هربتُ مِن زوجي ليلًا (الجزء 2)

... وتعانقنا مطوّلا ولم أكن أريد افلاته خوفًا مِن أن يكون جمال طيفًا اختلَقَته عينايَ مِن الظلمة. ولكنّه كان حقيقيًّا، وأخَذَني بيَدي إلى سيّارته المركونة بعيدًا وقادَ بي بصمت إلى بيت في الجبل. طيلة المسافة بقيتُ أنظر أمامي محاولة استيعاب الذي فعلتُه وكيف أنهَيتُ أخيرًا عذابي. أمّا جمال، فأظنّ أنّه كان يُفكّر بالمسؤوليّة الكبيرة التي حمَّلها لنفسه بخطفي مِن زوجي.

 

وصلنا إلى ذلك البيت عند طلوع الفجر وكان المكان مظلمًا، ومِن الغبار الذي كان يُغطّي الأثاث، علِمتُ أنّ أحداً لم يسكنه منذ زمن بعيد. وفي تلك الليلة نمتُ لوحدي في سرير قديم وشراشف رطبة.

 

وفي الصباح الباكر، تمّكنتُ أخيرًا مِن التحدّث إلى حبيبي الذي قال لي:

 

ـ كنتُ آتي إلى هنا عندما كنتُ صغيرًا وألعب في الحديقة... إنّه منزل جدّي، رحمه الله... ورثتُه منذ سنين قليلة ولم أتصوّر أنّني سأعود إليه اليوم.

 

ـ هل أنتَ نادم؟

 

ـ نادم؟ أبدًا يا حبيبتي ردَينة! أنا أسعد رجل في الدنيا! ولكنّني أسأل نفسي عمّا يدور في منزل زوجكِ الآن... فلا بدّ أنّهم اكتشفوا رحيلكِ.

 

ـ لا يهمنّي الأمر فأنا بعيدة عنهم... أنا معكَ... بأمان.

 

ـ صحيح... ولكنّهم سيعلمون أنّكِ هربتِ معي... عليّ التفكير بخطّة دفاع متينة... وعليّ العودة بسرعة إلى العمل... هناك طعام وماء في المطبخ داخل أكياس جلبتُها معي... خذي جوّالي فالمكان معزول هنا... سأتصل بكِ بين الحين والآخر... سأعود في المساء.

 

وقبّلني بحنان وانطلقَ إلى المدينة. كنتُ خائفة ولكن سعيدة في آن واحد، وكي أشغل نفسي بدأتُ أرتّب المكان لنستطيع المكوث فيه.

 

في تلك الأثناء، عادَ جمال إلى الشركة وتصرّف بشكل طبيعيّ، إلى أن وصَلَ زوجي بسّام وأخَذَ يُهدّده ويدفعه إلى الاعتراف بمكان وجودي. ولكنّ حبيبي بقيَ يُنكر حتى استدعى رجال الأمن فرموا بزوجي خارج الشركة.

 


وعندما عادَ جمال إلى الجبل في المساء، أخبرَني بالذي حصل، وأخذنا نفكّر جيّدًا بما علينا فعله كي لا يتمّ العثور عليّ.

 

ولكن لم يخطر ببالنا أنّ بسّام سيطلب الشرطة وسيُقاد حبيبي إلى التحقيق، الأمر الذي سيُسيء إلى سمعته ويُهدّد مركزه في الشركة.

كل ذلك حصل في اليوم التالي، ولكنّ جمال لم يقل لي شيئًا بل قرأته في الرسالة التي تركَها لي قبل أن يرحل، والتي وجَدتُها مع مبلغ مِن المال. كان جمال قد تركَني لوحدي في ذلك البيت المخيف ورحل... عاد إلى حياته بعدما وعَدَني بأنّه لن يتخلّى عنّي أبدًا.

 

كم بكيتُ؟ أكثر ممّا بكيتُ طوال حياتي، فالهجر والخذلان أصعب مِن الاهانات والضرب.

 

هل كان جمال جبانًا أم أنّه انجرَفَ بالرومانسيّة ونسيَ أنّه موظّف بسيط يحتاج إلى راتبه ليعيش؟ مهما كان السبب لم أستطع مسامحته، فهو الذي دفَعَني إلى الهروب ووعَدَني بأنّه سيكون على قدر هذه الخطوة الخطيرة. لكنّه لم يصمد أكثر مِن يومَين، وتراجَعَ عن مشروع حبّ كان مِن المفترض أن يدوم العمر كلّه. وأمام ضياعي، تمنَّيتُ لو بقيتُ في بيت زوجي المتوحّش مع أمّه الأفعى وزوجته الماكرة.

