كان والدي رجلاً طيّبًا ونزيهًا وأبًا صالحًا. كان وأمّي يُشكّلان ثنائيًّا جميلاً، على الأقل أمامنا. فمع الوقت، وبعد أن أصبحتُ أفهم بالناس، صرتُ ألاحظُ كمّ أنّ والدتي حزينة، وكيف كانت تُجبِرُ نفسها على الضحك لتعود بعد ثوان إلى حزنها.
شككتُ في أنّ السّبب قد يكون طبع أبي المُتشائم. فالجدير بالذكر أنّ والدي مِن عائلة فقيرة جدًّا، وقد نما في قلبه خوف مِن الغد حمَلَه حتى بعدما تحسّنَت أحواله وبات بمنأى عن الجوع والعَوز.
كان والدي يخافُ مِن كلّ ما هو جديد وغير مألوف، وينظرُ إلى الأمور بشكّ ورَيب، الأمر الذي جعَلَ منه رجلاً عابسًا يُفضّل البقاء في البيت، حتى أنّه عَزَلَ نفسه وعزَلَنا معه. وهكذا ذبلَت أمّي ولَم تعد تحبّ شيئًا أو أحدًا، الأمر الذي أثَّرَ عليّ وعلى إخوَتي كثيرًا. فلَم أعد أحبّ العودة إلى البيت الذي كنتُ أجدُه حزينًا ومُظلمًا، وأتحجّج بالدّرس عند رفيقاتي حيث كنتُ أمكثُ حتى المساء، أي موعد النوم.
وفي أحد الأيّام، ألقَت أمّي بنفسها مِن النافذة حين كنّا في المدرسة وأبي في عمله. نعم، فضَّلَت الموت على قضاء حياتها بالخوف والعزلة.
إنتحار أمّنا أثَّرَ بنا إلى أقصى درجة، خاصّة أنّ أبي رأى في موت زوجته تحقيقًا لمخاوفه، إذ لطالما انتظَرَ أن يحدث مكروه ما، مِن دون أن يُحدّد ماهيّته. ومنذ تلك اللحظة، صارَ متأكّدًا مِن حقيقة تكهّناته، وأصبحَ كالفأر المذعور ينظرُ مِن حوله حتى أثناء وجوده في البيت.
وحالته تلك حالَت دون قيام والدنا بعمله، لأنّه بدأ يتغيّب كثيرًا مفضّلاً الإختباء بين جدران مسكنه على المخاطرة بالخروج. وبعد فترة، تمّ طرده وصرنا مِن دون مدخول وتحت خطر الجوع.
جاء عمّنا لإنقاذنا مِن الفقر، فأخذَنا نحن الأولاد إلى بيته بعد أن رفَضَ أبي أيّة مساعدة منه أو مِن شخص آخر، وقال لمَن أرادَ سماعه، إن أخاه يتآمر ضدّه لسلب هوّيته وإنّه الذي قتَلَ زوجته. كان المسكين يغوص في الجنون. وبعد أشهر قليلة، نُقِلَ أبي إلى مشفى الأمراض العقليّة.
قمتُ بزيارته بضع مرّات مع اخوَتي في البداية ومِن ثمّ لوحدي لأنّه كان يصرخُ بنا مُتّهمًا إيّانا بأنّنا جئنا لنوقع به وأنّنا مِن منظّمة عالميّة تتجسّس على الناس. وبعد آخر نوبة له التي كانت بغاية العنف، فضّلتُ قطع زياراتي له كي أحتفظ بذكرى عنه إيجابيّة بعض الشيء. في كلّ الأحوال، هو لَم يعد يعرفُ أحدًا وصارَ يعيش في عالم خاص به.
لم يذهب عمّي لرؤية أخيه ولو مرّة، ربمّا للسّبب نفسه.
عشنا في بيت عمّي سعداء معه ومع زوجته. هما لم يُنجبا، ورأيا فينا أولادًا لهما، الأمر الذي أراحَ بالنا. فهناك كانت الأجواء سليمة وبدأنا، على مرّ السنين، ننسى أمّنا الكئيبة وأبانا المجنون، وعادَت إلينا البسمة وصرنا نجرؤ على التفاؤل بغد واعد.
عندما صرِتُ قادرة على ذلك، بدأتُ بالعمل لأساعد عمّي في مصروفه الكبير، فهو لم يتأخّر يومًا عن تلبية كلّ طلباتنا، حتى لو كلّفه الأمر أن يحرم نفسه وزوجته مِن أهمّ المتطلّبات. وحين قبضتُ أوّل راتب، قدّمتُه له بالكامل وهو تأثَّرَ كثيرًا وأوشكَ على البكاء:
ـ لو تعلمين كمّ أنّكِ غالية عليّ وكَم أنّكِ تُشبهين أمّكِ المرحومة. هي الأخرى كانت طيّبة وخلوقة.
