كم ندمتُ لقبولي بالزواج مِن عدنان، لكن كيف كان لي أن أعلم ما ينتظرُني؟ فقد كنتُ لا أزالُ في السادسة عشرة، وأعتقدُ أنّ الحبّ هو أهمّ ما في الدنيا وأنّ ذلك الشاب الوسيم سيكون زوجًا مثاليًّا.
المشكلة كانت أنّ عدنان لم يكن مثاليًّا بشيء، إذ أنّه كان قد ترَكَ المدرسة في الثانية عشرة من عمره، وأخَذَ يُفتّش عن المال بطرق غير شرعيّة، لأنّه كان إنسانًا كسولاً يكرهُ كلّ مَن كان يملكُ أكثر منه، ويؤمن بأنّ له الحقّ بأخذ ما يشاء مِن أيّ أحد. إضافة إلى كل ذلك، كان عدنان زير نساء، يستفيدُ مِن سذاجة البنات ليرميهنّ بعد أن يأخذُ أغلى ما لدَيهنّ.
والسّبب الوحيد الذي حمَلَ ذلك الوغد على الزواج منّي، هو أنّني ابنة رجل مُكتفٍ مادّيًّا، وهو تصوَّرَ أنّه سيعيشُ مِن مالنا طوال حياته ولا يضطرّ إلى الإنشغال بالتفتيش عن لقمة عَيشه.
إلا أنّ أبي لم يقبل به بتاتًا، فأنا كنتُ لا أزال تلميذة، وأمامي مستقبل لامع مهنيًّا وعاطفيًّا. فلو سارَت الأمور طبيعيًّا، لكنتُ أصبحتُ طبيبة أو مهندسة وتزوّجتُ مِن شاب يُشاركُني طموحي ومكانتي الإجتماعيّة.
تعرّفتُ إلى عدنان بطريقة خلتُها صدفة، إلا أنّه كان قد افتعَلَ هذا اللقاء بعدما سأَلَ عن أيّة صبيّة ثريّة ليُلقي شباكه عليها، ودلّوه على بيتنا. فصارَ يروح ويجيء في حيّنا على أمل أن أراه وأؤخَذ بوسامته، الأمر الذي حصَلَ فعلاً. فهكذا أشخاص لا يتراجعون عن هدفهم.
لَم يتطلّب الأمر أكثر مِن بضع نظرات ومجاملات لأقع تحت سحر ذلك الشاب، فكنتُ في ذلك الحين فتاة بريئة وبعيدة كل البعد عن مخاطر الحياة، وكلّ ما كنتُ أعرفُ عن الحب حصلتُ عليه مِن الكتب والأفلام.
خطّة عدنان كانت أن أٌعطيه نفسي وأحمل منه، الأمر الذي سيُجبر أهلي على القبول به والإسراع بتزويجي إيّاه خوفًا مِن الفضيحة. لكنّني فتاة شريفة، ولَم يكن واردًا أبدًا أن أدَع أحدًا يلمسني خارج نطاق الحلال. حاوَلَ عدنان جهده لإقناعي بالإستسلام له خلال مواعيدنا السرّيّة، لكن مِن دون نتيجة، الأمر الذي أغضبَه كثيرًا وحملَه على تهديدي بالتوقّف عن حبّي وتركي. إلا أنّني بقيتُ صامدة، فلَم يعد أمامه سوى طريقة واحدة، وهي طلَب يدي رسميًّا مِن ذويّ.
تفاجأ والدي كثيرًا بالشاب الذي دخَلَ بيتنا بقصد الزواج لأنّه لم يكن يُناسبني بتاتًا. وبعد بعض أسئلة تقليديّة علِمَ أبي مِن خلالها مِن فَم حبيبي أنّه شبه أمّيّ وبلا عمل ويسكنُ مع أهله، فطلَبَ منه، وبكلّ بساطة، أن يكفّ عن رؤيتي وينتزع مِن رأسه تلك "الفكرة المجنونة".
خرَجَ عدنان مِن بيتنا مستاءً للغاية ومصمّمًا أكثر مِن الأوّل على الزواج منّي.
في اليوم التالي عَرَضَ عليّ حبيبي أن نهرب سويًّا ونتزوّج سرًّا، واضعَين أهلي أمام الأمر الواقع، وأكَّدَ لي أنّ في هكذا حالات، يرضى الأهل عن بناتهم بعد فترة قصيرة. خفتُ كثيرًا مِن الإقدام على هكذا خطوة، فكنتُ أحبّ والدَيّ وأحترمهما، لكنّ حبّي لعدنان كان أقوى.
لِذا اتّفقنا على التواعد في ساعة متأخّرة مِن الليل، بعد أن أخرج مِن المنزل خفية حاملة معي بعض الأمتعة، وطبعًا مجوهراتي. كان عدنان بانتظاري في سيّارة إستعارها مِن إبن عمّه، وهربنا بسرعة إلى أهله الذين كانوا بانتظارنا بصحبة شيخ سارَعَ إلى عقد قراننا. وهكذا أصبحتُ زوجة عدنان، أي مِن دون أن ألبس فستانًا أبيض أو يُقام لي حفل جميل. ولكن منذ اللحظة الأول تبخّرَت أحلامي كلّها... والذي كان ينتظرُني كان أفظَع بكثير.
