يكفي أنني أتذكرها

الحنان والاهتمام بالأهل ليسا حكرًا على النساء، ولم أرَ يومًا سببًا لعدم الوقوف إلى جانب اللذَين جلباني إلى الحياة وضحّيا حتى أكبر وأتعلّم، وكوني الولَد الوحيد بين بنتَين، لم يجعل منّي إنسانًا مدلّعًا أمارس ذكوريّتي على مَن حولي. هكذا تربَّيتُ، أي على يد أفضل أم وأب، وهكذا ربَّيتُ وأربّي أولادي.

رحَلَ أبي أوّلاً بسبب مرض عضال، وبقَيت أمّي مع أختَيَّ بعد أن تزوّجتُ وعشتُ في منطقة ليست بعيدة عنهنّ. إختَرتُ مسكني عن قصد لأنّني لم أقبل أن أفعل مثل الذين يبتعدون عن ذويهم فور زواجهم وينسونهم لمصلحة عائلتهم، فأمّي وأختَيَّ هنّ عائلتي الأولى، وما بيننا مِن ذكريات وتجارب لن تمحوه أيّة امرأة أو حتى الأولاد الذين سأنجبهم.

وجاءَ دور أختي الكبرى لتتزوّج، ومِن ثمّ لحقَتها الصغرى ولكنّهما سكنا في الخارج وبقيَت والدتي لوحدها. حاولتُ إقناعها بالعيش معي ومع زوجتي نرمين وأولادي، ولكنّها رفضَت كي لا تفرض وجودها علينا. لِذا صِرتُ أزورها يوميًّا، أجلب لها حاجاتها وأجلس معها نتحدّث ونضحك سويًّا، وبالطبع كانت تتواجد معنا في الأعياد والمناسبات كلّها.

علاقة زوجتي بأمّي كانت عاديّة، أي أنّها كانت تستلطفها ولكن ليس أكثر مِن ذلك، بالرّغم مِن محاولات أمّي التقرّب منها، ولكنّني لم أكن قادرًا على فرض حبّ أمّي على نرمين، وكان ذلك أفضل مِن أن يكون هناك كره بينهما كما يحصل في الكثير مِن الأحيان.

لم يكن باستطاعتي جلب خادمة لوالدتي بسبب مصاريفي العديدة، بعد أن أصبَحَ لدَيَّ ثلاثة أولاد، ولكنّني دبَّرتُ لها موظّفة تنظيفات تأتي مرّة في الأسبوع وأحيانًا أكثر بحسب الحاجة.

مرَّت السنوات بهدوء إلى حين بدأتُ ألاحظ على أمّي أنّها تنسى بعض الأمور، مثل أماكن أغراض المطبخ أو أين وضَعَت مفتاحها أو محفظتها. كنّا نضحك للأمر، فلم تكن والدتي شابّة وعقل الانسان يتعب مع العمر.

ولكن سرعان ما كنتُ أضطر لإعادة جملتي عليها لأنّها كانت تنساها فور انتهائي منها. ردَدتُ الأمر إلى وحدتها، فكرَّرتُ دعوتي لها للعَيش في منزلي إلا أنّها رفضَت ذلك مجدّدًا قائلة: "لا... فأنا لا أرتاح سوى في بيتي، هكذا هنّ العجوزات". وضحِكَت وقبّلتُها بعدما أجبتُها: "لستِ عجوزًا يا أمّي، بل أكثر شبابًا مِن الكثير مِن الشابّات". لم أكن أجاملها، فقد كانت والدتي حقًّا تتمتّع بروح الصّبا الدّائم ولم أرَها يومًا عابسة، ولم أسمَعها تتذمّر بل كانت دائمة الابتسامة وتدعو للجميع بالخير وتشكر ربّها على نعمه.

أخبَرتُ نرمين عن قلَقي مِن نسيان أمّي لبعض الأمور، فطمأنَتني قائلة إنّ والدتها تنسى أيضًا وإنّ ذلك أمر طبيعيّ، ولكنّني قرَّرتُ مراقبة والدتي عن كثب وبدأتُ أبقى عندها وقتًا أطولاً.

