هل كان زوجي فعلاً حزيناً على موت زوجته السابقة؟

كانت زوجة أيمن قد توفيِّت قبل عامين، عندما إلتقيتُ به عند قريبتي وزوجها، وما جذبَني إليه، كان الحزن البائن في عينيه.
وعندما علمتُ سبب هذه التعاسة، شعرتُ بالحاجة الماسّة إلى إحتضانه والتخفيف مِن آلامه. فسألتُ عنه وأعربتُ عن رغبتي في أن أراه مجدّداً وإهتمّت إبنة عمّي بالأمر دون أن يشعر أيمن بأنّني معجبة به. وفي لقاءنا الثاني الذي دُبِّرَ على أنّه حصلَ بالصدفة، تسنّى لي أن أجلس معه مطوّلاً وأن نتبادل الأفكار والآراء. وزادَ إعجابي به لكثرة ثقافته وعمق تفكيره ولاحظتُ عليه حبّه للإستماع للآخر وأُدهشتُ بصواب نصائحه. أي أنّني وجدتُ فيه الرجل الذي تحلم به كل إمرأة. وحين طلبَ منّي رقم هاتفي، بدأ قلبي يدقّ بسرعة ووافقتُ بالطبع أن نبقى على تواصل.
وهكذا بدأت قصّتنا التي أخذَت طابعاً رومانسيّاً وأصبحنا ثنائياً جميلاً يتكلّم عنه الجميع. وكان مِن الطبيعي أن نربط مصيريَنا ببعضهما ونتزوّج لنقضي باقي حياتنا سويّاً، نحبّ بعضنا إلى الأبد.

ولكن أمور كثيرة بقيَت غامضة، لم أنتبه إليها لكثرة إنشغالي بحبّي له ولو أخذتُ وقتي لكنتُ قد لاحظتُها. ولكن "الحب أعمى" كما يقولون وقلتُ له "نعم" دون أن أفكّر بشيء آخر. قضينا شهر عسلنا في كوخ جميل في أعلى جبال إيطاليا وعدنا إلى البلد لنكمل ما بدأناه وإستقريّنا في منزل أيمن حيث كانت تعيش أيضاً بشرى زوجته المتوفّاة. ولم أزر بيته كثيراً قبل الزواج، خوفاً مِن كلام الناس، لكنّني كنتُ قد مررتُ بسرعة مرّة أو إثنين برفقة أيمن عندما قرّرنا الزواج، لأرى تقسيم المكان وإن كنّا بحاجة إلى شراء أشياء جديدة. وكنتُ قد رأيتُ آنذاك صور المرحومة معلّقة على الحائط ووجدتُ ذلك طبيعيّاً نظراً لحبّه الشديد لها ولحزنه على فقدانها بعد سنة فقط على زواجهما.
كانت المسكينة قد أُصيبَت بمرض خبيث أخذها في غضون أشهر، الأمر الذي فاجأ الجميع وسبّب لهم الأسى العميق. ولكن بعد عودتنا من إيطاليا، لم أجد أيّ صورة لبشرى في البيت وأعترف أنّني إرتحتُ للأمر، فكنتُ آتية لأخذ مكانها ولم أكن متحمّسة لرؤيتها وهي تنظر إليّ طوال النهار. لم أقل شيئاً لأيمن ولكنّني شكرتُه ضمنيّاً على هذه اللفتة الجميلة. والمفرح في الموضوع، أنّ حزن زوجي كان قد إختفى كليّاً وإعتبرتُ طبعاً أنّ الأمر عائد إليّ وإلى المجهود الذي بذلتُه لكي أخفّف من تعاسته. ولكنّ مزاجه الجيّد كان مفرط وكأنّه لم يفقد زوجته الأولى قط ورغم إرتياحي، وجدتُ ذلك مهين بعض الشيء لذكرى إنسانة تقاسم معها أيّاماً جميلة. ولكنّني لم أقل له شيئاً خوفاً أن يستعيد حزنه القديم وبدأنا حياتنا سويّاً. ولكن في ذات يوم إتّصلَت بي إمرأة على هاتف البيت. في البدء ظننتُ أنّها تريد أن تبيعني شيئاً وكنتُ على وشك أن أقفل الخط حين قالت:

 

- أنا والدة بُشرى.