 

لم أخرج مِن البيت لمدّة أسبوع بكامله ولم أفتح شبّاكًا واحدًا. بقيتُ في الظلمة أبكي وأتحسّر وأفكّر بالذي أصابَني. لم أحاول الاتصال بأحد وخاصة جمال، مع أنّني وجَدتُ بقائمة الاتصالات أرقام المكتب والأصدقاء. صحيح أنّني ذقتُ الذلّ عند زوجي، ولكنّني لم أكن مِن اللواتي تتوسّلنَ لأحد. وهو لو أراد العودة لفعَلَ خلال ذلك الأسبوع. حتى اليوم أسأل نفسي كيف استطاع ذلك الرجل ترك امرأة لوحدها في بيت مهجور في أعلى الجبال، وهل لجبن الناس حدود؟

 

وبعد ذلك الأسبوع الأليم الذي قضَيتُه بالحزن والبكاء، أدرَكتُ أنّ قليل الماء والأكل كانا قد نفذا وكان عليّ إيجاد المزيد، هذا لو أرَدتُ البقاء حيّة.

ومع أنّني كنتُ قد فقدتُ الرغبة بالعيش، إلا أنّ شيئًا بداخلي دفعَني إلى المواصلة: حبّ البقاء. كبِرتُ يتيمة الأبوَين، وعشتُ سنين مع عجوز متعجرفة، وتزوّجتُ مِن طاغٍ وهربتُ مع جبان... كلّ ذلك لم يكسرني، فلِما أدَع الوضع الذي وصلتُ إليه يقضي عليَّ؟ لا! لن أستسلم!

 

خرَجتُ مِن المنزل في الصباح وأخذتُ أمشي بدون أن أعلم إلى أين أنا متجّهة. كنتُ قد أخَذتُ معي المال الذي تَرَكه لي جمال لأشتري بعض الحاجيات، وسرِرتُ عندما رأيتُ بلدة جميلة ودكّانة صغيرة تبيع الخضار والفواكه والمأكولات الأساسيّة. سألَني البائع مَن أكون فأجبتُه: "ضيفة جمال س." عندها قال لي:

 

ـ آه... ذلك الشاب المهذّب... كان يأتي إلى منزل جدّه في ما مضى... ولكنّ أبناء المدينة لا يُقدّرون ما يملكون... كم مِن الوقت ستمكثين هنا يا آنسة؟

 

ـ الوقت اللازم... أنا يتيمة واحترَقَ البيت الذي كنتُ أعيش فيه، فعرَضَ جمال عليّ المكوث في بيته... جمال هو صديق العائلة... هل مِن عمل هنا أقوم به مقابل أجرٍ؟

 

ـ البلدة صغيرة والأعمال قليلة... أنا آسف يا صغيرتي

 

عدتُ إلى البيت حزينة، بعدما أملتُ بإيجاد مورد رزق إلى حين أجد حلاً لوضعي مع زوجي.

ومرَّت الأيّام طويلة ومملّة، وأعترف أنّني كنتُ أتوقّع أن يرنّ الهاتف أو أن أسمع صوت سيّارة جمال، ولكنّ كان ذلك تمنّياً وليس أكثر.

كانت الليالي مخيفة، فكنتُ أوصد جميع الأبواب والشبابيك جيّدًا خاصّة بعد أن أصبح أهالي البلدة على علم بوجود صبيّة لوحدها في ذلك البيت القديم.

 


وعدتُ إلى البلدة لأصرف آخر ما تبقّى لي مِن مال على حاجيّات ضروريّة، ولأتكلّم مع مالك الدكّانة، أي الانسان الوحيد الذي عرفتُه منذ مجيئي إلى المنطقة. وكان ذلك الرجل الطيّب بانتظاري:

 

ـ كنتُ سأقصدكِ ولكنّني خفتُ أن تسيئي فهمي... لقد تغيّر الزمن... في ما مضى كانت العلاقات بين الناس أسهل... اليوم باتَ الكلّ يُفسّر الأمور ويُعطيها معانٍ ليس لها أي وجود... يا صغيرتي... هل تجيدين التعامل مع الصغار؟

 

ـ نعم... أقصد لا... ربما... لستُ أدري... لماذا تسأل؟

 

ـ يعني نعم... تجيدين التعامل مع الصغار وتحبّينهم كثيرًا... أليس كذلك؟

 

ـ أنا؟ أجل... ولكن...