ـ أخبِرني عنها المزيد، فبالكاد أتذكّرُها. أعرفُ أنّكَ كنتَ تزورُنا باستمرار.
ـ صحيح ذلك، فلطالما عطشَت نفسي إلى وجود أولاد مِن حولي، لكنّ الله لم يشأ أن يُعطيني مَن يحمل إسمي. أمّكِ، يا عزيزتي، كانت بغاية الجمال، وذنبها الوحيد هو أنّها أحبَّت أباكِ وليس رجلاً آخر، مع أنّني حذّرتُها منه.
ـ متى حصَلَ ذلك؟
ـ قبل عقد قرانهما بأيّام. قصدتُها في عملها وأخبرتُها أنّ أخي ليس إنسانًا شجاعًا بل إنّ قلبه مليء بالخوف والمخاوف، وأنّها لن تكون سعيدة معه لأنّها كانت عكسه تمامًا. لا أزال أتذكّر بسمتها وعَينَيها وضحكتها الجميلة.
ـ عمّي... آسفة أن أسألكَ ذلك... هل كنتَ مُغرمًا بأمّي؟
ـ ما نفع الإنكار الآن؟ نعم يا عزيزتي. في الواقع، كان الكلّ مُغرمًا بها، إلا أنّني خلتُ أنّ لدَيّ فرصة لسرقة قلبها. لكنّها كانت تحبّ أباكِ ولا تريدُ سواه... مع أنّها لم تعِش سعيدة معه. كنتُ عازبًا آنذاك، ومِن كثرة خيبة أملي، تزوّجت أيضًا.
ـ أعرفُ ذلك يا عمّي، أذكرُ حزنها الدائم. أظنّ أنّها ندِمَت على اختيارها.
ـ أجل، في الأواني الأخيرة.
أحزَنَني حديث عمّي كثيرًا، أوّلاً لأنّه بدا متيّمًا جدًّا بأمّي التي ماتَت باكرًا، وثانيًا لأنّني تصوّرتُ لو أنّها تزوّجَته هو بدلاً مِن أبي، فلربّما كانت ستظلّ على قيد الحياة وكنّا سنعيش وسط ثنائيّ هادئ ومحبّ وأجواء إيجابيّة وبنّاءة.
ذات يوم، جاءَني اتصال مِن المشفى مفاده أنّ عليّ المجيء لرؤية أبي التي كانت حالته الصحيّة سيّئة للغاية، طالبين منّي إقناعه بتناول الأدوية لأنّه كان يزعم أنّ المشفى يُريد تسميمه.
ذهبتُ إليه على مضض، واعدة نفسي بالبقاء بضع دقائق فقط لأنّه لن يعرف مَن أنا وسيبدأ باتّهامي بأنّني جاسوسة وأريد أذيّته. لكنّني تفاجأتُ به يُناديني باسمي ويقول لي كم أنّني كبرتُ. وعُدتُ بلحظة طفلة صغيرة تتوقُ إلى حضن أبيها.
لكنّ فرحتي لم تدُم، بل بدأ والدي بهذيانه المُعتاد، وصارَ يصرخُ بي بأن أغادر منزل عمّي الذي وصفه بالقاتل. فهو لَم يتخلَّ عن اتّهامه بما حدَثَ لأمّي. ولكثرة غضبي منه في ذلك اليوم، سألتُه لماذا يقول أشياء فظيعة عن الرّجل الذي فتَحَ بيته لي ولإخوتي وعمِلَ جهده لتربيتنا وتعليمنا. فأجابَني أبي:
ـ في ذلك اليوم، أي يوم موت أمّكِ، كانت الشركة التي أعملُ لدَيها قد أرسلَتني إلى عميل لنا لإبرام عقد معه. وشاءَت الظروف أن أمرّ بسيّارتي قرب بيتنا وإذ بي أرى أخي داخلاً المبنى. إستغربتُ الأمر، إلا أنّني لم أستطع معرفة المزيد عن سبب تواجده في داري في وقت يعلم تمام العلم أنّني لن أكون موجودًا فيه. لكنّ السّير تحرّكَ وبدأ باقي السائقون بحثّي على التقدّم، فذهبتُ إلى موعدي. وفور عودتي إلى الشركة، وصلَني خبر موت حبيبتي.
ـ هذا لا يعني أنّه قتَلَها!
ـ بلى! فلَم يكن هناك مِن سبب لقتل أمّكم نفسها. أنا متأكّد مِن أنّه رماها مِن النافذة.
ـ ولماذا يفعل؟
ـ لطالما حامَ أخي حول زوجتي... فلستُ غبيًّا... لكنّني كنتُ أفتخرُ بالأمر لأنّني كنتُ الذي فازَ بها وليس هو، خاصّة أنّه كان أكثر وسامة منّي ونجاحًا. لكنّه لم يتقبّل رفضها الدائم له، فأنهى حياتها.