 


وأضاعَت أمّي خاتمها المفضّل، وبالرّغم مِن أنّها لم تقل ذلك بوضوح، شعَرَتُ أنّها تقصد العاملة حين قالَت: "أنا لا أضيّع شيئًا ولستُ خرِفة بعد". لِذا انتظَرتُ موعد مجيء تلك المرأة لأسألها بحزم عن الخاتم على أمل أن تعترف بجرمها وتعيده لنا. ولكنّ المسكينة بدأَت بالبكاء وأقسَمت بالله أنّها بريئة. لا أدري لماذا ولكنّني صدّقتُها واعتذَرتُ لها بحرارة، وأخَذتُ على عاتقي التفتيش عن الخاتم المذكور في بيت أمّي. ووجدتُه أخيرًا في مكان غريب عجيب: في الثلاجة داخل كيس لحفظ الأطعمة. لم أقل لوالدتي أين كان كي لا أحزنها على نفسها، بل قلتُ إنّه كان واقعًا بين وسادات كنبة الصالون. ومِن بعد تلك الحادثة أصبح شغلي الشاغل مراقبة تصرّفات والدتي لأخذها عند طبيب مختصّ، فمِن الواضح أنّها كانت قد بدأَت تنسى أمورًا بغاية الأهميّة.

وحين بدأ مزاج والدتي بالتغيّر، عَرَضتُ عليها أن نزور أخصّائيًّا ولكنّ ردّة فعلها كانت عنيفة جدًّا، وبدأَت المسكينة بالصّراخ تارة والبكاء تارة أخرى:

 

ـ تقول إنّني مجنونة؟!؟ تريد التخلّص منّي يا إبني!؟َ! ماذا فعلتُ لكَ لأستحقّ ذلك؟ لا أتدخّل بشؤونكَ الخاصّة ولا أطلب منكَ شيئًا! هل هذا ما أجنيه مِن السّنين التي قضيتُها أربّيكَ وأهتمّ بسعادتكَ؟


وأمامَ ذلك الكلام، لم أستطع الاجابة واكتفَيتُ بتقبيلها وطلَب السماح منها. نرمين لم تكن مِن رأيي، أي أنّها نصحَتني بأخذ أمّي بالقوّة إلى الطبيب لا بل إلى مشفى الأمراض العقليّة، واستغرَبتُ كثيرًا كلامها وخاصّة ملامحها التي تغيّرَت فجأة وأصبحَت قاسية، وكأنّها تريد الانتقام مِن والدتي على شيء لم تفعله. لماذا كلّ ذلك الحقد؟ لم يكن لدَيَّ جواب.

مرَّت الأشهر ومِن ثمّ السنة، ولم تعد والدتي تعرف تمامًا أين هي أو تميّز الوقت. عندها أخَذتُ لها موعدًا مع الطبيب الذي جاء ليراها وقلتُ لها إنّه صديق لي يودّ التعرّف إليها. وبدأ الرجل يُحدّثها ويطرح بعض الأسئلة عليها، وحين رأيتُ النظرات التي كان يُوجّهها لي علِمتُ أنّ حالتها صعبة. وقبل أن يُغادر، إختلَيتُ بالطبيب الذي قال لي إنّه يشكّ بأنّ أمّي مصابة بداء ألزهايمر ولكنّه بحاجة إلى اجراء فحوصات دم وصوَر للتأكّد مِن شكوكه. كنتُ أعلم أنّ والدتي لن توافق على ذلك، فسألتُه إن كان باستطاعته إعطاؤها أقراصًا، ولكنّه رفَضَ بشكل قاطع، لأنّ ذلك قد يكون مضرًّا جدًّا لها إن كانت تعاني مِن شيء آخر.

عندما رَحَلَ الطبيب وجلَستُ مع أمّي قالت لي:

 

ـ ألَم يكن ذلك عُمَر إبن فريدة جارتنا؟

 

إمتلأت عَيناي بالدّموع، لأنّ عُمَر كان في العاشرة مِن عمره، ولذلك قرَّرتُ أن أكلّمها عن حالتها عندما تكون بمزاج يسمح لي بذلك وعُدتُ حزينًا إلى البيت، ولكنّ نرمين لم تكن مسرورة ممّا حَصَلَ مع الطبيب:

 

ـ أقول لكَ خُذها بالقوّة إلى المشفى!