 

ـ عظيم! لدَينا عائلة ميسورة هنا في البلدة... يأتي أفرادها إلى البلدة خلال الصيف، ثمّ يعودون إلى خلف الحدود.

 

ـ وما شأني أنا؟

 

ـ لقد كلّمتُهم عنكِ... هم يبحثون عن مربّية... أقصد أنّني أقنعتُهم بأن يفعلوا... هكذا ستتمكّنين مِن الرحيل بعيدًا.

 

ـ ماذا تقصد؟ بعيدًا عن ماذا أو مَن؟؟؟

 

ـ لا تخافي يا صغيرتي... لم يأتِ أحد للبحث عنكِ ولم أحاول معرفة شيء...

 

ـ كيف علِمتَ إذًا؟

 

ـ أنا رجل عجوز... رأيتُ وسمعتُ الكثير خلال حياتي، ففي البلدات الصغيرة تحصل أشياء كثيرة بالرّغم مِن محاولة الجميع ابقاءها سريّة... وأعرف عندما يكون الانسان يُخفي شيئًا... إمرأة شابة في بيت مهجور بالجبل وصاحب المكان لا يأتي ولا يسأل... مالكِ قليل وأكلكِ أقل... الخوف ظاهر في عَينَيكِ يا صغيرتي... وعليكِ أن تخافي فالناس لدَيها قلوب سوداء... ستعملين عند تلك العائلة وسترحلين معهم... إنّهم ناس طيّبون، أضمَن لكِ ذلك... وحتى موعد رحيلكِ ستمكثين في بيتي.

 

ـ في بيتكَ؟ لا! لا أستطيع...

 

ـ دعيني أكمل... في بيتي معي ومع زوجتي... أعلم أنّ الحياة لم تكن لطيفة معكِ ولكنّ الخير لا يزال موجودًا

 

أخَذَ هاتفه واتصل بزوجته التي جاءَت بعد دقائق وأخَذَتني معها.

في تلك الليلة بكيتُ كثيرًا... مِن كثر سعادتي. وفي اليوم التالي، أخَذَتني الزوجة إلى بيت تلك الأسرة حيث خضَعتُ لاستجواب بسيط بعد أن أعطاهم منقذي ضمانته.

 

ولم أخَف في حياتي بقدر ما خفتُ في الأسبوعَين اللذَين تليا، لأنّني توقّعتُ أن يجدَني زوجي أو أن يعود جمال ولا أتمكّن مِن السفر. ولكن لم يحدث شيء واستطَعتُ الرّحيل بسلام. لم أكن بحاجة إلى أوراقي كلّها فالتي كانت بحوزتي كانت كافية، خاصّة بعدما قلتُ للجميع إنّ بيتي احترق بأكمله. إضافة إلى ذلك، كان ربّ عملي الجديد رجلاً ثريًّا ولديه نفوذ، فلم يكن تمريري عبر الحدود صعبًا.

وجاء وقت توديع محسني وزوجته. تعانقنا مطوّلاً وبكينا كثيرًا، ووعدتُهما بأن أبقى على اتصال بهما.

وتغيّرَت حياتي كلّها فأصبحَت لديّ عائلة وعمل أحبّه. زِرتُ معهم شتّى البلدان وقضيتُ أجمل الأوقات. توفّيَ صاحب البقالة بعد خمس سنوات وزوجته بعده بسنة. كنتُ أبعث إليهما برسائل وهدايا باسم ربّة عملي كي لا يستطيع أحد الوصول إليّ، وتمنَّيتُ أن أزورهما يومًا ولكنّ القدر لم يشأ ذلك.

مضى على هروبي مِن زوجي عشر سنين ولم يُحاول بسّام أو جمال العثور عليّ. وبالطبع لم أتزوّج ولم أحاول حتى أن أحب، فكيف أفعل بعد الذي مرَرتُ به؟ صحيح أنّ حياتي تغيّرَت بفضل رجل عظيم، ولكنّه ابن زمَن كان يعلم معنى المروءة والشهامة... وأين ذلك الزمن الآن؟

 

هربتُ مِن زوجي ليلاً (الجزء 1)

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button