لماذا يا لينا؟

وصلَت لينا مِن بلدها إلى دارنا حين كانت في الثامنة عشرة مِن عمرها. كنتُ وزوجي بانتظارها في المطار، ورأيناها قادمة والخوف على وجهها. فهي لَم تكن تعلَم إن كانا سنعاملها بلطف وإنسانيّة أم لا. أخَذَ زوجي عنها حقيبتها الصغيرة وأنا ابتسمَتُ لها برفق ليطمئنّ بالها. نظرَت لينا إلى بطني الكبير، وابتسمَت لأنّها تُحبُّ الأولاد. واتّضَحَ لاحقًا أنّها ستكون رفيقة مُمتازة لابني الذي أحبَّته مِن كلّ قلبها. فبعد فترة عصيبة مرَّت بها بسبب حنينها لأهلها وبلَدها، تأقلمَت لينا بشكل مُمتاز، وسرعان ما صارَت فردًا مِن عائلتنا الصغيرة.

مرَّت السنوات بشكل مُمتاز، وشكرتُ ربّي لأنّه بعثَ لي لينا بسبب عمَلي الذي حالَ دون تواجدي مع زوجي وابني وبيتي. فكنتُ قد وصلَتُ إلى مركز عالٍ في الشركة، وراتبي هو ما سمَحَ لنا بالعَيش بطريقة جيّدة. فالجدير بالذكر أنّ زوجي لَم يكن يحملُ أيّ شهادة على خلافي، لكنّ ذلك لَم يُشكّل يومًا أيّة مُشكلة بيننا.

صارَ ابني في السابعة مِن عمره حين بدأَت لينا بالتغيّر، إذ أنّني كنتُ أعرفُها عن ظهر قلب، ولاحظتُ أنّها بدأَت تجلسُ لوحدها وتحلَم. سالتُها إن كان أحَد أفراد عائلتها مريضًا لكنّها أجابَت بالنفي. على كلّ الأحوال، كنتُ أبعثُها عند ذويها كلّ سنتَين، واشترَيتُ لها هاتفًا ذكيًّا لتبقى على تواصل دائم معهم بالصوت والصورة. أخذتُ أُراقبُها عن كثَب، فالأمر بدا غريبًا بالنسبة لي، فجلستُ معها في أحَد الأيّام وأخذتُ أُحدّثُها عن أمور صغيرة إلى أن سألتُها عمّا يُزعجُها. إلا أنّها نفَت أن يكون هناك أيّ خطَب، بل ابتسمَت لي وقامَت لعملها. زوجي هو الآخَر لاحظَ حالة لينا، ووافقَني الرأي بأنّ علينا الترفيه عنها، مع أنّنا كنّا نصطحبها أينما ذهبنا، وكان لدَيها فرصة أسبوعيّة تتلافى خلالها بأبناء جاليتها وتُرافقهم في رحلات ونشاطات عديدة. لكن ما مِن شيء نفَعَ، فقرّرنا أن ننتظر حتّى تعود لينا كما في السابق.

وذات صباح، حين إستَيقظتُ لتحضير الفطور لعائلتي، لَم أجِد لينا في البيت كلّه! خفتُ كثيرًا فأسرعتُ بإيقاظ زوجي، وفتّشنا في كلّ مكان حتّى الشرفات، بعد ن خفنا أن تكون المسكينة قد وقعَت عنها. كنّا على وشك الاتّصال بالمكتب، حين لاحظتُ أن الخزائن في غرفتنا مقلوبة وأنّ مُجوهراتي كلّها إختفَت! ماذا؟!؟ لينا تسرقُنا؟!؟ هذا لَم يكن مُمكِنًا أبدًا! فتلك الصبيّة كانت رمز النزاهة والاخلاص ولقد ائتمنّاها على إبننا! جلستُ مذعورة لفظاعة الأمر وبكيتُ بقوّة. واساني زوجي وقال إن علينا الاتّصال بالشرطة. لكنّني رفضتُ ذلك، فإن كانت لينا قد سرقَتنا، فكان لها سبب وجيه وظروف قاهِرة. لَم يُوافقني زوجي الرأي، لكنّه قبِلَ أن ننتظر قليلاً قبل إبلاغ السلطات.

