يا رب خلّصني مِن زوجي!

حين قالَ لي سامي زوجي "ماذا حضّرتِ لنا لنأكله؟"، في اليوم نفسه الذي عدتُ فيه مِن المشفى بعد أن خضعتُ لعمليّة كبيرة، أدركتُ أنّني أسأتُ الاختيار فعلاً بالزواج منه. بالطبع كنتُ أعرِفُ أنّ زوجي رجُل أنانيّ، لكنّني خلتُ أنّ كلّ الرجال هم هكذا، لأنّهم في آخِر المطاف كالصبيان الكبار، لكن أن يتوقّع منّي إطعامه وأنا في تلك الحالة، فلا! حاولتُ أن أشرَحَ له أنّ لا امكانيّة لدَيّ للقيام بأيّ شيء لبضعة أيّام، وهو نظَرَ إليّ بمزيج مِن الاندهاش والامتعاض وتمتَمَ: "هذا ما يحصل عندما يُدلِّعُ الرجُل زوجته بإفراط!". ماذا؟!؟ عن أيّ دلَع يتكلّم؟!؟ سكتُّ لأنّ جرحي كان يؤلمُني، ولأنّ ولدَينا كانا مشغولَي البال عليّ، وهما خافا أن أموتَ تحت العمليّة. هل خافَ أيضًا سامي عليّ أم أنّه لَم يُبالِ؟

طلَبَ زوجي مِن أمّي أن تأتي لمُساعدتي، ليس مِن أجلي فهو كان يكرهُها، بل لِتُلبّي طلباته ولا يتغيّر عليه شيء، فهو قال "إنّه تحمَّلَ ما يكفي مِن الاهمال بينما كنتُ في المشفى، وكان له الحقّ أن يأكل شبعَه ويجِد ملابسه نظيفة، لأنّه يعمَل بكدّ ليدفع مصاريفي والأولاد والبيت". نظرَت والدتي إليه باشمئزاز، وهزَّت برأسها ورأيتُ الأسف الشديد على وجهها.

حاوَلَ سامي مُعاشَرتي ليلاً، لكنّني أبعدتُه عنّي صارِخة به:

 

ـ ما بكَ؟!؟ ألا ترى حالتي؟

 

ـ لدَيّ حاجات وحقوق!

 

ـ أنتَ حيوان! وربّما الحيوانات تشعرُ أكثر بألَم بعضها! إبتعِد عنّي!

 

ـ أنتِ بألف خير، لكنّكِ تُمثّلين دور المريضة.

 

ـ لقد عدتُ للتوّ مِن المشفى! ما بكَ لا تفهم! أخرج مِن الغرفة!!!

 

بكيتُ كثيرًا على نفسي وما آلَت إليه حياتي، فدخلَت أمّي الغرفة بعد أن سمِعَت شجارنا وخروج سامي إلى الصالون حيث راحَ ينام. تعانَقنا وبكينا سويًّا ثمّ غرقتُ في النوم. وفي الصباح، حين استيقظتُ، قالَت لي أمّي التي بقيَت معي طوال الليل:

 

ـ عليكِ الابتعاد عنه، لا يجب أن تبقي معه على الاطلاق، فلَم أرَ في حياتي رجُلاً مثله.

 

ـ وولدَاي؟ وكيف أعيش؟ لقد اعتَدتُ على سامي، لا عليكِ.

 

ـ لا! فهو بلَغَ حدًّا لا يُعقَل. وأخافُ عليكِ منه.

 

ـ الكلاب التي تنبَح لا تعُضّ، لا تخافي يا ماما.

 

تحسّنَت حالتي مع الوقت، إلا أنّ امتعاضي مِن سامي بقيَ نفسه بَل زادَ. فصارَ بالنسبة لي إنسانًا لا أُطيقُه على الاطلاق بل أتحمّل وجوده لأنّه مفروض عليّ وحسب. إضافة إلى ذلك، هو كان يجني المال الذي كان ضروريًّا للبيت والأولاد وأحيانًا لي. عادَت والدتي إلى بيتها وعدتُ إلى حياتي الفارِغة مِن أيّة عاطفة ومحبّة، وتعلّقتُ أكثر فأكثر بولدَيّ.

ولأنّني كنتُ قد رأيتُ سامي على حقيقته بعد عمليّتي الجراحيّة، صرتُ أنتبِه إلى الدلائل الصغيرة التي أكّدَت لي يوم بعد يوم أنّه يخونُني، وحتى ذلك الوقت، خلتُه رجُلاً أنانيًّا وحسب.

أعترفُ أنّ فكرة خيانة زوجي لي لَم تُغضبني بحدّ ذاتها، لأنّه لَم يعُد يُصِرّ كالسابق على مُعاشرتي، لكنّني خفتُ على ولدَيّ إن هو أرادَ الطلاق وأخذهما منّي يومًا أو، إن تركَهما لي، أن يتوقّف عن مدّنا بالمال اللازم لنعيش ودَفع الأقساط المدرسيّة.