 

ـ لن أجرّ أمّي رغمًا عنها إلى مكان لا تريد التواجد فيه! لن أعاملها هكذا أبدًا!

 

ـ وما الذي تنوي فعله إذًا؟

 

ـ سأبقى أراقبها... يا ليتَها تأتي للعيش معنا!

 

ـ تريد جلب مجنونة إلى بيتي؟!؟

 

ـ أوّلا’ هذا ليس بيتكِ، حبيبتي، بل بيتنا... ثانيًا أمّي ليست مجنونة بل إنّها تعاني مِن فقدان الذاكرة بشكل متقطّع، وحتى لو كانت مصابة بداء ألزهايمر فهذا لا يعني أنّها مجنونة، أمّي أذكى إنسانة على وجه الدنيا!

 

ـ لا يهمّني كيف تُشخّص حالتها... المهم أنّني لا أريدها بالقرب منّي أو مِن أولادي!

 

ـ أولادنا!

 


لم أستطع إيجاد عذر لزوجتي، إذ كان بإمكانها مواساتي وتشجيعي وتفهّمي أكثر مِن ذلك، وشعَرتُ بوحدة كبيرة. وبدءًا مِن اليوم التالي رحتُ أفتّش لأمّي عن مساعِدة تبقى معها طوال الوقت، الأمر الذي أغضَبَ مرّة أخرى نرمين التي رأَت بذلك مضيَعة لمال هي و"أولادها" أحقّ به.

إتّصَلتُ بأختَيَّ لأخبرهما بالذي يحصل واستشيرهما، وحصَلتُ منهما على الجواب نفسه: "أنتَ صاحب القرار، إفعَل ما تراه مناسبًا". كنتُ أتوقّع منهما أن تأتيا لرؤية أمّهما، على الأقل قبل أن يتفاقم المرض وتنساهما، إلا أنّهما كانتا مشغولتَين بعائلتَيهما وتعيشان بعيدًا. كنتُ فعلاً لوحدي أمام مصيبة أمي.

وجَدتُ لوالدتي إمرأة صبورة ومُحبّة، وشرَحتُ لها حالة التي كانت ستساعدها، واطمأنّ قلبي قليلاً. بتُّ أقضي وقتي مع أمّي لتذكيرها بالأحداث والأسماء وألعب معها لعبة الحساب الفوريّ لتنشيط ذاكرتها، ولكنّ المسكينة لم تعد قادرة على العدّ أو حتى القيام بانتقاء ملابسها بعد أن بدأَت ترتدي حذاءها بالمقلوب ولا تجيد تمشيط شعرها.

وصارَت والدتي وكأنّها تعيش وحيدة على غيمَة بعيدة تعزلها عن باقي العالم، فاغتنَمتُ تلك الفرصة لأخذها أخيرًا إلى المشفى لإجراء الفحوصات اللازمة لها. غضِبَت منّي كثيرًا ومِن ثمّ نسيَت لماذا وممّا غضبَت. وجاء التشخيص: داء ألزهايمر في مرحلته المتقدّمة. وصَفَ لها الطبيب أقراصًا قد تؤخّر عوارض المرض ولكنّها لن تشفيها، فالطبّ لم يتمكّن بعد مِن إيجاد علاج لهذا الدّاء البشع.

بعد أشهر على ذلك، قالت لي مساعدتها إنّ والدتي لم تعد تنام في الليل بل في النهار، وإنّها بدأَت تلوّث نفسها بعد أن نسيَت كيف تقصد الحمّام لقضاء حاجاتها. أذكر أنّني بكيتُ لدى سماع ذلك، فلم أتقبّل أن تصبح والدتي عاجزة عن المحافظة على نظافتها بعدما كانت المرجع في الترتيب والنظافة، وأخَذتُ أفكّر في الحالة الانسانيّة وهشاشتها أمام المرض، خاصّة ذلك الذي يُصيب الدّماغ.

