لم أكن دائمًا سيّئة، بل مرَّت أيّام كنتُ خلالها إنسانة بريئة جدًّا. ماذا حَدَثَ لي؟ الحق يقع على والدَيَّ طبعًا.
كنتُ في السّابعة مِن عمري حين وقَعَ الخلاف بين أبي وأمّي. أقول "الخلاف" أي أنّه جاء بعد خلافات عديدة وكان هو الأخير والحاسم لأنّهما افترقا. لم يشأ أيّ منهما أخذي معه فقد كان لكلٍ منهما مشاريع لا تشملني، لِذا وضعاني أوّلاً عند جدّتي الأبويّة ومِن ثمّ عند جدّتي والدة أمّي. وهذه الأخيرة كانت عجوزًا ومريضة وشبه خرِفة. لَم أستطع التواصل معها لأنّها كانت تنسى كلّ يوم مَن أنا وماذا أفعل عندها.
إنزوَيتُ في غرفة لم أشعر يومًا أنّها لي، وكبرتُ لوحدي وفي قلبي نقمة على والدَين لم يسألا عني، خاصّة بعدما تزوّج كلّ منهما ونسيَا أمري لأنّني كنتُ جزءًا مِن ماضٍ لا يُريدان تذكّره.
كنتُ تلميذة مجتهدة في تلك المدرسة التي لم أحبّها ولم يكن لدَيّ أصدقاء لكثرة وحدتي، فلا أحد يُحبّ الفتيات اللواتي تتصرّفن مثلي أي تبقيَن صامتات في زاوية الصف.
في سنتي المدرسيّة الأخيرة، إلتحقَت فتاة إسمها شيرين بمدرستنا، كانت جميلة واجتماعيّة ومحبوبة مِن الجميع. وأغرب ما في الأمر أنّها تقرّبَت منّي أكثر مِن الباقين وفَرَضَت صداقتها عليّ.
في البدء ظنَنتُ أنّ شيرين تريد الاستهزاء منّي، وحَمل الجميع على الضحك عليّ بعدما تدبّر لي مقلبًا أو شيئًا مِن هذا القبيل، ولكنّها لم تفعل بل كانت فعلاً ودودة ومُحبّة. فرِحتُ جدًّا لأنّ فتاة مثلها تستمتع برفقتي، وشعَرتُ تجاهها بعاطفة تشبه تلك الموجودة بين ابنة وأمّها مع أنّها كانت مِن عمري.
أثَرتُ غيرة كلّ مَن كان يُريد مصادقة شيرين شبّانًا كانوا أم فتيات، لأنّها أعطَتني انتباهها ووقتها بصورة حصريّة، وأنا كنتُ كالعجينة بين يدَيها، أقصد أنّ صديقتي اختبَرت مرارًا وفائي لها بتنفيذ ما تطلبه منّي، ففي الكثير مِن الأحيان كنتُ أكتب عنها واجباتها المدرسيّة أو أعطيها زوّادتي أو حتى أجيب عنها عندما كان أحد يُوجّه كلامًا لا تريد سماعه. أيّ أنّني كنتُ كالخاتم في إصبعها ولكنّ ذلك لم يكن يُزعجني لأنّه كان هناك طبعًا ثمَن لتلك الصداقة المميّزة.
وبعدما أنهَينا سنتنا الدّراسيّة وأصبحَتُ أفتّش عن جامعة، قالَت لي شيرين:
ـ ولماذا دخول الجامعة؟ إنّها مضيَعة للوقت... هناك سبل كثيرة لجني المال والوصول إلى مراكز مرموقة!
ـ ماذا تقصدين؟
ـ سترَين... ألا تثقين بي؟
ـ بلى... أنتِ الإنسانة الوحيدة التي أثق بها، الكلّ خَذَلَني إلا أنتِ.
وبدأنا نقضي وقتنا في المطاعم والمقاهي برفقة أناس لم أكن لأتعرّف إليهم بحياتي، وكيف أفعل وأنا قضَيتُ حياتي في غرفة منزل عجوز خرِفة؟
أحبَبتُ تلك الرفقة فقد كانت الأجواء مليئة بالضحك والتسلية، ولم أكن أصرف قرشًا واحدًا بل كانت صديقتي تدفع الفاتورة أو أحد أصدقائها. مِن أين كانت تأتي بالمال مع أنّها كانت مِن عائلة متواضعة؟ لم أسألها لأنّني كنتُ مفتونة بها.
