في تلك الأيّام كنتُ أعمَل لدى محلّ للحلوى الأجنبيّة معروف جدًّا ولدَيه زبائن مِن الطبقة المُخمليّة، لأنّ حلوَتنا تُباع بسعر عالٍ بسبب جودة مُكوّناتها والاسم الذي يترافَق معها. عمَلي كان داخِل المطبخ، وأعترِف أنّني لَم أذِق أيّ شيء نُحضِّره سوى في يومِيَ الأوّل في العمَل، أي قَبل أنّ أُدرِك أنّ الالتزام بقواعد النظافة غير موجود. إشمأزَّزتُ كثيرًا مِمّا يحصل، إلا أنّني بقيتُ في المحلّ لحاجتي إلى المال، فكنتُ عريسًا جديدًا وزوجتي حامِلًا. كان لدَيّ عمَل أفضَل قبَل أشهر مِن قدومي إلى المحلّ هذا، لكنّني سُرِّحتُ منه بسبب تدهور الحالة الاقتصاديّة.
حاوَلتُ أن ألفِت نظَر الطاهي الرئيسيّ على وجوب الحفاظ على صحّة زبائننا، إلّا أنّه ضحِكَ في وجهي قائلًا: "هؤلاء أغنياء ولدَيهم المال الكافي لدَفع ثمَن الاستشفاء!". ذُهِلتُ لهذا الجواب غير المسؤول والمعدوم مِن أيّة انسانيّة، فتكلّمتُ مع مُدير الصالة بهذا الخصوص، وأطلعتُه على كلّ ما هو مُخالِف للصحّة العامّة. مرّة أخرى جوبِهتُ باللامُبالاة، فسكتُّ على مضَض، وركّزتُ على عمَلي كما نصحَني المُدير أن أفعَل.
مرَّت الأشهر وجاءَت ابنتي إلى الدنيا وكنتُ أسعَد الآباء، لكن سرعان ما أدركتُ أنّ العائلة هي مسؤوليّة كبيرة معنويًّا ومادّيًّا، خاصّة أنّني وزوجتي كنّا لا نزال في العشرين مِن عمرنا.
وحدَثَ ما كنتُ خائفًا منه، أيّ أنّ إحدى الزبائن، وهي سيّدة مُسِنّة وذات صحّة هشّة، قد تسمَّمَت بعد أن تناولَت الحلوى التي نبيعُها. وعلى الفور، إتّصَلَ ابنها بالمحلّ مُهدِّدًا وشاتِمًا، وأكَّدَ له مُدير الصالة أنّ لا علاقة لنا بالذي حصَلَ لها، وأنّها تناولَت حتمًا مأكولات فاسِدة قُبَيل الحلوى. لكنّ الابن أكّدَ أنّها لَم تفعَل، فهي تعيشُ معه وعائلته ومِن السهل معرفة ما أكلَته. هدّدَنا الرجُل بأنّه سيُقيم دعوى ضدّنا، وأنّه ينتظِر تقرير المشفى الذي أفرَغَ مُحتوى معِدة العجوز، وأضافَ أنّه لن يكتفي بالاشتكاء علينا بل سيُذيع الخبَر عبر مواقِع التواصل الاجتماعيّ حين يحقّ له ذلك. فهو كان مُحاميًّا ويعرفُ ما عليه فعله ضمن نطاق القانون. وبعد تلك المُكالمة، جمعَنا مُديرُنا وأمرَنا بتنظيف المطبخ تنظيفًا كاملًا، وبِرَمي كلّ المُكوّنات التي استُعمِلَت لتصنيع الحلوى واستبدالها بأخرى طازجة جاء بها على الفور. فكان مِن الواضِح أنّ مُفتِّشًا مِن وزارة الصحّة سيقصدنا لأخذ العيّنات، فالعجوز كانت بحالة خطِرة.
وبينما كنّا نمتثِل لِما أمرَنا به، أخذتُ فيديو لِحملة التنظيف لأحميَ نفسي والتأكيد على معرفة الجميع بالمخاطِر، فخلال عمَلنا لإخفاء الأدلّة، ذكَّرتُ رئيس الطهاة والمُدير بتحذيري لهما، وكيف أنّهما رفضا إتّباع أدنى المواصفات الصحّيّة. كنتُ فخورًا بنفسي بتسجيل ذلك الفيديو وحسبتُ أنّني لستُ بخطر.
لكنّ الخطر الذي كان ينتظرُني لَم يكن آتٍ مِن السلطات، فكما علِمتُ لاحقًا، وحدها الإدارة هي المسؤولة وليس العاملين الصغار مثلي، هذا لو لَم يكونوا هم السبب المُباشَر للأذى الحاصل.
