لطالما شعرتُ بأننّي غريب وسط أهلي، ربمّا لأننّي لَم أتقبَّل طريقة عَيشهم وتصّرفاتهم التي وصفتُها بالمُلتوية. لماذا لَم أكبر لأصبحَ مثلهم؟ لستُ أدري.
فقدتُ والدي باكرًا، وحزنتُ عليه لأنّه كان أفضل مِن أمّي وأختي...بقليل. وكنتُ قد وجدتُ فيه، لفترة قصيرة، حليفًا يُمكنُه حمايتي أو على الأقل الاصطفاف معي ضدّ قرارات ظالمة ومُجحِفة. فبعد رحيل والدي إلى دنيا الحقّ، وبالرّغم مِن أننّي بالكاد كنتُ مُراهقًا، قرّرتُ أنّ عليّ أيضًا الرّحيل لكن إلى أفاق وأراضٍ بعيدة... بعيدة عن أميّ وأسمى أختي الكُبرى. لذِا اجتهَدتُ في المدرسة ولاحقًا في الجامعة، وفور حصولي على الشهادة المُرتقبة، أخذتُ الطائرة وقلبي مليء بالأحلام والآمال.
وداع أمّي وأختي لي كان باردًا، إذ أنهمّا اعتبرتا أننّي أتخّلى عنهما ليس فقط معنويًّا وجسديًّا بل أيضًا مادّيًّا. فالجدير بالذكر أننّي كنتُ، إلى جانب دراستي، أجني بعض المال بفضل عمل بسيط ليليّ في أحد المقاهي المُجاورة. لذا وعدتُهما بأننّي سأظلّ أمدّهما بما أستطيع حتى لو صِرتُ بعيدًا. لَم أعلَم حينها أنّهما ستأخذان كلامي حرفيًّا، وتنتظران منّي أكثر ممّا بإمكاني فعله.
بداياتي في الغربة كانت صعبة، أوّلاً بسبب اللغة وأيضًا لفارق الثقافة، فلزِمني زمن طويل لأتأقلَم، لكننّي نجحتُ بالانخراط في مجتمعي الجديد. وبُقيتُ طبعًا على تواصل مع أهلي في البلد عبر الإنترنت والهاتف. كنتُ ابنًا وأخًا صالحًا خاصّة عندما ابتعدتُ، فمِن المعلوم أنّ الإنسان يشعرُ بالحنين بعيدًا عن موطنه ويرى الأمور مِن زاوية أخرى.
وفي تلك الأثناء، تابعَت أختي مسيرتها لإيجاد العريس المناسب لها، فهذا كان هدفها وليس تحصيل العلم أو دخول مُعترك العمَل. فهي كانت تبحثُ عن الرّزق السّهل، وكان حلهّا الأنسَب رجل ثريّ يتقاسم معها جنى حياته ويصرفُ عليها ما يكسبه. لكنّ أسمى نسيَت أنّ شكلها الخارجيّ لَم يكن كافيًا لذلك لأنّها لَم تكن جميلة، ومستواها العلميّ وثقافتها كانتا شبه معدومتَين، فأيّ ثريّ سيُريدُها؟ لذا وقعَت أسمى في حبّ شاب عاديّ للغاية، لكن يُشبهُها مِن حيث حبّه للمال وتخطيطه للحصول على مراده بسهولة. وافقَت والدتي على ذلك العريس ربّما لأنّها أحبَّت أن يكون هو ابنها بدلاً منّي، فمنذ صغري وأنا أُخيّبُ ظنّها بطيبتي ونزاهتي.
جئِتُ أحضرُ فرَح أسمى بالرغم مِن كلفة السفَر، فكنتُ بالفعل أحبُّ أختي، وحسبتُ أنّ بالي سيطمئنّ عليها أخيرًا. وقرَّرَت أسمى العَيش مع زوجها في المنزل العائليّ كي لا تترك أمّها لوحدها... وتوفِّر المال في آن واحد.