وفي أحد الأيّام جاء إلى المقهى شاب وسيم نَظَرَ إليّ مباشرة وقال لشرين:
ـ لم تكوني تكذبين عندما قلتِ عنها إنّها رائعة.
إحمّر وجهي لأنّ ذلك كان أوّل إطراء أسمعه، ولأنّني لم أكن سوى شابة عاديّة الملامح والقوام. هل أحبَبتُ رائد في تلك اللحظة بالذات؟ نعم، وللأسف، فلم يكن لدَيَّ أيّة خبرة بالحياة أو بالناس، وكان ذلك الشاب هو صديق صديقتي الحميمة، أي مثلها، على الأقل هذا ما ظننتُه.
بدأ رائد يأتي يوميًّا ويجلس بالقرب منّي ويُحدّثني عن شوقه لي. كنتُ أسعد فتاة في العالم وصدّقتُه. ودعاني إلى العشاء قائلاً:
ـ هل سنبقى مع تلك المجموعة الغليظة طوال حياتنا؟ أريد أن أحدّق في عَينَيكِ قدر ما أشاء.
سألتُ شيرين إن كان يجب أن ألبّي دعوة صديقها فأجابَت:
ـ مِن الغباء ألا تقبلي... إنّه شاب ممتاز و... ثريّ للغاية!
لم يكن يهمنّي ثراؤه بل هو بحدّ ذاته، فقبلتُ الدعوة.
ماذا حصل لي بعد العشاء؟ وماذا وضَعَ رائد في كوبي؟ وجَدتُ نفسي على سرير غرفة فندق وذلك الشاب يقول لي مستهزئًا:
ـ مبروك... لقد أصبحتِ الآن فعلاً راشدة.
تَرَكني وتركَ الغرفة بعد أن وضَعَ على السرير رزمة مِن المال. عندها أدركتُ ما حصل، وبدأتُ بالبكاء والصراخ. لبستُ ثيابي وغادَرتُ المكان بخجل بعدما رأيتُ بالردهة فتيات مبرّجات بصحبة رجال.
إتصلتُ بصديقتي باكية لأشكو لها ممّا فعله صديقها بي، وهي أخَذَت تهدّئني وطلبَت منّي أن آخذ حمّامًا ساخنًا وأنام، واعدة أن نلتقي في اليوم التالي.
وهكذا حصل ووعَدَتني شيرين بأن توبّخ رائد. نظَرتُ إليها بدهشة وقلتُ لها:
ـ توبّخيه؟ هذا كلّ ما في الأمر؟
ـ وماذا تريدين أن أفعل؟ أن أطلب منّه أنّ يتزوّجكِ؟ هاهاها! كم أنّكِ بريئة! تقولين إنّه تركَ لكِ مالاً؟ ماذا فعلتِ به؟
ـ أخذتُه فلا يُمكنني تركه في الفندق.
ـ ولِما لا؟ حبيبتي، أخذتِ مالاً مقابل ممارسة الجنس، ما يجعل منكِ مومسًا.
ـ أنا؟!؟ لم أفعل شيئًا ولا أتذكّر حتى ما حصل! لقد خدّرَني الفاسق!
ـ كان بامكانكِ ترك المال حيث كان وقصد الشرطة... لماذا لم تفعلي ذلك؟
ـ قصدتكِ أنتِ! أنتِ صديقتي وأنتِ التي عرّفَتني إلى رائد ونصحَتني به وبالذهاب معه إلى العشاء... وثقتُ بكِ! ماذا سيحصل لي الآن؟
ـ لا شيء... إمّا أن تعاودي اللقاء مع رائد...
ـ أبدًا! هل فقدتِ عقلكِ؟!؟
ـ أو أن تنسَي الأمر وتواعدين شبّانًا آخرين أو رجالاً.
ـ أو أن أقطع علاقتي بكِ!