بعد ساعات، رحتُ مقرّ الجالية حيث سألتُ عن صديقات لينا، فأخذتُ عناوين مُستخدميهنّ وأرقامهنّ، وبدأتُ أتّصل بالواحدة تلوَ الأخرى. لَم تعرِف أيّ منهنّ أين لينا... إلا إحداهنّ واسمها ليزا، وهي أخبرَتني أنّ لينا تعرّفَت إلى رجل ووقعَت في حبّه. هي تفاجأَت كثيرًا بما فعلَته لينا بنا إلا أنّها قالَت:

 

ـ لا بدّ أنّ ذلك الرجُل هو مَن أقنعَها بسرقتكم! فهو إنسان بغيض، وكان مِن الواضح أنّ له تأثيرًا كبيرًا عليها. فهو حبّها الأوّل ولقد حذّرتُها منه مرارًا. إلا أنّها بدأَت تبتعِد عنّي في الأواني الأخيرة حتمًا بتوجيهات منه.

 

ـ أين أجدها؟ لا أُريدُ أن أشتكي عليها، بل فقط أن تُعيدَ لي مُجوهراتي.

 

ـ فتّشي عنها عند باقي صديقاتها.

 

رحتُ أدقّ أبواب الناس بحثًا عن لينا، إلا أنّني لَم أجِدها. قصدتُ سفارة بلادها، وهناك أيضًا لَم يستطِع أحد أن يدلّني عليها. يا إلهي... لماذا فعلتِ ذلك يا رلنا؟!؟

بعد أيّام قليلة، إتّصلَت بي ليزا وقالَت لي:

 

ـ توقّفي عن البحث يا سيّدتي، فلينا تركَت البلَد.

 

ـ كيف ذلك وجواز سفرَها لا يزال عند صاحب المكتب؟

 

ـ لا بدّ أنّ عشيقها أدخلَها بلَده عبر طرق غير شرعيّة. هي خابرَتني وكانت فرِحة جدًّا بأنّها معه. وبّختُها على ما فعلَته بكم، وهي أعربَت عن ندمِها الكبير، لكنّ عشيقها دفعَها على السرقة بحجّة أنّهما بحاجة إلى المال لتأسيس حياتهما الجديدة. إنسي مُجوهراتكِ يا سيّدتي فهما باعاها في اليوم نفسه.

 

أعلَمتُ زوجي بالمُستجدّات، وتباحثنا بما سنقوله لابننا عن غياب التي ساعدَتني على تربيته، فأخبرناه في الأيّام التي تلَت اختفاءها أنّها تزورُ أقرباء لها في الجوار. لكن بعد ذلك، قُلنا له إنّ لينا عادَت إلى بلادها بصورة دائمة، وهي لَم تودّعه لأنّ خبَر مرَض أمّها وقَعَ عليها كالصاعقة، وهي أخذَت أوّل طائرة لتكون إلى جانبها. بكى صغيرنا كثيرًا، إلا أنّني كنتُ مُتأكّدة مِن أنّه سينسى حزنه مع الوقت. وقرّرنا عدَم أيّ مساعدة بعد ذلك، بل فقط مَن يُنظّف البيت أسبوعيًّا.

مرَّت حوالي السنة وكنتُ للحقيقة قد نسيتُ موضوع لينا ومجوهراتي فلقد اشترَيتُ حُلىً جديدة، حين تلّقَيتُ اتّصالاً منها. كانت مُفاجأتي كبيرة لِدرجة أنّني لَم أعرِف ما أقوله، فمِن جهة كنتُ غاضبة منها إلى أقصى درجة، ومِن جهة أخرى فرِحتُ لسماع صوت اعتَدتُ عليه لسنوات. بعد سكوت دام بضع ثوانٍ، هي قالَت لي:

 

ـ أرجوكِ سيّدتي، لا تقسي عليّ... أعرِف أنّ ما فعلتُه لا يُغتفَر، فأنتِ وزوجكِ فتحتُما بيتكما وقلبكما لي... لقد خنتُ ثقتكما وثقة ابنكما الذي، إن لَم يكن بمثابة ابني فعلى الأقلّ بمثابة أخي الصغير.

 

ـ ماذا تُريدين؟

 

ـ أنا في ورطة كبيرة يا سيّدتي... لقد وقعتُ في غرام رجُل بغيض لدرجة لا توصَف.

 

ـ أين أنتِ الآن؟ أرى أنّكِ تتّصلين مِن رقم أجنبيّ.

 

ـ في بلَده... أعيشُ معه في شقّة حقيرة غير صالِحة للسكن.

 

ـ هل تزوّجكِ؟

 

ـ لا... أعيشُ معه في الحرام... لَم أتصوّر يومًا أنّني أفعلُ ما أفعله... سيّدتي، هو يُجبرُني على...

 

ـ على ماذا؟

 

ـ على بيع جسدي.