 

تلبّكتُ كثيراً لأنّني شعرتُ وكأنّني دخيلة وأنّ والدة المرحومة أتّصلَت بي لتلومني على أخذ مكان إبنتها. ولكن الواقع كان مخالفاً لما ظننتُ. أضافَت المرأة بعد أن إستطعتُ أن ألفظ بضعة كلمات ترحيب:

 

- آسفة للإزعاج... أعلم أنّكِ لم تتوقّعي إتّصالي ولكن كان عليّ التحدّث إليكِ لأنبّهكِ...

 

- تنبّهينني؟ على ماذا؟

 

- على أيمن...

 

- يا إلهي! هل هناك مِن خطب؟ هل حصل له مكروهاً؟

 

- لا... ليس شيئاً من هذا القبيل... إسمعيني... أنتِ في سنّ إبنتي عندما ماتت وتعيشين في البيت الذي كانت تسكن فيه، آملة أن تقضي سنيناً طويلة مع زوج محبّ...

 

- عذراً ولكنّني لا أفهم قصدكِ

 

- سأكون صريحة معكِ... إحذري مِن أيمن فهو ليس كما تتصوّرين.

 

- سيّدتي... إحتراماً لسنّكِ ولحزنكِ على فقدان إبنة شابة سأكتفي بإقفال الخط، لأضع حدّاً لمكالمة سببها غضبكِ على صهركِ لأنّه بقيَ حيّاً بينما ماتت إبنتكِ وأرجو ألّا تتّصلي بي مجدّداً.

 

- أرجوكِ أن تدعيني أكمل...


ولكنّني أنهيتُ المكالمة لأنّني لم أشأ إعطاءها الفرصة لهدم زواجي وقرّرتُ ألّا أخبر أيمن بالأمر، خوفاً مِن أن يعكّر ذلك مزاجه ويعود إلى الإكتئاب مجدداً. ورغم ذلك، لاحظ زوجي أنّني لستُ مرتاحة وأنّ شيئاً يُقلقني ولكنّني لم أجب على تساؤلاته. والحقيقة كانت أنّ ما قالته لي أمّ بشرى بقيَ في بالي رغم أنّني إعتبرتُه محاولة زجّ البلبلة بيني وبين زوجي وقررتُ أن أسأل شخصاً آخراً عن حياة أيمن مع زوجته المتوفّاة. لذا قصدتُ إبنة عمّي، أي التي بفضلها تعرّفتُ إلى الذي أصبح شريك حياتي. وهذا ما قالته لي:

 

- أعرف أيمن منذ ما كنّا في الجامعة ومِن ثمّ إنقطعت أخباره عنّي حتى أن فقد زوجته. وعندما إلتقيتِ به هنا، كانت المرّة الثانية التي أراه فيها بعد موت بُشرى قبل سنيتن... لا أستطيع مساعدتكِ أنا آسفة... ولكن لماذا هذا السؤال والآن بالذات؟ لماذا لم تحاولي معرفة هذه التفاصيل قبل زواجكِ منه؟

 

- ليس هناك مِن سبب... غير الفضول طبعاً!

 

وضحكنا سويّاً وإحتسينا القهوى ورحلتُ. ولأنّني لم أكن مطمئنّة وأردتُ إزالة الشكّ مِن رأسي بشكل نهائي، قررتُ أن أعرف الحقيقة مِن فم التي زرعت الفكرة مِن الأوّل، أيّ أمّ بُشرى. ذهبتُ إلى البيت وفتّشتُ في الهاتف على الرقم الذي كان لا يزال مسجّلاً في ذاكرة هاتفي وإتّصلتُ بها قائلة:

 

- أنا بحاجة إلى التحدّث معكِ ولكن هذا لا يعني أنّني أصدّقكِ، بل أريد فقط الإستماع إلى ما ستقولينه لأرتاح وأتابع حياتي الزوجيّة بسلام.

 

وهكذا أخذتُ منها موعداً وقصدتُ منزلها في اليوم التالي. وعندما فتحَت لي الباب، رأيتُ إمرأة هزيلة وحزينة تنظر إليّ بلطف ومحبّة. أدخلَتني إلى صالونها المليء بصور إبنتها الراحلة وإنتابني شعور بالأسف على شبابها. جلسنا وقالت لي تلك السيّدة دون مقدّمة:

 