ـ كما تريدين... عودي إلى جدّتكِ العجوز وإلى ذلك البيت الكئيب... أنا أعرض عليكِ عالمًا مليئًا بالفَرح والتسلية، أعرض عليكِ معاشرة أناس أثرياء سيؤمّنون لكِ حياة كريمة، وستحصلين على كلّ ما تريدينه مِن دون عناء.
ـ مِن دون عناء؟!؟
ـ هذا ليس عناءً بل مساهمة بسيطة، ستعتادين الأمر بسرعة، سترَين..
عُدتُ إلى البيت مصمّمة على عدم رؤية شيرين مجدّدًا، ولكن بعد أيّام صِرتُ أشعر بكآبة لا مثيل لها برفقة جدّتي التي كانت بوجودها تذكّرني بأنّ لا أحد أرادَني... إلا شيرين.
لو كنتُ أكثر نضوجًا أو مهيّأة مِن قِبَل أهلي على مواجهة الناس، لو كنتُ قد تلقَّيتُ الحنان الكافي، لمَا عُدتُ إلى صديقتي. فهي كانت تمثّل بالنسبة لي الأمان وتعطيني كلّ ما كان ينقصني، أي الإعتراف بوجودي. وعُدتُ إلى شيرين عالمة أنّني سأخطو خطوة باهظة الثمَن.
وهكذا بدأتُ أواعد شبّانًا ورجالاً يصرفون عليّ مقابل جسدي، وتعلّمتُ مِن صديقتي كيف أكلّمهم وأعزّز كبرياءهم لأشعرهم بأنّهم أوسَم وأقوى الرجال.
ماتَت جدّتي وعشتُ لوحدي في بيتها لفترة، ثمّ انتقلتُ إلى شقّة استأجرتُها مِن مال "تعَبي" كما كنتُ أسمّيه. لم أكن سعيدة بالذي كنتُ أفعلُه، ولكنّني قبِلتُ به إلى حين صادَفتُ جهاد.
كان ذلك الشاب يعمل في أحد الفنادق التي كنتُ أقصدها مع "أصدقائي"، وكان يُلقي عليّ التحيّة بتهذيب ويبتسم لي.
وفي إحدى الأمسيات بعدما أنهَيتُ "عمَلي" قال لي:
ـ أنتِ مختلفة عن الباقيات... لماذا تفعلين ذلك؟
ـ لأن ليس لدَيَّ أحد... أرجوكَ لا تعِظني فأنا أعلم أنّ ما أفعله سيّىْ.
ـ ولماذا تفعلينه إذًا؟
ـ قلتُ لكَ لماذا؟
ـ هناك العديد مِن الناس الوحيدين ولا.. أقصد... تعلمين ما أقصد... إسمعي، لدَيَّ صديق وهو بحاجة إلى عاملة منزل.
ـ أنا عاملة منزل؟!؟
ـ وهل عملكِ هذا أشرف بكثير؟
إحمّر وجهي وامتلأت عَيناي بالدّموع. مسَحتُ وجهي وقلتُ له:
ـ كنتُ أودّ دخول الجامعة.
ـ وماذا تنتظرين؟ أظنّ أنّكِ جمعتِ ما يكفي مِن المال مِن... عمَلكِ ويُمكنكِ الالتحاق بالجامعة التي تريدينها.
ـ لقد مرَّت أكثر مِن خمس سنوات على تركي المدرسة.
ـ وإن يكن... إسمعي... لم يفت الأوان بعد... أنا أعمل وأدرس في آن واحد ولستُ أفضل منكِ أو أذكى... أراكِ تدخلين الفندق وتخرجين منه كئيبة، وأعلم أنّكِ لستِ سعيدة بالذي تفعلينَه. قد تأخذين ما أقوله لكِ بعَين الاعتبار أو لا، ولكن أرجوكِ أن تفكّري بالأمر.
ـ تركَني والدَايَ مع جدّة مسنّة وخرِفة!
ـ أثبتي لهما أنّكِ قادرة على فعل المعجزات مِن دونهما! لقد أخطأتِ صحيح، ولكن لا يجب أن يُلاحقكِ ذلك إلى الأبد! أتمنّى ألا أراكِ هنا مجدّدًا... أرجوكِ.
أنا اليوم موظّفة في شركة تأمين ومتزوّجة. إبني إسمه جهاد.
حاورتها بولا جهشان