عدتُ فرِحًا إلى غربتي، واجتهدتُ لأصل إلى مستوى عيش يُزيل القلق أخيرًا مِن نفسي. وبعد سنتَين بلغتُ حدًّا مقبولاً مِن الحياة التي كنتُ أرمي إليها، إلا أنّ والدتي دخلَت المستشفى بسبب وعكة صحيّة اتّضحَ أنّها بليغة. أرسلتُ طبعًا المال اللازم لأختي لتغطية التكاليف في غياب تأمين صحّي لها، وأعترفُ أننّي شعرتُ بالفخر بعد أن اتّصلَت بي والدتي لتثني على قيامي بمسؤوليّاتي تجاهها. بعد فترة، تحسَّنت أحوالها وأطمأنّ بالي.
كنتُ قد تعرّفتُ إلى صبيّة عاقلة ومُحبّة اسمها آنا وقرَّرَنا الزواج، فاصطحبتُها معي إلى البلد ليتعرّف إليها أهلي، وفي المناسبة نفسها لأتعرّف أنا أكثر على زوج أختي الذي لَم أرَه سوى يوم فرَحه. إستقبَلَ الجميع آنا بلطف ملحوظ وعدنا بعد أيّام إلى المهجَر. للحقيقة لَم أحبّ كثيرًا صهري، لأنّه كان يعيشُ مِن عمل غير ثابت لا يجني منه إلاّ القليل، مع أنّه لَم يدفَع أيّ إيجار كونه يعيش مع أختي عند أمّي. لَم تُزعجني القلّة بل الكسل، فلقد فعلتُ جهدي لتكوين نفسي في بلد غريب، في حين أنّه هو لَم يُحاول حتى تحسين حالته في بلده. نسيتُ الأمر بسرعة، لأننّي كنتُ مشغولاً بحبيبتي وبالتحضير للحياة الزوجيّة. فتّشنا على شقة تكون قريبة مِن عملَينا، وأرسلتُ الصوَر لأمّي وأسمى لِتفرحا لي. حصلتُ على مُباركتهما بعد أن وعداني بزيارتي يومًا في مسكني الجديد. سعر الشقّة كان باهظًا، لكنّنا كنّا سنُغطّي الأقساط مِن راتبَينا. كم كنتُ سعيدًا!
إلا أنّ بعد يومَين، عادَت تسوء حالة أميّ الصحّيّة، ما استلزَمَ دخولها مُجدّدًا المشفى، لكن في تلك المرّة لإجراء عمليّة قلب مفتوح. لَم يكن أبدًا واردًا أنّ أتأخّر عن دفع ما يلزم للعمليّة، حتى لو عنى ذلك تأخير موضوع الشقة لوقت قصير. قصير؟!؟
شرحتُ لأنا جدّيّة الوضع وتداعياته على مشروعنا، وهي تفهّمَت الأمر وعرضَت عليّ أخذ قرض مصرفيّ يُمكّنُنا مِن المضيّ في مُخطّطنا. إلا أنّني رفضتُ ذلك، لأنّني كنتُ أعلَم أنّ الدَّين يجرّ الدَّين وقد يأتي يوم وأجدُ نفسي عاجزًا عن تسديده. رأيتُ الخذلان في عَينَي حبيبتي، فقبّلتُها ووعدتُها بأنّ كلّ شيء سيصطلح قريبًا. أجرَت والدتي عمليّتها واستطعتُ الاطمئنان عليها حين عادَت إلى بيتها مِن خلال مُحادثة معها عبر الفيديو، بالرّغم مِن أنّها تكره الظهور على الشاشة شخصيًّا وتُفضّل التكلّم على الهاتف.
صهري، الذي كان عاطلاً عن العمل كعادته، لَم يستطِع طبعًا المشاركة بتكاليف العمليّة. وبقيَ عليّ تسديد ثمَن أدوية والدتي الباهظة التي عليها أخذها طوال حياتها، لكنّ ذلك لَم يكن شيئًا يُذكر نسبة لِما دفعتُه سابقًا.
وجدتُ أنّ الوقت حانَ لشراء الشقّة التي سأعيشُ فيها مع التي اختَارها قلبي، حين وقعَت أمّي عن السّلالم وكسرَت وركها. كنتُ أعلَم ما يعني ذلك لسيّدة في سنّها، لِذا لَم أتأخّر أبدًا عن دَفع ما توجَّبَ إن كنتُ أُريدُ أن أكون ابنًا صالحًا.