- أيمن ليس الرجل المحبّ الذي تخالينه... على الأقل أستطيع القول أنّه لم يحبّ إبنتي كما يجب، خاصة خلال مرضها... فهو لم يمتنع يوماً عن معاشرة نساء أخروات حتى عندما كانا مخطوبان وبقيَ يواعد صديقاته بعد الزواج وبعد أن علِمَ بوضع بُشرى... كان يتركها لوحدها راسية في السرير ويعود عند الفجر، حتى أن قرّرَت أخيراً أن تخبرني بما يجري... عندها صمّمتُ على التحدّث معه لكي يحترم بعض الشيء شعور إنسانة ضعيفة تصارع المرض والموت، وكل ما وجدَ ليقوله كان: "ما زلتُ شاباً وأريد الإستمتاع بالحياة ولم أتسبّب بمرض إبنتكِ وليس عليّ تحمّل المسؤوليّة... أفعل اللازم أي آخذها إلى الأطبّاء وآتي لها بالدواء ولكن لا تنتظروا منّي أن أجلس معها وهي مريضة، فأنا لستُ ممرّضاً"... وبعد أشهر قليلة توفيَّت إبنتي العزيزة ومِن الجيّد أنّني كنتُ برفقتها في المستشفى بعدما أخذتُها بنفسي إلى هناك، لأنّه لم يكن يجيب على هاتفه لكثرة إنشغاله بغيرها.

 

بقيتُ صامتة طوال الوقت، أستمع إلى ما تقوله أمّ بُشرى ولكنّ دموعي كانت تنهال على خدودي. هل يُعقل أن يكون زوجي بهذه الطبّاع البشعة أم أنّ المرأة تختلق كل هذه الأكاذيب لتنتقم منّي لأنّني أخذتُ مكان إبنتها؟ شكرتُها على ما قالته لي وخرجتُ من منزلها دون أن أنظر إلى صور بُشرى، خوفاً مِن أن أكون قد ظلمتُها هي وأمّها. وإتّجهتُ فوراً عند إبنة عمّي التي فوجئت برؤيتي مجدّداً وقلتُ لها بحزم:

 

- أخبريني كيف كان أيمن عندما كان في الجامعة وكيف وجدتِ طباعه بعد موت زوجته... ولا تسألي لماذا أريد ان أعرف كل هذا.

 

نظرَت إليّ بدهشة ثمّ قالت:

 

- كان أيمن شاب عادي... علاماته جيّدة... لطيف ويحبّ مساعدة الناس...

 

- وماذا عن حياته العاطفيّة؟

 

- كان لديه حبيبة آنذاك... إسمها... نسيتُ إسمها... ولكن أتذكّر الآن أنّهما لم يمكثا مطوّلاً سويّاً بالرغم أنّنا ظننّا أنّهما باقيان معاً إلى الأبد...

قالَت تلك الفتاة أنّه كان على علاقة مع أخرى وأنّها رأتهما سويّاً في موقف حرج أثناء حفل آخر السنة، فتركته.

 

عندها شعرتُ أنّ أمّ بسرى قالَت لي الحقيقة. ولم يبقى لي سوى التكلّم مع زوجي، ففي المساء أخبرتُه عمّا سمعتُ عن معاملته لِزوجته السابقة فأجابني بكل وقاحة:

 

- أنا أكره المرَض... والمرضى... ينتابني شعوراَ باليأس ومِن حقّي أن أكون سعيداً.

 

- حتى لو كان المريض مِن أقرب الناس إليكَ؟

 

- عندما مرضَت أمّي وضعتُها في مؤسّسة خاصة، فأنا لستُ ممرّضاًً.

 

عندما سمعتُه يقول الكلمات ذاتها التي أخبرَني عنها أمّ بشرى، تأكّدتُ أنّها لم تكن تكذب. وتابعتُ:

 

- وفي حال أُصبتُ أنا في مرض ما... ماذا ستفعل بي؟

 

- سأجلبُ لكِ طبيباً وأدوية.

 

- وتبقى إلى جانبي؟

 

- لا.

 

وحين لفظََ تلك الكلمة إختفى حبّي له في ثانية واحدة وفهمتُ أنّني لن أستطيع العيش مع إنسان أناني لن يهتمّ بي في حال وقعتُ في المرَض وغشّاش مثّل دور الزوج المفجوع لينال شفقة الجميع. وبعد فترة، حصلتُ على الطلاق الذي طلبتُه منه. وبينما لا أزال أبحث عن الرجل الذي يعرف كيف يكون الحب الحقيقي، لم أتوقّف عن زيارة أم بشرى بعدما أصبحنا مقرّبتين جداً.

 

حاورتها بولا جهشان    

المزيد
back to top button