستحق هكذا معاملة... كلّ ما كنتُ أريده آنذاك هو أن أنتمي إلى الصفّ وإلى رفاقي وأدرس... وبسببكِ، غصتُ في كآبة لم يستطع حتى الطبيب النفسي الذي أخَذَني إليه والدَيّ إخراجي منها... ألَم تلاحظي يا آنسة أنّني تركتُ المدرسة قبل انتهاء السنة؟
ـ للحقيقة لا...
ـ إنتقلتُ إلى مدرسة لم أحبّها ولكن هل كان لدَيّ خيار آخر؟ ومع الوقت، إستطعتُ تخطّي ما حصل لي. خاصّة بعدما اختفَت البثور مِن وجهي وبعد أن بدأتُ أمارس الرياضة. ولكن بقيَت في قلبي رغبة في الإنتقام، ولم أحلم بأن ألتقي بكِ لأشبع تلك الرغبة...إلا أنّ القدر جمعَنا مِن جديد، وها أنتِ شبه عارية على سريري وأستطيع القول إنّكِ تبدين مزرية."
وانهالَت الدّموع على خدَّي لكثرة خجلي واستنكاري، لأنّني قد نسيتُ فعلًا ما فعلناه به. وأقسم أنّنا لم نتصوّر أنّ تصرّفاتنا ستؤذيه إلى ذلك الحد. وصرختُ في وجهه:
ـ أنا آسفة! جدّ آسفة! كنتُ صغيرة ولم أكن أعي ما أفعله... ولكنّني أصبحتُ شخصًا آخرًا... نعم، لقد أحببتُكَ مِن كلّ قلبي.
ـ تحبّين مظهري ورشاقتي ووجهي النضر ومالي... ولكن في الداخل أنا مازن الذي لم تعيريه أيّة أهميّة ولم تحبّيه يومًا... أخرجي مِن شقّتي... واحمدّي ربّكِ أنّني ذو أخلاق عالية ولم أستفِد مِن الوضع... كان بإمكاني استغلال الموقف ومِن ثمّ رميكِ... هيّا اخرجي... ولا أريد رؤيتكِ مجدّدًا!"
خرجتُ بسرعة مِن شقّته ومِن حياته لأختبئ عن الأنظار لِشدّة خجلي مِن نفسي.
عشتُ وهمًا كان في الحقيقة درسًا لن أنساه طوال حياتي. وأخذتُ أفكرّ بكلّ هؤلاء المساكين الذين يقعون ضحيّة المتنمرّين وتتغيّر حياتهم أو تتأثّر بشكل جذري. هل نعي فعلًا ما نفعله بالآخرين، وهل تعطينا المراهقة عذرًا لتصرفّاتنا أم أنّ للمربى حصّة كبيرة في علاقتنا بالآخرين؟
حاورتها بولا جهشان