 

ـ ماذا؟!؟ لينا!!! لطالما كنتِ صبيّة خلوقة ومؤمِنة!

 

ـ أعلمُ ذلك يا سيّدتي... أرجوكِ لا تحكُمي عليّ! فأنا أخافُ منه، إنّه عدائيّ للغاية، وإن لَم أفعل ما يُريدُه فهو يُبرحني ضربًا. ولا مكان لي أذهب إليه، وأنا أسيرته فهو يُقفِل باب الشقّة عليّ بالمفتاح ولا يفتحه إلا لإدخال الرجال كَي...

 

ـ كفى أرجوكِ، لستُ بحاجة إلى تلك التفاصيل! لماذا إتّصلتِ بي يا لينا؟

 

ـ لأريحَ ضميري تجاهكِ، فوسط كلّ الذي أعيشه، أتعلّق بالذكريات الجميلة التي أحتفظ بها معكم في بيتكم الجميل المليء بالحبّ والتناغم. أريدُ فقط أن تُسامحيني... وأن تبعثي لي بواسطة ليزا ما يكفي مِن المال لأهرب وأعود إلى موطني.

 

ـ يا لَيتني أستطيع مُساعدتكِ يا لينا، لكنّ زوجي سيمنعُني مِن ذلك بعد الذي فعَلتِه بنا، ولا أريدُ خلق مشاكل بيني وبينه. قولي لي، أين يقَع مسكنكِ، في أي مدينة وحَيّ؟ أعطِني كلّ التفاصيل.

 

في اليوم التالي رحتُ مكتب الاستخدام واسترجعتُ حواز سفَر عاملتي المسكينة، وقصدتُ مجدّدًا سفارة البلَد التي تنتمي له لينا وعرضتُ عليهم ما يحصل لها، وأعطَيتُهم كلّ المعلومات التي حصلتُ عليها. رجَوتُهم أن يفعلوا شيئًا مِن أجلها، فمصيرها كان بالفعل قاتِمًا ورهيبًا. هم لَم يعِدوني بشيء بل فقط أنّهم سينظرون في الأمر. ومنذ ذلك اليوم صرتُ أتّصل بالسفارة بشكل يوميّ لأحثّهم على التصرّف، مِن كثرة خوفي ألا يُتابعوا الموضوع، فالكثير مِن العاملات تقعنَ ضحيّة مُفترسين، أو تقُمنَ بأعمال محظورة ولا يسعهم مُتابعة كلّ حالة.

مِن جهة أخرى، صرتُ أتبادَل ولينا الرسائل بشكل مُنتظم كَي أبقى على علِم بما يحدث لها. هي لَم تكن قادرة على الهروب مِن ذلك الرجُل، أو اللجوء إلى شرطة ذلك البلاد خوفًا منه ومِن انتقامه منها. لا، كان يجب أن يتمّ إطلاق سراحها عبر قنوات رسميّة. لَم أُطلِع زوجي على مُحادثاتي مع لينا أو السفارة، فقد خفتُ أن يطلب منّي عدَم التدخّل. إذ لن يفهَم أيّ رجُل ما تشعرُ به جسديًّا أو نفسيًّا إمرأة أُجبِرَت على بيع جسدها، وكيف أنّ لا أمَل لها بأن ينتهي عذابها وهي في بلَد غريب بصحبة رجُل معدوم الأخلاق. لكنّني كنتُ أعلَم أنّ زوجي هو صاحب قلب كبير، وأنّه لن يغضب كثيرًا منّي حين يعلَم أخيرًا ما فعلته. صلّيتُ ليلاً نهارًا أن تنجو لينا مِن مخالِب الذي يُدنّس جسدها وروحها، وبكيتُ مرارًا حين أكون لوحدي.

ليزا، صديقة لينا، كانت الوحيدة على علِم بالذي يحصل وما تمرّ به عاملتي القديمة، فكنتُ بحاجة إلى تقاسم همومي مع أحَد. ولقد ساعدَتني ليزا كثيرًا بالتخفيف من توتّري.

