كيف لي أن أعلم أنّ ذلك الشاب المهذّب واللطيف الذي دخَلَ حياتي آنذاك، كان سيتحوّل إلى أبشع مخلوق عَرَفتُه؟ فلقد مثَّلَ عليَّ دور الملاك طوال مواعدتنا، منتظرًا اللحظة التي سأحمل اسمه ليُريني وجهه الحقيقي.
كان رجا متسلّطًا واستملاكيًّا يسمح لنفسه ما يمنعَه على غيره. إضافة إلى ذلك، كان زوجي يتعاطى الممنوعات خفية في البدء، ومِن ثمّ أمام عَينَيَّ. وعندما اكتشَفتُ حقيقته، صمَّمتُ على تركه ولكنّه استدركَ الأمر بجعلي حاملاً إذ كان يعلم كم أحبّ الأطفال وأنّني مستعدّة لتحمّل أيّ شيء مِن أجلهم.
وكشأن معظم النساء، حسِبتُ طبعًا أنّ مجيء ولد سيُلطّف طبعه، ولكنّ رجا كان يكره كلّ ما ومَن يُعيق طريقه ويمنعَه مِن العيش كما يحلو له. أرادَ ولدًا ليُبقيني معه وليُلهيني به، بينما يذهب إلى رفاق السّوء والمومسات. هذا كان جوّه منذ زمَن بعيد، ولو أخَذتُ العناء بالسؤال عنه لقال لي كلّ مَن عرفَه أن أبتعد عنه قدر المستطاع. ولكنّني اعتبَرتُ نفسي ناضجة كفاية لمعرفة الناس وما يختبئ بنفوسهم، وكنتُ مخطئة فأشباه زوجي هم أكثر دهاء مِن أن يقترفوا الأخطاء مع أشخاص مثلي.
موقف أهلي مِن زيجتي الفاشلة كان واضحًا: أنا أرَدتُه فعليَّ تحمّل نتيجة خياري، وهم لم يكونوا مستعدّين لاستقبال ابنة مطلّقة مع طفلها، فماذا سيقول الناس عنّا؟ وكان مِن الأفضل لهم أن أبقى حيث أنا وما أنا عليه لباقي حياتي. عندها أدرَكتُ أنّني وحيدة في مصيبتي وأنّ عليّ تحمّل كلّ ما يفعله زوجي بي.
أصبَحَ ابني يوسف سلوَتي الوحيدة ورجائي بالحياة، ومِن أجله تحمَّلتُ الاهانات والخيانات وليالي الوحدة.
والذي لم أكن أعرفه هو أنّ رجا كان أيضًا يُتاجر بالممنوعات إلى جانب تعاطيها، وأنّ الشرطة تتربّص به غير قادرة على القبض عليه مِن دون أدلّة قاطعة، فكما قلتُ سابقًا كان زوجي ذكيًّا جدًّا ويعرف كيف يتفادى شباك العدالة.
كبُرَ ابننا في جوّ مِن الشجارات المستمرّة، ومِن ثمّ شاهدَني وأنا أُضرَب وأُهان، والأفظع مِن ذلك أنّه باتَ يكرهني بسبب ما كان يقوله له أبوه عنّي، حتى باتَ لدَيَّ عدوّان في البيت بعدما أوكلَه رجا بمراقبتي وإخباره بتحرّكاتي؟ أيّ تحرّكات؟ فأنا كنتُ ألازم البيت ولا أختلط بأحد خوفاً أن يُلاحظ الناس كدماتي أو يقومون بزيارتي فيرَون كيف أعيش.
صليت كثيرًا طوال سنين ليُفرج الله عنّي مِن ذلك السّجن الأبديّ، لأنّني كنتُ واثقة مِن أنّ رجا لن يدَعني أرحَل. لماذا هذا الاصرار إذاً عليّ بالرّغم مِن أنّه كان يُعاملني بوحشيّة ويخونني دائماً؟ لأنّني كنتُ "ملكه" ولن يرضى أن أعيشَ سعيدة أو بعيدة عنه لثانية واحدة. ولأنّ الخالق يرى ويسمع كلّ ما يحصل لنا ولا يسمَح بالغبن والظلم، جاءَني الفرج، أو على الأقل بدايته، مِن خلال أقرَب انسانة لرجا: أخته.
لا تسيئوا فهمي، فتلك المرأة لم تكن تحبّني ولم تفعل شيئًا خلال زواجي لمَنع أخيها مِن أذيّتي، لأنّها هي الأخرى كانت تخاف منه. وما حصَلَ كان أكثر نتيجة سوء تصرّف منها ومنه.
كانت تلك المرأة تعيش في منطقة بعيدة عن المدينة، وتنتظر حوالة ماليّة بالعملة الصعبة تريد قبضها بالرّغم مِن منع الدولة التدوال بالدولارات. لِذا طلبَت مِن أخيها القيام بذلك بعدما وعَدَته باعطائه عمولة، فالجدير بالذكر أنّ رجا لم يكن يفعل شيئًا مجّانًا.
وعندما قبضَ زوجي الحوالة تمّ القبض عليه، لأنّه كان مراقبًا وكانت تلك الفرصة المناسبة التي تنتظرها الشرطة. ورموه وراء القضبان بعدما حكموا عليه بأعوام عديدة.
واستَطعتُ أخيرًا تنفّس الصعداء، وأسرَعتُ للاتصال بمحامٍ لبدء معاملات الطلاق الذي كان سيُعطى لي بسهولة نظرًا للحكم الصادر بحق زوجي.