لكنّ زوجي، مِن جانبه، ظنّ أنّني أخونُه أيضًا، ربّما لأنّني بالفعل لَم أعُد أتحمّله بسبب ما فعلَه بعد عودتي مِن المشفى. ومع أنّه كان على علاقة سرّيّة مع امرأة، فهو اعتبَرَ أنّ مِن حقّه خيانتي، أمّا أنا فلا. إنسان جاهل ومُتكبّر وغبيّ، فأنا لَم أكن أُبارِح المنزل إلا للقيام بأمور ضروريّة. لِذا هو أخَذَ يُراقبُني عن كثب، وحصَلَ أكثر مِن مرّة أنّه عادَ إلى البيت بصورة مُفاجئة تحت عذر ما. لَم يخطُر ببالي أنّه يُحاول الإيقاعي بي على الإطلاق، لأنّ ضميري كان مُرتاحًا ولا أفعلُ أيّ شيء سيّئ.

لكن عندما صارَ سامي يُلّمِّح تلميحات قويّة عن احتمال وجود رجُل آخَر في حياتي، عندها فقط فهِمتُ ما يجري. يا للسافِل! كيف يشكُّ بي بينما هو يذهبُ مع عشيقته إلى أماكن عامّة وبالكاد يكون مع ولدَينا؟ ولكثرة غضبي، واجهتُه بشأن علاقته وتشاجَرنا، وهو استعمَلَ معي ألفاظًا بشعة للغاية. وأمام رفضي لهكذا مُعاملة، صفعَني سامي بقوّة أمام ولدَينا الصغيرَين! نظرتُ إليه بغضب لَم أتخايَله موجودًا في قلبي وقلتُ له:

 

ـ سأدَع الخالِق يتصرّف معكَ... أرجو أن يحرمكَ مِن أيّ فرَح ولذّة... وألا تستمتِع بأيّ شيء تأكله أو تفعله، وأن يأخذ منكَ صحّتكَ إلى غير عودة!

 

نظَرَ إليّ سامي بخوف شديد ربّما لجدّيّتي لِما قلته، وصرَخَ بي أن أسحَب كلامي، لكنّني رفضتُ بل تابَعتُ: "لا يجب لأمثالكَ أن يكونوا موجودين على الاطلاق. أريدُ أن أتفرَّج عليكَ وأنتَ في أضعف حالاتكَ... كما فعلتَ معي!

 

ترَكَ سامي البيت ليومَين ليعودَ مِن دون أن يُعطي تفسيرًا لغيابه. لَم أسأله أين كان لأنّ الأمر لَم يهّمني على الاطلاق. وبعد فترة قصيرة... إنتشَرَ وباء الكورونا! أنا مُتأكّدة مِن أنّ الله لَم يبعَث للبشريّة المرَض فقط ليُصابَ به سامي، فهذه صدفة بحتة، إلا أنّ زوجي خافَ خوفًا رهيبًا عندما فقَدَ حاسّة الذوق، فتذكَّرَ كيف تمنَّيتُ ألا يستمتِع بأيّ شيء يأكله. فبدأ يشتُم ويُهدّد ويطلبُ منّي مناجاة الله كي يُبعِد عنه فظاعة الكورونا. فأنتم تتذكّرون كيف كان ذلك الفايروس فتّاكًا في بدايته، وكَم مِن ناس مساكين فقدوا حياتهم.

أرسلتُ ولدَيّ بسرعة إلى أمّي كي لا يلتقِطوا المرَض مِن أبيهما، وأنا عزَلتُ نفسي عنه لأنّه رفَضَ أن يبقى في غرفة لوحده بعد أن قرَّرَ أنّ عليّ أن أمرَض أيضًا، فلماذا هو وليس أنا؟

وأثناء عزلتي، كنتُ أطلبُ الأكل مِن المطاعم، وأنزِلُ سلّة مِن شبّاك غرفتي ليضعوا فيها الأطباق. أمّا بالنسبة لسامي، فهو خرَجَ مرارًا حتّى لو عنى ذلك أن ينقل العدوى إلى الآخَرين، فهو بالفعل لَم يكن يُبالي بأحَد.

إشتّدَ المرَض على زوجي ولَم يعُد قادرًا على التنفّس، فاتّصلتُ بالإسعاف الذي جاء أفراده مُرتدين بذّات خاصّة، وأخذوه إلى جناح مِن المشفى مُخصّص لذلك الوباء. وبعد أن دخَلَ سامي قسم العناية، أخذتُ أنظّفَ وأعقّم البيت شِبرًا شِبرًا. للحقيقة، لَم أكن أُريدُه أن يعود أبدًا، وفكرة موته لَم تكن تُزعجِني بل أراحَتني. فعلى الجلاد أن يتوقّف عن تعذيب ضحاياه في يوم مِن الأيّام.