بعد اكتشاف أمّي غيابي وسماع أبي بزواجي، أسرعَ بإعلان حرماني مِن كلّ شيء، لأنّه عرفَ أنّ عدنان يسعى وراء مالنا. وعندما علِمَ زوجي بالأمر، بدأ يشتمُ ويُهدّدُ، وأعترفُ حقًّا أنّني خفتُ منه.
كنّا قد سكنّا مع أهله الذين لَم يروا فيّ سوى مصدر للمال، ولكن سرعان ما بتُّ ثقلاً عليهم. فبالكاد كانوا يجدون ما يأكلونه هم، وها قد صارَ لديهم فم إضافيّ لإطعامه. بدأوا بشتمي واهانتي وقرّروا الاستفادة منّي بتحويلي إلى خادمة وطاهية وضيعة، الأمر الذي لَم يُزعج عدنان بتاتًا، بل ساعده على التركيز على إيجاد حلّ لمشكلة أبي وعلى ملاحقة النساء للهو معهنّ.
ووسط شقائي، وصلَت إلى حيث أسكن سيّدة لَم أرَها بحياتي زعمَت أنّها ابنة خالتي. كنتُ على وشك فضح أمرها، إلا أنّها غمَزَتني لأُجاريها بكذبتها. وبعد أن أصبحنا لوحدنا قالَت لي:
ـ لقد أرسلَتني إليكِ أمّكِ. هي تريد أن تعلَمي أنّها تفكّر بكِ يوميًّا، إلا أنّها لا تستطيع القدوم إليكِ بعد أن منَعَها أبوكِ مِن ذلك. ولقد بعثَت لكِ هذه.
وأخَرَجَت المرأة مِن حقيبة يدها علبة دواء تحتوي على أقراص لمَنع الحمل، وأضافَت:
ـ تطلبُ منكِ والدتكِ أن تثقي بها وأن تأخذي هذه الأقراص يوميًّا وسرًّا. وإيّاكِ أن تُخبري أحدًا بالأمر!
حاولتُ معرفة المزيد مِن هذه المرأة، إلا أنّها امتنعَت عن الكلام ووعدَتني بزيارتي قريبًا. بعد رحيلها، أخذتُ قرصًا وخبّأتُ العلبة في مكان آمن.
بعد أشهر على زواجي، إحتارَ أهل عدنان لأمري لأنّني لم أكن أحمل، أمّا زوجي فصارَ عدائيًّا معي ويُناديني بصفات شتّى أقلّها "العاقر"... وبكيتُ كثيرًا. كنتُ أودّ أخبارَهم بأنّني لستُ بعاقر بل أنّني آخذ أقراصًا، لكنّني بقيتُ صامتة وواضعة كلّ ثقتي بأمّي. فالحقيقة أنّ إنجابي لولد أو بنت كان سيُؤمِّن لهؤلاء القَوم حياة مريحة، فلَم يكن بإمكان أبي حرماني شرعًا مِن الميراث، خاصّة عندما يكون لدَيه حفيد، لِذا كان يجب عليّ أن أحبَل.
وأفظَع ما في الأمر أنّ والدة عدنان باتَت تدخل غرفة النوم أثناء ممارستنا للجنس، لترى إن كان إبنها يقومُ بما يجب وكما يجب، الأمر الذي أرعَبني وأحزنَني إلى أقصى درجة. فقد شعرتُ أنّني لم يعد لديّ أيّة خصوصيّة بعد أن صاروا يعتبروني أداة إنجاب وحسب.
فكرّتُ طبعًا بالهرب، لكن إلى أين؟ فباب بيت أبي كان مُقفلاً بوجهي، ولَم أكن أريدُ أن أهيم في الطرقات. إضافة إلى ذلك، قالَت لي ابنة خالتي المُزيّفة إنّ الفَرَج قريب، وعليّ الصبر قدر المستطاع وعدَم اتخاذ أيّ قرار فرديّ.
عادَت تلك الزائرة واضعة على وجهها وشاحًا، لأنّها، وحسب قولها، مُصابة بزكام حاد ولا تريدُ تمرير مرضها لي. لكن كَم كانت مفاجأتي كبيرة عندما اختلَينا، وأزالَت وشاحها فاكتشفَت أنّها أمّي! عانقتُها بقوّة وبدأتُ بالبكاء طالبة منها السّماح. وهي بكَت معي ثمّ قالَت:
ـ الذنب ليس ذنبكِ وحدكِ يا صغيرتي بل ذنبنا أيضًا... لقد أبقَيناكِ في حالة جهل خوفًا عليكِ، بدلاً مِن أن نُخبركِ عن الحياة والناس، حتى صدّقتِ كلام أوّل شاب التقَيتِ به... حبسناكِ في البيت كي لا يحصل لكِ مكروه، في حين كان يجب أن ندعَكِ تختلطين بصديقاتكِ لتسمعي أخبارهنّ وتلمسي أخطاءهنّ. أنتِ فتاة ذكيّة إلا أنّنا لم نثق بكِ كفاية. ولكن حصل ما حصل، ولا ينفع البكاء الآن بل حان وقت التصرّف. إسمعي جيّدًا ما سأقولُه لكِ ونفّذيه بحذافيره. أفهمتِ؟
ـ وأبي؟ كيف هو وهل ما زال غاضبًا منّي؟
ـ دعيكِ مِن أبيكِ الآن.