أخَذتُ ابني وقصَدتُ أهلي الذين لم يتمكّنوا مِن أغلاق بابهم بوجهي، بعدما أصبَحتُ أكثر نضوجًا وتصميمًا وصرتُ أعرف كيف أفرض نفسي.
وهناك، وسط مناخ عائليّ سليم وبعيدًا عن تأثير رجا السيّئ، استطَعتُ استعادة حبّ ابني لي.
مرَّت السنوات، وللحقيقة نسيتُ أمر زوجي السّابق... ولكنّه لم ينسَني. كان قد قضى عقوبته وفي عقله شيء واحد: الانتقام منّي لأنّني استطَعتُ الافلات منه ومِن أخته، لأنّها ولو بطريقة غير مباشرة كانت السّبب بسجنه وحصولي على حريّتي.
وأوّل شيء فعَله رجا عند خروجه مِن السجن كان استدراج أخته للانتقام منها وبأبشع الطرق.
إتصَلَ رجا باخته زاعمًا أنّ أمّهما تُحتضَر وأنّ عليها المجيء لرؤيتها في الحال. ولحسن حظّها جاءت وقد اصطَحبَت معها أحد أبناء الجيران، وهو شاب قويّ البنية عَرَضَ نفسه لايصالها إلى المدينة. وعند وصولها المنزل الأبويّ، كان رجا مختبئًا وراء الباب وسكين كبير بيدَه بغَرَض قتلها. ودارَ نقاش حاد بينهما استطاعَت مِن خلاله تلك المسكينة الهرب إلى الخارج والاحتماء بإبن الجيران الذي كان ينتظرها في سيّارته، والذي ركَضَ لانقاذها مِن أخيها الذي تبعها والسّكين بيده. وعندما رأى رجا ذلك الشاب، فضَّل التراجع لأنّه كان جبانًا ككلّ الرجال الذين يؤذون النساء.
لم تعد أخته مباشرة إلى القرية، بل قصَدَت بيت أهلي حيث طلَبَت رؤيتي والتكلّم معي. إستغربتُ الأمر لأنّها كما ذكَرت لم تكن تحبّني، وخفتُ أن تكون آتية لتؤذيني. ولكنّها قالَت لي:
ـ سامحيني لأنّني وقَفتُ متفرّجة أمام الذي كان يفعله أخي بكِ... أنا امرأة مثلكِ وكان عليّ مساندة بنت جنسي ضدّ وحشيّة الرّجال... أسكن بعيدًا وفضَّلتُ غضّ النظر إلى حين رأيتُ حقيقة أخي... كنتُ أعلم أنّه عنيف ولكنّني لم أكن أعرف أنّه مجرم... أجل مجرم فقد حاوَلَ مِن أقلّ مِن ساعة قتلي، أنا أخته! جئتُ فورًا إليكِ ليس فقط لأعتذر منك بل لأحذّركِ منه... رجا ينوي قتلكِ، وأنا متأكّدة مِن أنّه سيُنفّذ ما في رأسه لأنّه مجنون! مجنون! ولن يرتاح قبل أن يُريق دمكِ يا مسكينة! أهربي! إذهبي إلى حيث لا وصول له إليكِ!
صدَّقتُها لأنّني كنتُ أعرف أكثر مِن أيّ أحد مدى بشاعة نفس الذي تزوّجتُه. لم أكن على علم بأنّه خَرَجَ مِن الحبس وإلا أخذتُ حذَري منه. وبعد أن أخبَرتني أخته بما حاول فعله بها، كنتُ متأكّدة مِن أنّه لن يتردّد عن فعل ما هو أفظَع بي.
وفور رحيل الأخت بدأتُ بحزم أمتعتنا. وبعد أن ودَّعتُ أهلي، أخَذتُ سيّارة أجرة وقصَدتُ مع ابني أقارب لنا قرب الحدود. هناك استرَحنا قليلاً وسَرَدتُ على أقاربي ما حصل، طالبة منهم ايجاد طريقة سريعة لنقطع إلى الجهّة المقابلة. أعطوني بعض المال وعنوان أصدقاء لهم، ودبّروا لي مَن يعرف كيف يوصلنا إلى برّ الأمان.
كنتُ في حالة يُرثى لها خوفاً مِن أن يظهر رجا أمامنا ويقتلني أنا وابني، ولكنّه لم يتصوّر أبدًا أن تحذّرني أخته منه بل اعتقَدَ أنّها هَرَبَت بسرعة إلى قريتها.
عبَرنا الحدود ليلاً بعد أن قطعنا ودياناً وجبالاً وطرقاً وعِرة. لم أشعر بالتعب لأنّني كنتُ خائفة، وعندما وصَلنا أخيرًا إلى العنوان المقصود، بالكاد ألقَيتُ التحيّة على أصحاب البيت ثمّ انهَرتُ على الكنبة وغرِقتُ في نوم لم أستفِق منه إلا بعد ساعات طويلة.
مكَثنا عند هؤلاء الناس الطيّبين، إلى أن وجدوا لي عملاً أتاحَ لي الانتقال إلى غرفة صغيرة استأجرتها بعدما بعتُ خاتم الزواج وعقدًا مِن الذهب.
مضى اليوم على قصّتي سنَتَان، إستعَدنا خلالهما أنا وابني نوعًا مِن الاستقرار النفسيّ والماديّ، ولكنّني أعلم أنّنا لن نكون بأمان طالما رجا على قَيد الحياة، فأمثاله لا يرتدّون ولا ينسون ولا يردعهم إلا الموت!
حاورتها بولا جهشان