قالَ لي كلامًا جميلًا وصدّقتُه، وانتهى بي المطاف مُتزوّجة منه وأعيشُ معه في إحدى البلدان العربيّة. هو كان لا يزال مُتزوّجًا مِن أمّ أولاده وصارَ يقسمُ وقته بين بَيتَيه... سرًّا، فهو لَم يطلِعها على وجودي. لكن، مع الوقت، بتُّ وكأنّني أسكنُ لوحدي، ولَم أعُد أرى الذي أقسَمَ لي أنّه سيُحبُّني إلى الأبد ويُسعِدني. كذِبَ عليّ لأنّه أرادَ فقط مُعاشرتي مِن دون أن يزني، ليرميني في تلك الشقّة الصغيرة كالغرَض الذي لا حاجة له. حاوَلتُ المُستطاع أن أكسِب اهتمامه مِن جديد، إلّا أنّ عذره كان أنّ أولاده يُطالبون به باستمرار. فكّرتُ بالإنجاب منه ليكون له ولَد يأتي مِن أجله، لكنّه رفَضَ بقوّة تحت حجَج عديدة. فهِمتُ الرسالة أخيرًا، وأصابَني يأس عميق بعد أن تركتُ كلّ شيء مِن أجل رجُل اشتهاني وحسب.
ثمّ احتَرتُ بأمري، هل أطلبُ الطلاق، أم أبقى على حالي أصرفُ مِن المبلغ الصغير الذي كنتُ أحصلُ عليه شهريًّا، ومقابِل زيارات خاطِفة منه ليُشبِع حاجاته ويرحَل مِن جديد؟ أظنّ أنّ الأمَل بأنّ شيئًا سيتغيّر أبقاني حيث أنا، فللأسف كنتُ أحبُّ ذلك الوغد. لماذا هذا التعلّق؟ ربّما لأنّه وسيم وأنيق ومُتعلّم ويُجيدُ التصرّف والكلام مع النساء. أحبَبتُ الفكرة التي كوّنتُها عنه في عقلي، وتمسّكتُ بها وكأنّني بذلك أستطيع جَعلها حقيقيّة. لكنّ الأمور لا تجري هكذا، فزوجي كان إنسانًا حقيرًا وليس أكثر.
ولكثرة ملَلي في البيت، قرّرتُ أن أدخُل معهدًا يُعلِّم الأشغال اليدويّة، لأنّ زوجي منعَني مِن إيجاد وظيفة، فرجولته لا تسمَح بأن أصرِف على نفسي... يا للماكِر! هو أرادَني أن أبقى مُتعلِّقة به مادّيًّا وحسب. إختَرتُ الخياطة لأنّ أمّي علّمَتني كيف أُصلِح الملابس إن اقتضى الأمر، بخياطة زرّ أو تبديل سحّاب أو تقصير فستان. أحبَبتُ الأمر لأنّه يتطلّب مهارة وذوق ويُذكّرني بوالدتي التي اشتَقتُ لها في غربتي، خاصّة أنّ صحّتها كانت مُتأرجِحة. كان أبي قد ماتَ ولَدَيّ أخ وأخت لَم أكن مُقرّبة منهما بسبب انشغالهما بعائلتَيهما. لكنّ بُعدهما كان له أساس آخَر وهو الغيرة، لأنّني حظيتُ بكمّيّة كبيرة مِن الدلَع كوني الصغيرة بينهما. آه... لو شعَرتُ أنّ بإمكاني الاتّكال على أخي وأختي، لَما غادَرتُ البيت والبلَد مع أوّل رجُل همَسَ كلامًا جميلًا في أُذُني بحثًا عن الاستقرار المعنويّ والمادّيّ!
في المعهد، صِرتُ أجيدُ أمورًا عديدة، وأنتظرُ بفارغ الصبر العودة إلى البيت لأتمرّن على مكينة الخياطة التي اشترَيتُها مِن الذي وضعتُه جانبًا مِن مصروفي الشهريّ. أخفَيتُ المكينة جيّدًا كَي لا يراها زوجي حين يأتي ويحرمَني منها. فهو كان يظنّ أنّني أذهبُ إلى المعهد لألَعب وأتسلّى، الأمر الذي كان سيُقلّل مِن "نقّي" عليه. لكن في الواقِع، بدأتُ أُعدُّ لنفسي مشاريع أبقَيتُها لنفسي. وكلّما شعَرتُ باستقلاليّتي، كلّما خفَّ حبّي لزوجي وأمَلي بأن يُحبّني ويُعاملني كما وعدَني أن يفعل في بداية علاقتنا.