فرآني أحَد العاملين معي وأنا أُصوِّر، وسألني لماذا أفعلُ ذلك، فأعطَيتُه السبب ظانًّا أنّه سيفرَح لأنّني أحميه معي، فنحن نتبَع أوامِر المسؤول عن المطبخ وحسب. لكنّه خافَ أن أمتلِكَ دليلًا ضدّ المحلّ قد يوصِل إلى إقفاله وخسارته عمَله، فأخَذَ يُقنِعني بأن أحذِفَ التسجيل شارِحًا لي أنّنا سنجِد أنفسنا في الشارع. لكنّني رفضتُ رفضًا قاطعًا، لأنّ سيّدة مُسِنّة موجودة في العناية الفائقة وهي تتألّم بسببنا، ومَن يدري، قد تموت أيضًا! أين ضميرنا؟ هل نسمَح لهؤلاء المُجرمين أن يقتلوا الناس؟ فأنا أفضِّل أن أخسَرَ عمَلي على أن أخسَرَ روحي. وراحَ ذلك الجبان يُشي بي إلى مُدير الصالة، وألّفوا جميعًا جبهة ضدّي. حاوَلَ حتّى أحَدهم انتشال هاتفي منّي إلّا أنّني أسرعَتُ بالخروج مِن المحلّ والركض بسرعة إلى بيتي. لَم أُخبِر زوجتي بالأمر لأنّني خفتُ أنّ توبّخني على ما فعلتُه إذ سيؤدّي حتمًا إلى طردي مِن المحلّ.
لَم أذهَب طبعًا إلى المحلّ في اليوم التالي، وانتظرتُ أن يتّصل بي المُدير لنتكلّم عن الموضوع، أيّ أنّ يطلُب منّي حذف الفيديو أو شيئًا مِن هذا القبيل، لكن ما مِن أحَد اتّصَلَ بي. أُعطَيتُ زوجتي عذرًا لبقائي في البيت، لكنّني لَم أعلَم ما سأقوله لها حين تراني موجودًا معها وابنتنا في الأيّام التالية، وأدركتُ أنّ عليّ إيجاد عمَل في أقرَب وقت. لَم يتطلَّب الأمر كثيرًا مِن الوقت للحصول على عمَل بديل، فكنتُ شابًّا مُتحمِّسًا ولدَيّ خبرة في المطابخ بعد أن عمِلتُ في محلّ الحلوى. وهكذا بدأتُ صفحة جديدة، بانتظار أيّ مُستجدّات في ما يخصّ موضوع المرأة المُسِنّة المريضة.
لكن في الكواليس، كانت تُحاك ضدّي مكيدة بغيضة بُغية حَملي على عدَم الافصاح عمّا كان يحصل في مطبخ محلّ الحلوى، وعدَم تسليم الفيديو لأيٍّ كان. وعرفتُ بالمكيدة يوم عدتُ إلى البيت مِن عمَلي الجديد، واكتشفتُ أنّ زوجتي وابنتي غائبتَين وكذلك أمتعتهما.
بدأتُ أتّصل بزوجتي لكنّ خطّها كان مُقفلًا، فقصدتُ منزل أهلها حيث تمّ طردي مِن قِبَل حماتي. هي لَم تُعطِني أيّ تفسير واضح، إلّا أنّها قالَت لي بغضب عارِم: "إرحَل مِن هنا أيّها الخائن الوضيع! كيف تفعل ذلك بابنتي؟!؟ عُد إلى عشيقتكَ!". فهمتُ أنّ الموضوع له علاقة بامرأة أخرى، لكن أيّ امرأة؟!؟ عدتُ إلى بيت أهل زوجتي يوميًّا لمدّة أسبوع، وتوسّلتُ حماتي بالسماح لي بالتكلّم مع ابنتها ورؤية صغيرتي التي اشتقتُ لها، حتى قبِلَت أخيرًا. عندها أخبرَتني زوجتي باكيةً أنّها تلقَّت اتّصالًا هاتفيًّا مِن إحدى زميلاتي في محلّ الحلوى التي أخبرَتها أنّ بيننا علاقة حميميّة، وأعطَتها تفاصيل دقيقة عن الذي كنّا نفعله في المحلّ وبالأخصّ في غرفة البضائع. يا إلهي! كيف لتلك الزميلة السابقة أن تُدمِّر زواجي هكذا؟!؟ خاصّة أنّنا كنّا مُقرّبَين لكن فقط مِن ناحية العمَل وليس أكثر. غضبتُ لأقصى درجة وقرّرتُ التصرّف.
قصدتُ محلّ الحلوى قُرابة موعد الاقفال، وانتظرتُ أن تخرج تلك الزميلة، ففاجأتُها صارخًا بها أن تتوقّف لنتكلّم. أمّا هي، فخافَت منّي كثيرًا وحاولَت تجاهلي مُسرعة بالمشي. إلّا أنّني لحِقتُ بها ووقفتُ قُبالتها وسألتُها:
ـ لماذا تفعلين ذلك؟!؟ كيف تقولين لزوجتي إنّ بيننا شيئًا؟
ـ أنا آسِفة لكن...