رحتُ إلى بيت أمّي بعد أن تأكّدتُ أنّني لا أحمِل الفيروس، وبقيتُ أتّصل بسامي فقط ليسمعَ ولدَيّ صوته ويرَيان صورته على الفيديو، فما ذنبهما؟ وهو قال لي في أحَد الأيّام وصوته يرتجِف: "أنتِ طلبتِ مِن الله أن يأخذَ صحّتي إلى غير عودة... أطلبي أن أتعافى، أرجوكِ". لَم أُجِب، فماذا أقولُ له؟ أنّ لا دخل لي بما أصابَه؟

ثمّ علِمتُ مِن المُمرّض في المشفى أنّ زوجي يطلبُ الاستماع إلى برامج دينيّة وباتَ يُصلّي ويدعو، ما أدهشَني بالفعل. لكنّني أدركتُ أنّ سامي هو فقط خائف مِن الموت، وليس حقًّا نادِمًا على طريقة مُعاملته لي، حتّى بعد أن أكّدَ لي في إحدى مُكالماتنا أنّه صارَ زوجًا جيّدًا بعد أن أصابَه المرَض.

لكنّ شيء في داخلي أرادَ تصديقه، فقلتُ له إنّنا سنبحث في مصير زواجنا بعد أن يعود مُتعافيًا إلى البيت. أبقَيتُ ولدَيّ حيث هما، وأنتظرتُ رجوع زوجي بعد أن عانى كثيرًا مِن الفيروس وكادَ أكثر مِن مرّة أن يموت.

خدَمتُ سامي كأيّ زوجة صالحة، بالرّغم من مُعاملته السيّئة لي بعد عمليّتي الجراحيّة ومعرفتي بخيانته لي، ورأيتُ بصيص امتنان في عَينَيه. هو أكَّدَ لي أنّه يُحبّني كثيرًا... إلى حين سمعتُه يتكلّم عبر الهاتف مع عشيقته ويقول لها همسًا: "لا، بالطبع لا... أنا فقط بحاجة إليها ريثما أشفى كلّيًّا... أنا لا أحبّ سواكِ!". كيف ظننتُ أنّ إنسانًا مثله سيتغيّر يومًا؟!؟ ونظرتُ إلى السماء وصرختُ: "يا رب! خلصّني منه!".

لَم أظهر لزوجي أنّني سمِعتُ مُكالمته، بل تصرّفتُ بشكل طبيعيّ لأنّني لَم أكن أعلمُ شيئًا عن نواياه. مرَّت الأيّام وتعافى سامي، وصارَ يخرجُ مِن البيت بالرغم مِن مَنع التجوّل الذي فرَضَته الدولة على الجميع. وحتى يتمكّن مِن الخروج لرؤية عشيقته التي اتّضَحَ أنّها تعيش ليس بعيدًا عنّا، زوّرَ إشارة طبيب ووضعَها على زجاج سيّارته ليمرّ بسلاسة أينما أراد.

وحين جاءَني ذلك الاتّصال، كنتُ أحضّر الأكل لأبعثه إلى أمّي وولدَيّ لأنّه كان طبقهم المُفضّل. فإذ بي أسمَع صوت رجُل يسألني إن كنتُ زوجة سامي، ليُخبرَني أنّه لقيَ مصرعه جرّاء ذبحة قلبيّة حادّة. أقفلتُ الخطّ، وتابعَتُ ما كنتُ أفعله، لكنّ بسمة خفيفة ارتسمَت على شفتيّ، فكنتُ قد صِرتُ حرّة أخيرًا. لا تسيؤوا فهمي، أنا بالفعل حزِنتُ على موت سامي، لكن فقط لأنّه كائن حَيّ فقَدَ حياته. لكن مِن ناحية كَونه زوجي وأب ولدَيّ، فلَم أحزَن عليه، فهو أساءَ مُعاملتي لدرجة أنّه قتَلَ أيّ شعور كان لدَيّ تجاهه، والذنب ذنبه وحده. هل أنّ الله سمِعَ ندائي وتصرَّفَ بزوجي؟ لا أظنّ ذلك، لكنّني أتمسّك بتلك الفكرة لأشعر أنّنا لسنا متروكين لمصيرنا.

بعد فترة وجدتُ عمَلاً في سوبر ماركت، وصارَ لدَيّ أصدقاء وزملاء وتابعتُ حياتي مع ولدَيّ. نسيتُ سامي لأنّه لَم يترك لي ذكريات جميلة أتعلّق بها، بل فقط ذكريات بشِعة عمِلتُ على نسيانها. أنا اليوم امرأة سعيدة وحرّة وأستمتعُ بكلّ ما هو جميل في الدنيا، مِن دون أن يكون عليّ أن أخدُم رجُلاً أو أتحمّل أنانيّته وطغيانه وخيانته لي. أنا أرى أمامَ عَينَيّ ولدَيّ وهما يكبران، وأُعلّمُهما كيف يتعاملان مع الناس ولاحقًا مع النساء كي لا يكوّنا بدورهما ذكرى بشِعة عند أحَد.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button