لكن في أحَد الأيّام، جاءَ زوجي إلى الشقّة في غير موعده، ورأى المكينة في الصالون فأخذَها وحطّمَها أمام عَينَيّ قائلًا: "إيّاكِ أن تخفي شيئًا عنّي أبدًا... وإن فعلتِ، فسيكون رأسكِ بدلًا مِن هذه المكينة، أفهمتِ؟!؟". ثمّ عاشرَني، لأنّ ذلك كان غرَضَه مِن المجيء، قَبل أن يُغادَرَ مُجدّدًا... فشعَرتُ وكأنّني مومَس وليس زوجة. بعد ذلك، صارَ عنيفًا معي، لا يتردّد عن اهانتي وصَفعي إن لَم يُعجِبه كلامي، وقلَّصَ مِن مصروفي لدرجة أنّني بالكاد استطَعتُ تأمين طعامي. فأخذتُ القرار بالعودة إلى بلَدي وطلَب الطلاق.
لَم يقبَل زوجي شراء تذكرة سفَر لي، مع أنّني قلتُ له إنّ أمّي مريضة جدًّا وقد تُغادِر الدنيا في أيّة لحظة. وسبب رفضه لَم يكن لأنّه لَم يُصدّقني، بل لعدَم اكتراثه الكلّي لِما قد يحصل لأمّي أو لي، إن هي ماتَت بغيابي. إنسان بشِع الأخلاق ومعدوم الشفقة! شكَرتُ ربّي ضمنيًّا لأنّها كانت كذبة اختلَقتُها وأنّ أمّي ليست على شفير الموت، لكن تصوّروا لو أنّها ماتَت حقيقةً!
تبيَّنَ لي طبعًا أنّني سجينة ذلك الرجُل الذي يعتبرُني أداة مُتعة كلّما راقَ له ذلك، وأنّ السبيل الوحيد للهرَب كان إيجاد المال بطريقة أو بأخرى. عندها إتّصلتُ بأختي طالبةً منها أن تحوّل لي ما يكفي للركوب في الطائرة، إلّا أنّها لَم تكن قادِرة على ذلك لقلّة إمكاناتها المادّيّة، الأمر الذي لَم يكن صحيحًا على الاطلاق. أمّا بالنسبة لأخي، فهو رفَضَ مُساعدتي بكلّ وقاحة قائلًا: "أنتِ اختَرتِه وعليكِ تحمّل تداعيات اختياركِ... عائلتي لها الأفضليّة عليكِ... جِدي عمَلًا واحصلي على المال كشأننا جميعًا". ويا لخذلاني بعائلتي! وهل أنّ عليّ العَيش بالذلّ والقهر لأنّني اختَرتُ رجُلًا معُيّنًا؟ وما أدراني كيف ستكون حياتي معه؟ هل مِن أحَد يعرفُ قَبل الزواج إن كان شريكه بالفعل كَما يتصوّره؟ أين الدَعم الذي ننتظرُه مِن ذوينا في وقت المِحنة؟
على كلّ الأحوال، سأجِد بالفعل طريقة للخروج مِن حياتي الزوجيّة، إن وفّقَني الله. فكان زوجي قد كسَرَ المكينة لكن ليس باقي عدّة الخياطة، أيّ أنّني كنتُ قادِرة على مُتابعة دروسي في المعهد، الأمر الذي لَم يُمانِعه، لأنّه سيرتاح مِن مُساءَلتي له ومُطالبته.
أخبَرتُ الأستاذة في المعهد بما فعلَه زوجي ولَم أتمكّن مِن حبَس دموعي، وهي واسَتني ووعدَتني بأنّها ستُعلّمني كلّ ما بإمكاني فعله مِن دون مكينة. وحين صرتُ أجيد الخياطة بشكل مُمتاز، بدأَت تجلبُ لي أعمال تصليح ثياب تقاضَيتُ أجرها، ونفّذتُها في المعهد نفسه كَي لا يعرفَ زوجي بالأمر. كَم كنتُ سعيدة! لكنّني كنتُ خائفة أيضًا، فتهديد ذلك الوحش كان واضحًا تمامًا إذ وعَدَني بأذيّتي لو أخفَيتُ عنه شيئًا.
بدأتُ أجمَع المال لكن ببطء، لأنّ تلك التصليحات كانت بسيطة ومردودها زهيد، لكنّني ثابَرتُ ولَم أسمَح لليأس بأن يُسيطِر عليّ. في الحقيقة، صِرتُ ماهِرة بما أفعلُه، لدرجة أنّ الأستاذة كلّمَت إدارة المعهد ليُكلّفوني بتدريب التلميذات الجديدات اللواتي لا تعرفنَ شيئًا عن الخياطة... ومُقابِل أجر! رأيتُ الضوء في آخِر النفق، وكنتُ قريبة جدًّا مِن إكمال المبلغ لشراء تذكرة سفَري.
قصَدتُ أخيرًا شركة الطيران واشترَيتُ التذكرة! بعد ذلك، بدأتُ أُهرِّب أمتعتي الضروريّة في كيس عاديّ، وآخذُه معي إلى المعهد لأضَعه في خزانة أعطِيَت لي. في كلّ مرّة كان قلبي يدقّ بسرعة، وكأنّ زوجي سيعترض طريقي ويطلبُ منّي فتح الكيس لتفحّصه. لكنّه لَم يشك بشيء، لأنّني أبقَيتُ العديد مِن أمتعتي في الشقّة، مِن ثياب وأحذية وأمور عاديّة، الأمر الذي لا يوحي بأنّني مُغادِرة. لكنّ المُشكلة كانت تكمُن في موعد إقلاع الطائرة، لأنّه يتوافَق مع الوقت الذي يأتي فيه زوجي إليّ عادةً، هذا لو أتى. ماذا لو جاءَ في ذلك التوقيت بالذات؟ هل عليّ ترك الشقّة قَبل ساعات والانتظار في المطار؟ المسألة كانت خطيرة، فإن جاء ولَم يجِدني، قد يذهب إلى المطار ويمنَعني مِن السفَر.