ـ لكن ماذا؟
ـ هم أجبَروني على القيام بذلك، وإلّا تمَّ طردي.
ـ هناك فرَص عمَل أخرى، صدّقيني، ولا شيء يُبرِّرُ تدمير عائلة!
ـ خفتُ أن أجِدَ نفسي مِن دون عمَل، وأنتَ تعلَم كَم أنا بحاجة إلى ذلك الراتب. لِما لا تتكلّم معهم وتُعطيهم الفيديو لتنتهي المسألة؟
ـ أين أصبحَت قضيّة الزبونة المسكينة؟
ـ إنّها... فهي... هي ماتَت.
ـ يا إلهي... وتريدين التغطية على هؤلاء المُجرمين؟ كانوا على عِلم بأنّ ظروف عمَلنا غير صحّيّة على الاطلاق، ولقد لفتُّ نظرهم على الموضوع مرارًا.
ـ أعلمُ ذلك... تكلّم معهم.
ـ لا... بل أنتِ ستتكلّمين مع زوجتي وتقولين لها الحقيقة!
ـ لا أريدُ خسارة عمَلي، أرجوكَ!
ـ وإن وجدتُ لكِ عمَلًا آخَر وأفضل؟
حزِنتُ كثيرًا مِن أجل زبونتنا المُسِنّة، فهي خسِرَت حياتها بطريقة كان بالإمكان تفاديها، وسنّها المُتقدِّم أسهَمَ في موتها. يا لِفاقدي الضمير!
فعلتُ جهدي لإقناع صاحِب عمَلي الجديد بتوظيف تلك الزميلة، بل توسّلتُ إليه، وهو قَبِلَ أخيرًا. ففي آخِر المطاف، كان بحاجة إلى عاملين جدد ورأى كيف أنّني مُتحمِّس للعمَل لدَيه. زفَّيتُ الخبَر للصبيّة وأخذتُها لمُقابلة مُديرها الجديد. بعد ذلك، قدّمَت استقالتها مِن محلّ الحلوى ورحنا إلى بيت حماتي حيث هي أخبرَت زوجتي القصّة بكاملها وأنا أرَيتُها الفيديو. وبّخَتني أمّ ابنتي على إخفاء موضوع تسمّم الزبونة وما جاء بعد ذلك، فكّنا قد تفادَينا الوقوع بفخ "العشيقة ـ الزميلة".
لكنّ المسألة لَم تقِف عند ذلك الحدّ، فبعد مُحاولة تفكيك زواجي، إنتقَل مُدير محلّ الحلوى وشركاؤه إلى المرحلة الأكثر جدّيّة. فذات مساء، بعد أن أنهَيتُ دوامي في العمَل، إعترضَني أشخاص مُلثّمون وأبرَحوني ضربًا.
إستيقَظتُ في المشفى حيث تمَّ علاج كسوري العديدة، ووجدتُ عنصرًا مِن الشرطة ينتظرُ أن أستعيدَ وعيي. وحين هو سألَني إن كنتُ أعرفُ مَن وراء الاعتداء، أخبرتُه القصّة بأكملها وأرَيتُه الشريط المُصوَّر.
فُتِحَ تحقيق توافقَ مع الدعوى المُقامة مِن قِبَل ابن السيّدة المُتوفّاة ضدّ المحلّ، وكانت الدلائل الموجودة لدى المشفى ولدَيّ وشهادة زميلتي كافية لِزَجّ المسؤولين في السجن.
بقيَ هؤلاء المُجرمون يبعثون لي التهديدات مِن وراء القضبان بواسطة معارفٍ لهم، حتّى انقطعَت أخيرًا أخبارُهم. لكنّني لَم أكن مُطمئنًّا، فالذي يُخاطِر بحياة الناس ويُسبّب لهم الموت ويبعثُ لغيره مَن يُدمّر زواجه ويضربه، لن يتوقّف عن الأذيّة بسهولة. لِذا بقيتُ أفتّش عن عمَل في الخارج حتّى وجدتُه، وأنا اليوم مع عائلتي في بلَد لن يسمَح لهم بالوصول إليّ.
مضى على هذه الحادثة سنوات عديدة وحياتي هنيئة مع زوجتي وابنتي والولَد الذي أنجَبناه في ذلك البلد، وها أنا مسؤول في محلّ للحلوى. وأهمّ شيء لدَيّ هو الحفاظ على سلامة زبائننا، وأُخبِرُ كلّ العاملين الجدد لدَيّ ما حصَلَ معي آنذاك، ليعلموا كَم أنّ الاستهتار بالنظافة أمرٌ خطير، وكَم أنّني جادّ بمُلاحقة كلّ مَن يُخالف تعليماتي. ولا أزال حتّى الآن أترحَّم على روح تلك الزبونة المسكينة.
حاورته بولا جهشان