ـ بل هي انتحرَت بسببكَ!
ـ بسببي؟ ولماذا؟ بذلتُ جهدي لحمايتها وحمايتكم جميعًا. أنتِ إبنة عقوقة ولا أريدُ رؤيتكِ بعد الآن! عودي إلى المجرم الذي حرَمكِ مِن أمّكِ! فأنتما تستحقّان بعضكما!
نادى أبي الممرّضة وأمرَها بإخراجي. بكيتُ طوال طريق العودة، وفور تواجدي لوحدي مع عمّي، أخبرتُه بالحديث الذي دار بيني وبين أبي.
سَكَت عمّي مطوّلاً ثمّ قال والدموع تملأ عَينَيه:
ـ قد يكون أبوكِ على حق.
ـ ماذا؟!؟ أنتَ قتلتَ أمّي؟!؟
ـ ليس مباشرة، لا تخافي. ما قالَه أخي عن تواجدي في بيتكم ذلك اليوم صحيح، لكن عندما تركتُ والدتكِ كانت حيّة تُرزَق.
ـ لماذا إذًا...
ـ ما عنَيتُه هو أنّني قد أكون أثّرتُ على قرار أمّكِ بإنهاء حياتها. إسمعي، لستِ صغيرة بل أصبحتِ صبيّة ناضجة وواعية، ويُمكنكِ، على ما أظنّ، فهم ما سأقولُه لكِ. عاشَت والدتكِ في شبه سجن معنويّ وجسديّ مع زوجها الذي، كما اتّضَحَ، يُعاني مِن مشاكل نفسيّة كبيرة. وهي وجَدَت فيّ أذنًا صاغية لمشاكلها، ونَمَت في قلبها عاطفة تجاهي تحوَّلَت إلى حبّ. كنتُ مِن جهّتي مُغرمًا بها إلى أقصى درجة ففرحتُ للأمر، إلا أنّنا لم نزنِ ولو مرّة واحدة. بقيَ حبّنا نقيًّا يقتصرُ على الكلام الرومانسيّ والنظرات. فلم يشأ أيّ منّا الوقوع في الخطئية وكنّا متحمّلَين مسؤوليّة اختيارنا لشريكة حياتنا. إلا أنّني في ذلك اليوم عَرَضتُ على والدتكِ الهروب معي ومعكم، أنتم أولادها، إلى خارج البلاد. كنتُ أرى حالتها، ولَم أعد أتحمّل رؤية حزنها ويأسها. لكنّها رفضَت خوفًا مِن معاتبتكم لها عندما تكبرون. بكينا سويًّا وقلتُ لها إنّني لم أعد أحتمّل الوضع الذي نحن فيه، لأنّه كان بمثابة عذاب لي، وأضفتُ أنّني سأتوقّف عن رؤيتها. قصدتُ بذلك الضغط عليها لتغيّر رأيها، ولَم يخطر ببالي أبدًا أنّني سأخلقُ في قلبها يأسًا أكبر مِن الذي هي فيه، وأنّها ستشعرُ أنّني أتخلّى عنها. بعد خروجي، قرّرَت أمّكِ، وللأسف، أنّ الموت أفضل مِن العَيش في الوحدة. أجل، أشعرُ أنّني قتلتُها. يا ليتني لم أقل لها ذلك الكلام! لكن كيف لي أن أعلم ما يدور في رأسها؟
ـ ولهذا السبب قمتَ بتربيتنا؟ لأنّكَ شعرتَ بالذنب؟
ـ لا... بل لأنّكم جزء منها، ولأنّني أعرفُ أنّها، أينما هي الآن، مطمئنّة البال عليكم. لقد أحببتُ أمّكِ مِن كلّ قلبي وسأظلُّ أفعل حتى آخر أيّامي.
ـ وزوجتكَ؟
ـ هي سعيدة معي ولا تعرفُ بشيء وأنا أعاملُها باحترام ومحبّة. لا ذنب لها بمشاعري تجاه والدتكِ، ولن أدعُها تعرف يومًا أنّني كنتُ على وشك تركها مِن أجل أخرى.
ـ لن تعرف شيئًا، لا عليكَ.
ماتَ والدي بعد فترة ليست بطويلة، بعد أن تشاجَرَ مع مريض آخر وطعنَه هذا الأخير بآلة حادّة. كان قد اتّهمَه بأنّه جاسوس وقاتل مأجور، هلوسة أخيرة دفَعَ ثمنها غاليًا.
بقينا مع عمّنا وزوجته إلى أن تزوّجنا كلّنا. وكلّما أجلسُ مع عمّي لوحدنا، أطلبُ منه أن يُخبرني عن أمّي حين كانت امرأة سعيدة. فهكذا أريدُ أن أُبقيها في ذاكرتي إلى الأبد.
حاورتها بولا جهشان