وجدَت آنا أنّ والدتي تقَع ضحيّة وعكات صحّيّة عديدة، ونصحَتني بالسّفر إليها للتأكّد مِن حقيقة وضعها. غضبتُ منها، فكيف لها أن تظنّ بأنّ التي أعطَتني الحياة قد تختلقُ القصص في ما يتعلّق بصحّتها؟ وما دافعها لتفعل ذلك؟ حلَّت برودة واضحة في حياتنا كثنائيّ، وسألتُ نفسي إن كنتُ قادرًا على العَيش بصورة دائمة مع إنسانة لا تأخذ بعَين الاعتبار الروابط العائليّة أو آلام الإنسان. لِذا سافرتُ إلى البلد لأعطي لنفسي الوقت المُناسِب للتفكير بمصيري وآنا، قبل أن أقترِف غلطة جسيمة بالزواج منها.
تفاجأ أهلي برؤيتي قادمًا، إذ أنّني قرّرتُ إبقاء الأمر سرًّا وانتظرتُ حتى صحَت أمّي مِن النوم لأراها. كانت المسكينة قابعة في سريرها غير قادرة على التحرّك بسبب وركها فقبَّلتُ يدَيها بحنان. تناولتُ الطعام مع أختي وزوجها، ومِن ثمّ سألتُهما عن صناديق كبيرة مصفوفة في الصالون. قيلَ لي إنّها مُخصّصة للبيع، فهم قرّروا الاستفادة مِن كلّ ما لا يلزم لِجني بعض المال. حزنتُ أن يكون ذويَّ مُجبرين على بَيع أمتعتهم، وتمنَّيتُ لو كان بمقدوري مُساعدتهم أكثر، لكنّني كنتُ بالفعل أقومُ بأقصى ما يُمكنُني. ثمّ نظرتُ إلى أختي فوجدتُها نحيلة ومُتعبة، ربمّا مِن الاهتمام بأمّنا، فأسفتُ لابتعادي عنها وعلى قراري بترك البيت. فكان آنذاك بإمكاني تفهّمهما أكثر وتقبّلهما. وقد أفقدُ أيضًا أمّي في أيّة لحظة ولا شيء يستحقُّ ذلك. وخطرَت ببالي فكرة العودة بصورة دائمة والعَيش بالقرب مِن عائلتي. ماذا عن آنا؟ سأعرضُ عليها المجيء معي طبعًا، لكنّني كنتُ أعلَم أنّها سترفضُ ذلك، فهي مِن بلد آخر ولدَيها وظيفة تُحبُّها. حزِنَ قلبي للغاية، إلا أنّني قرّرتُ الاستمتاع بأهلي قبل العودة إلى غربتي والتفكير جدّيًّا بمصيري.
في اليوم التالي رأيتُ عمّالاً يحملون الصناديق ويأخذونها بعيدًا في ناقلة. وبلحظة واحدة اتّخذتُ قراري: لن أتركَ عائلتي في العوز بعد الآن! أخبرتُ والدتي وأختي بالذي يدورُ في رأسي، واتّصلَت أختي على الفور بشقيقة زوجها تطلبُ منها المجيء. ثمّ قالَت لي: "وجدتُ لكَ العروس المُناسبة!". حاولتُ المُجادلة لكنّ الصبيّة دَقَّت الباب بعد دقائق قليلة. بالفعل كانت رؤى فتاة جميلة إلا أنّني كنتُ أحبُّ آنا حقًّا. فعلَت رؤى كلّ ما بوسعها خلال الأيّام التي تلَت لتنال إعجابي لكن مِن دون جدوى. غضِبَ أخوها منّي ودارَ بيننا جدال مُزعج ورأيتُه على حقيقته: إنسان انتهازيّ وكسول ويُريدُ إلصاق أخته بي، عالمًا أنّ شهادتي وخبرتي كافيتَان لأعيش حياة مُريحة إن قرّرتُ السّكن في البلد بصورة دائمة. وهذا الجدال بحدّ ذاته فتَحَ عَينَيّ على ردّات فعل كلّ أفراد البيت، إذ أنّني رأيتُ مِن جديد تلك النظرة التي حملَتني على الفرار منهم. أقصدُ نظرة الطمَع والاستفادة.