وصلَني أخيرًا ردّ مِن السفارة وتفاجأتُ بما قالوه لي. فلقد تواصلوا بالسلطات في ذلك البلَد التي بعثَت رجال الشرطة إلى العنوان المذكور، إلا أنّهم لَم يجدوا أحدًا لسبب وجيه: ذلك العنوان كان بالحقيقة مستشفى مهجورًا ومُقفلاً منذ سنوات. فتّشوا المستشفى جيّدًا وتأكّدوا أنّ لا أحَد يختبئ فيه. لماذا كذِبَت عليّ لينا؟!! هل هي كانت تحت ضغط ذلك الرجُل الذي أملى عليها ما تقول؟ لكن لأيّ غرَض؟ عندها قرّرتُ إخبار زوجي بكلّ شيء. وبعد أن وبّخَني كثيرًا لإخفاء كلّ هذه المعلومات عنه، أخَذَ يُفكّر مليًّا بالمُعطيات ثمّ قال: "لينا لَم تُغادِر البلد... هي هنا مع عشيقها، فلقد رأيتُ في الأواني الأخيرة رجُلاً غريبًا في جوار بيتنا، وفي كلّ مرّة كان الشخص نفسه. لَم أستنتِج شيئًا حينها لكن الآن...". نظرتُ إليه باندهاش فلَم أكن مُقتنِعة بنظريّته إلا أنّني لَم أُجادِله، فكان يكفي أنّني تصرّفتُ مِن دون عِلمه لوقت طويل. ثمّ هو طلَبَ منّي رقم ليزا وانتهى الموضوع.

وبعد أقلّ مِن أسبوع، طلَبَ منّي زوجي الجلوس معه في الصالون لأنّ لدَيه ما يقوله لي:

 

ـ حبيبتي... لا داعٍ للهلَع الآن، فالموضوع إنتهى.

 

ـ عمّا تتكلّم؟

 

ـ إنّ لينا وعشيقها وليزا بقبضة السلطات.

 

ـ ماذا؟!؟ لستُ أفهَم!

 

ـ كما تصوّرتُ، لَم تُغادِر لينا بل بقيَت في البلَد مع ذلك الرجُل، وبالفعل بدأَت تُمارس البغاء لكن ليس رغمًا عنها بل بإرادتها. ثمّ نفَذَ مالهما وخطرَت ببالهما فكرة جهنميّة: خطف ابننا لطلب فدية إن لَم تمدّي لينا بالمال لهربها المزعوم.

 

ـ ماذا؟!؟ لكنّها كلّمَتني مِن رقم أجنبيّ وبدَت لي خائفة جدًّا. وماذا عن ليزا؟ ما دورها؟

 

ـ مِن السهل الحصول على رقم أجنبيّ، فيكفي أن يعرفا أحدًا عادَ مِن السفَر. دور ليزا كان أن تؤكِّد قصّة ترك لينا البلَد، وتطمين بالكِ ومعرفة إن كنتِ تشكّين بشيء. كانت ستأخذُ نصيبها مِن الفدية.

 

ـ لينا إنسانة طيّبة بالأصل! أتذكُر أنّها عاشَت سبع سنوات معنا بإلفة ومحبّة؟!؟

 

ـ صحيح ذلك، لكنّ تأثير عشيقها عليها كان كبيرًا، لدرجة أنّها وجدَت لذّة بسرقتنا وبَيع جسدَها، فحبّ المال شيء لا يُستهان به.

 

ـ كيف وردَت على بالك شكوككَ تجاه لينا؟

 

ـ لأنّها سرقَتنا ورحَلت، ومِن ثمّ عادَت واتّصلَت بكِ. والعنوان التي أعطَته لكِ كان مُزيّفًا، فلماذا تفعلُ ذلك إن كان هي بالفعل خائفة وتُريدُ الافلات مِن عشيقها؟ كلّ تلك المعطيات بدَت لي مُريبة. وصديقتها ليزا... كَونها بقيَت على إتّصال بها دون سواها، وكَونها تبادَلت معكِ الأخبار والتطمينات لَم يكن أمرًا طبيعيًّا. لَم أشكّ طبعًا بأنّهم ينوون خطف ابننا، لكنّني علِمتُ أنّهم يُخطّطون لشيء ما، ربّما سرقتنا مرّة أخرى أو اقناعكِ بمدّهم بالمال لمدّة طويلة. يا إلهي تصوّري لو خطفوه أو قتلوه!

 

ـ أصمُت أرجوكَ! يا إلهي... أين اختفى الخير في هذه الدنيا؟ ماذا فعلَنا لرينا لتُبادِلنا بهذا الكمّ مِن الشرّ؟!؟

 

ـ العشق والمال يا حبيبتي! فلقد عرّفَها ذلك الرجُل على عالَم الملذّات، عالَم لَم تعرِفه يومًا عند أهلها أو عندنا. وهي كانت ستخطفُ الولَد الذي رأته يوَلد والذي ربيَ معها لسنوات.

 

ـ وأنا أخفَيتُ عنكَ معلومات كادَت أن تودي بابننا! سامحني يا حبيبي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button