في مرحلتها الأخيرة، لم تعد أمّي قادرة على الابتسامة، الشيء الذي لم أتحمّله، فما كنتُ أذكره عنها أوّلاً كانت ضحكتها الجميلة وابتسامتها السّاحرة. إلى جانب ذلك صرنا نقفل الباب بالمفتاح بعدما حاولَت النزول إلى الطريق بقميص نومها. وأمسَت المسكينة تجلس صامتة لساعات طويلة غير قادرة على رفع رأسها، وكلّ ما كانت تفعله كان فتل أصابعها. لم تعد تعرفني مع أنّني حاولتُ كثيرًا تذكيرها بي، ولكنّها كانت تنظر إليّ بين الحين والآخر بحنان وكأنّها تشعر أنّني جزء منها. وأثناء تلك اللحظات الوجيزة، كنتُ أشعر وكأنّني عدتُ الطفل المدلّل لدَيها.

كان بامكاني نقلها إلى المصحّ، ولكنّني لم أفعل لأنّني أرَدتُ أن تكمل حياتها بكرامة، خاصّة بعد أن علِمتُ أنّهم لن يعاملوها أفضل مِن تلك السيّدة التي كانت تمسّد جسدها وتُطعمها وتنظّفها طوال اليوم.

أما نرمين فلم تعد تطيق تواجدي مع أمّي، وهدَّدَتني بالرّحيل مع الأولاد، وهي بذلك كانت تضَعني أمام خيار صعب جدًّا ولكنّني لم أستطع ترك والدتي، خاصّة وهي بأمسّ الحاجة إليّ. فقلتُ لزوجتي:

 

ـ تريدين الرّحيل لأنّني أحبّ أمّي وأهتمّ بها؟ إرحلي! تريدين أخذ أولادنا معكِ؟ إفعلي! ولكن فكّري بالمثَل الذي تعطيه لهم... وكأنّكِ تحكمين على نفسكِ، فهم سيتركونكِ حتمًا عندما تشيخين... الأولاد نسخة عن أهلهم، حذار! إهدئي وفكّري جيّدًا قبل أن تندمي.

 

ـ لماذا تذهب إلى أمّكَ يوميًّا مع أنّها لا تتذكّركَ؟

 

ـ أذهب إليها لأنّني أنا أتذكّرها، وهذا كافٍ.

 

نظَرَت إليّ زوجتي باستغراب، ومِن ثمّ فهِمَت ما قلتُها لها ولمَحتُ دمعة تكرج على خدّها، ثمّ دخَلَت غرفتها وأنا قصَدتُ أمّي.

لم يكن لدَيّ الوقت الكافي للمشاكل الزوجيّة، وإلا حارَبتُ نرمين ووجَدتُ مخرجًا قانونيًّا لحضانة الأولاد، ولكن كلّ ما كان يهمنّي كان أنّ أمّي لم تعد قادرة حتى على الأكل، الأمر الذي سبَّبَ لها التهابًا رئويًّا. نقَلتُها إلى المشفى على أمل أن يُنقذوا حياتها، مع أنّني كنتُ أعلم مِن الذي قرأتُه عن مرض ألزهايمر أنّ أغلب المصابين به يموتون مِن التهاب رئويّ.

أمّا الأمر الذي سهَّلَ عليّ خبر موت أمّي، فهو أنّها لم تكن تعي أين هي أو ما يحصل لها ولم تتألّم كثيرًا، ولو قبِلَت أن تتعالج عندما كانت لا تزال بوعيها لعاشَت سنوات بعد. ولكنّ الناس لا يزالون يجهلون الكثير عن هذا المرَضَ وخوفهم منه يمنعهم مِن القبول به.

وعندما هدأَت الأمور بيني وبين زوجتي بعد أن اعترَفَت أخيرًا بسوء تصرّفها معي ومع أمّي، جعلتُها تعدني بأن تقنعني بأن أتعالج إذا أُصِبتُ بالزهايمر، فالحياة تستحقّ أن نعيشها كاملةً وبكرامة.

أبكي أمّي دائمًا وأتذكّرها مثلما كانت حين كانت تضحك وتغنّي وترقص لنا لتضحكنا، وعندما كانت تدرّسنا وتقرأ لنا الأشعار. هكذا أريدها أن تبقى في ذهني إلى الأبد.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button