عندها تدخّلَت الأستاذة وجاءَت بفكرة أعجبَتني، وهي أن أقول لزوجي إنّ لدَيّ اختبار في المعهد ستجريه لجنة خاصّة قادِمة مِن بعيد، ممّا سيُبرّر التوقيت المُتأخِّر. وأعلَمت الأستاذة إدارة المعهد ووعدَتني بأنّ الجميع سيؤكِّد موضوع الاختبار، لأنّهم كانوا على علم بوضعي الخاص. بعد ذلك، أطلعَتُ زوجي على الأمر فلَم يرَ مانعًا مِن ذلك. عرَضتُ عليه أن يُرافقَني وينتظرني في القاعة المُجاورة، عالِمة تمام العِلم أنّه سيرفض، لأنّ كلّ شيء يختصّ بي يُزعجه لأقصى درجة. كانت مُخاطرة لا بدّ منها، فعرضي هذا أكَّدَ له صحّة كلامي في ما يخصّ الامتحان.
وفي اليوم المُنتظَر، رحتُ المعهد ورجلَاي ترتجفان، ثمّ جمَعتُ أمتعتي وأخذَتني الأستاذة إلى المطار. ذرَفنا الدموع عند نقطة الوداع، ووعدتُها بأنّني سأبقيها على عِلم بالمُستجدّات.
لَم أرتَح إلّا حين أقلعَت الطائرة، فطوال تواجدي في المطار، كنتُ أتلفَّت يمينًا ويسارًا مُتوقِعةً رؤية زوجي أمامي في أيّة لحظة.
وصَلتُ البلَد وبيت أهلي، وتفاجأَت أمّي برؤيتي أمام الباب. سردتُ لها كلّ شيء، وهي وبّخَتني لأنّني لَم أُطلِعها على ما حصل لي هناك. للحقيقة، أردتُ تجنيبها الحزن والهمّ، وخفتُ أن تلومَني أو أن ترفض عودتي، الأمر الذي كان سيُسبّب لي الضياع وفقدان الأمَل. لَم أتّصِل بأختي أو أخي، فهما تخلّيا عنّي وأنا في أبشَع الظروف.
باشَرتُ بطلب الطلاق، فزواجنا عُقِدَ في البلَد، فزوجي لَم يعدُل بيني وبين زوجته الأخرى. أمّا هو، فتفاجأ لدى دخوله الشقّة التي كنتُ أعيشُ فيها حين لَم يجِدني، وعبَثًا حاوَلَ الاتّصال بي. لكنّه لَم يُبلِغ سلطات ذلك البلَد باختفائي ولَم يُفتِّش عنّي في أيّ مشفى. فهو قد ارتاحَ منّي أخيرًا. لكن عندما وصلَته أنباء عن رفع دعوى طلاق بحقّه، إنتابَه غضب شديد، ووعَدَ المُحامي الذي أوكلَته بأنّه لن يُطلّقني مهما كلّفَ الأمر، فلا أحَد يقِفُ في وجهه على الاطلاق. لكن حين قال له المُحامي إنّنا لن نتردّد بإفشاء خبَر زواجه الثاني لزوجته الأولى، تراجَعَ ذلك الوحش بشرط ألّا أُطالِبه بأيّ مال.
إنتهى بي المطاف مُطلّقة، والحمد لله. وأقفَلتُ صفحة زواجي بالتركيز على موهبتي الجديدة، فساعدَتني أمّي على دخول معهد لتعلّم التفصيل والتصميم، وصرتُ خيّاطة الحَي والمنطقة وتقصُدني اليوم سيّدات عدّة. لَم أقطَع علاقتي بالأستاذة بل نحن نتكلّم يومًا بعد يوم عبر الوتساب، ولن أشكُرها كفاية على مُساعدتها لي. فأنا لستُ ابنة بلَدها لتُخاطِر هكذا، وتُقنِع إدارة المعهد المشكورة أيضًا بإعطائي وظيفة والتغطية عليّ. إلّا أنّ الانسان هو إنسان، وليس فقط مواطنًا ينتمي إلى بلَد أو دين مُعيَّن، وهذا هو مفهوم الأخوّة الحقيقيّة بين البشَر. هؤلاء الغرباء ساعدوني في حين أنّ زوجي، إبن بلَدي، أساءَ مُعاملتي، وفي حين رفضَ مَن هم مِن لَحمي ودَمي َمدّ يَد العون لي... تصوّروا!
حاورتها بولا جهشان