بقيتُ على تواصل مع آنا التي بقيَت على فكرتها الأوّليّة، وهي أنّ أحدًا يكذبُ عليّ بشأن أمّي. لِذا رحتُ إلى والدتي في السرير وطلبتُ منها أن تريني الجرح الذي خلّفَته عمليّة القلب المفتوح، وهي رفضَت "لأنّها لا تُريدُ تشويه الصّورة التي لدَيّ عنها". وجدتُ العذر صعب التصديق، لكن لدى النساء أمورًا مُهمّة لا يفهمهما الرجال. حاولتُ إسكات الصّوت الذي كان في داخلي والذي كان يقولُ لي إنّ هناك شيئًا مُريبًا، ونجحتُ بذلك.
أشكرُ أخت صهري لِكونها ساذجة، فهي التي فضحَت ما يجري، يوم جاءَت لزيارة أخيها وفي قلبها أمل بأن أغيّر رأي وأختارُها على حبيبتي الأجنبيّة، فهي قالَت لأختي: "هل زارَ أخوكِ شقّتكم الجديدة أو بعد؟ يُمكنُني اصطحابه بنفسي!". وأمام السكوت الذي حلّ بين الموجودين، قلتُ لها بحماس: "فكرة مُمتازة! هيّا بنا!". أخذَت رؤى مفاتيح مُعلّقة خلف الباب، ورحنا سويًّا إلى مبنى ليس بعيدًا عن سكن أهلي. تابعَت رؤى: "كنتُ أرتّب أمتعة أخي وزوجته وأمّكَ في الشقّة، حين جاءَني الاتّصال للتعرّف إليكَ... يا للصّدفة السّعيدة!" إبتسمتُ لها مع أنّ قلبي كان يغلي مِن الغضب، بعد أن فهمتُ اللعبة التي لعِبها عليّ أقرَب الناس. رأيتُ في الشقّة الصناديق التي أصبحَت فارغة، فجلستُ على الأريكة الجميلة والجديدة، وسألتُ الصبيّة عن صحّة أمّي وهي تفاجأت بخبَر مرضها وعمليّتها وسقوطها عن السلالم. وأضافَت: "صحّة أمّكَ أفضل مِن صحّتي! لكنّني أستغربُ أمر مكوثها في الفراش في الأيّام الأخيرة. هل تظنُّ أنّها مُصابة بالإنفلونزا؟". ضحكتُ مِن كثرة خَيبتي وأجبتُها: "لا، بل إنّها مُصابة بداء آخر اسمه الكذب. هيّا بنا نعودُ".
لدى دخولي سكن أهلي، وجدتُ أختي وصهري جالسَين بصمتُ، فقصدتُ غرفة والدتي وقلتُ لها: "قومي مِن سريركِ، فلقد انتهَت المسرحيّة."
قامَت النصّابة مِن فراشها بصمت وانضمَّت إلى النصّابَين الآخرَين. لَم أقُل لهم شيئًا، فما النفع؟ نظرتُ إليهم باشمئزاز واضح ورحتُ ألمّ أمتعتي، وحزمتُ حقيبتي بدقائق بعد أن اتّصلتُ بسيّارة أجرة. وقفتُ عند الباب ثمّ قلتُ: "لن تروني مُجدّدًا." ثمّ استدَرتُ نحو والدتي وأضفتُ: "لن أُصدّق طبعًا خبَر موتكِ في يوم مِن الأيّام، فقد تكون خدعة جديدة... لِذا تأكّدي مِن أنّني لن أحضر دفنكِ".
رحتُ إلى فندق حيث قضيتُ الليل، قبل أن أركب الطائرة التي أخذَتني إلى حيث حياتي ومُستقبلي.
تزوّجتُ مِن آنا وأنجبنا الأولاد، ولَم أعرِف شيئًا عن أولئك القوم حتى يومنا هذا.
حاورته بولا جهشان