غادَرَت أمّي بعد أن غطَّت وجهها مِن جديد، وشعرتُ بوحدة عميقة وخوف شديد. عدتُ إلى غرفتي، وأخذتُ أراجع في رأسي تعليمات والدتي، وصلَّيتُ بقوّة طالبة مِن الله أن يبقى إلى جانبي.
طالَ انتظاري، فلَم يحدث شيئ خلال حوالي الأسبوع، حتى خلتُ أنّ الخطّة إلتغَت، فأصابَني إحباط كبير إذ كنتُ سأقضي حياتي تعيسة ووحيدة!
لكن ذات ليلة حَدَث أمر كدتُ لا أصدّقُه:
سمِعنا خبطًا قويًّا على الباب، وحين فتَحَ والد زوجي، دخَلَ أبي بصحبة رجلَين ضخمَين للغاية وصرَخ: "أين ابنتي؟!؟
ركضتُ إليه ومعي أمتعتي ومجوهراتي التي كنتُ قد سحبتُها خلسة مِن خزانة حماتي، كما أمرَتني أمّي أن أفعل. كانت أيضًا قد طلَبَت منّي مُلازمة المنزل وعدَم الخروج منه لأيّ سبب، فلَم يكن مِن المعلوم متى ستُنفَّذ الخطّة.
ووقفتُ وراء أبي أرتجفُ مِن الخوف، وعندما نظرتُ إليه كانت ملامحه قاسية وجدّيّة للغاية.
حاوَلَ عدنان التدخّل، إلا أنّ رجال أبي ألقياه بقوّة في آخر الصالون وأبرحاه ضربًا إلى أن هدأ أخيرًا. عندها قال له والدي بلهجة لا تسمح المناقشة:
ـ إن فكَّرتَ أنّني سأتخلّى عن إبنتي، فها أنتَ تكتشفُ كَم أنّكَ مُخطئ... كنتُ غاضبًا مِن صغيرتي، إلا أنّ زوجتي بيّنَت لي مدى تعاسة صغيرتي وسوء معاملتها مِن جانب أناس مثلكم. ولا يُمكن أن أتركَ إبنتي تدفع ثمَن طَيش سببه صِغر سنّها، فأنا حاميها والمسؤول عنها وعن سعادتها حتى آخر نفَس. إسمع... إسمعوا جميعكم... سآخذ صغيرتي الآن وهي لن تعود إليكم أبدًا. وأنتَ، أيّها السافل القذر، ستطلّقُها غدًا صباحًا وإلا أقسمُ أنّني سأقلبُ حياتكَ جحيمًا عليكَ وعلى أفراد عائلتكَ البائسة. والضرب الذي تلقَّيتَه الآن ليس شيئًا أمام ما ينتظرُكَ إن تخلّفتَ عن تنفيذ أوامري. أجل أوامري، فلدَيّ الحق بأن آمر إنسانًا كسولاً ومحتالاً مثلكَ، لأنّني رجل عصاميّ، بنَيتُ ثروتي مِن عرق جبيني وليس مِن سرقة تعَب الآخرين. لن أكرّر تحذيري مرّة أخرى بل سأنفّذ تهديدي.
خرَجنا مِن البيت وركِبنا السيّارة ورحَلنا. وطيلة طريقنا كنتُ أعانقُ أبي بقوّة، فكَم كنتُ سعيدة وفخورة به! فوالدي لَم يخذلني ولم يتخلّ عنّي كما اعتقدتُ، بل قامَ بدوره كأب، بفضل أمّي الحنونة التي عرفَت كيف تغيّرُ رأيه، وتجعلُه يُدركُ أنّ حياة ابنته أهمّ بكثير مِن كبريائه.
طلَّقني عدنان في اليوم الثاني، بعد أن فَهِمَ أنّ والدي لم يكن يمزح أبدًا بل كان جدَّيًّا للغاية. بعد ذلك، جلستُ مع والدَيَّ، فقال كلّ منّا ما في قلبه.
وبعد أن تخرّجتُ مِن الجامعة، تعرّفتُ إلى شاب بإمكانه إسعادي حقًّا ولا يسعى إلى وضع يده على ثروتي، لأنّه إنسان طموح لا يخاف مِن العمل الشاق للوصول إلى أهدافه... وفرَحُنا بعد أشهر قليلة!
حاورتها بولا جهشان