مانكين السيدة مريم

كنتُ أهوى جمع كلّ ما يتخلّص منه الناس، لأحوّله إلى تُحفة أصمدُها بفخر في بيتي أو أبيعُها بسعر يُغطّي وبكثرة ما دفعتُه. ولَم أخجَل يومًا مِن لَمّ غرضٍ ما من القمامة، فكلّما كان الشيء وضيعًا، كلّما نشطتُّ في إعادة تأهيله بِحماس لا يُقاس.

وفي أحد الأيّام، وأنا أمشي ككلّ صباح لتمرين رجلَيَّ، رأيتُ عجوزًا تحملُ أكياس نفايات متوجّهةً نحو القمامة. لفَتَ ذلك المشهد إنتباهي بسبب مانكين كان مرميًّا بجانب النفايات. ركضتُ لأرى حالته وإذ بالمرأة تقولُ لي:

 

ـ هذا المانكين هو لي... أو بالأحرى كان... فلا بدّ أن أتخلّص منه بعدما لَم أعُد بحاجة إليه وصارَ بحالة يُرثى لها. فالقماش بات مُهترئًا والخشب أكلَه السّوس. وأنا أخشى على باقي أثاثي مِن تلك الحشرات اللعينة.

 

ـ هل أنتِ خيّاطة يا سيّدتي؟

 

ـ كنتُ خياطة يا أستاذ... ولكن...

 

ومدَّت السيّدة يدَيها ورأيتُهما ترتجفان بقوّة. إرتسَمَ الحزن على وجه الخيّاطة فسألتُها:

 

ـ أرجو أن يكون لكِ مصدر رزق غير الخياطة، فحزنكِ واضح.

 

ـ أتدبّرُ أمري، لكنّ حزني سببه عدم قدرتي على مزاولة عمل عشقتُه منذ طفولتي. لكن لكلّ شيء نهاية... واليوم نهاية هذا المانكين الذي ارتدى أجمل الملابس بفخر واعتزاز.

 

ـ كنتُ أنوي أخذه ولكن عدلتُ عن ذلك الآن. أنا أرمّمُ الأشياء القديمة ثمّ أبيعُها أو أُزيّنُ بها منزلي. فأنا هاوي أثريّات وأغراض غير إعتياديّة.

 


ـ بل خُذه، فذلك أفضل مِن أن يُرمى في القمامة ويُسحَق إلى أجزاء صغيرة وقبيحة. خُذه لكن إعتَنِ به جيّدًا فهو ماضيّ بأسره.

 

ـ أعدُكِ بذلك، سيّدة...

 

ـ مريَم.

 

ـ إسمي جاد، لقد تشرّفتُ بمعرفتكِ، يا سيّدتي.

 

حمَلتُ المانكين بتأنٍّ ونظرتُ إلى المرأة التي بدَت وكأنّ أحدًا ينتشلُ منها ولدها. شعرتُ بالذنب قليلاً، لكن عدتُ وتذكّرتُ أنّ مصيره معي أفضل بكثير مِن الذي كان مُقدّرًا له.

وفور وصولي البيت بدأت بإعادة تأهيل المانكين إذ كان بحالة مُزرية بعد سنين مِن الوخز بالدبابيس. غيّرتُ القماش القديم الذي لفّه لسنوات طويلة، بآخر مِن النسيج الحريريّ بعد أن رمَّمتُ قاعدته الخشبيّة وعالَجتُه مِن السّوس. ومِن ثمّ رصّعتُه بالخرز والقصَب الملوّن بألف لون، ولفَفتُ حول عنقه شالاً مِن الريش.

عن بعد، كان المانكين يبدو وكأنّه سيّدة أنيقة جاهزة للذهاب إلى حفل راقص كالتي كانت تُقام منذ أكثر مِن قرن. كانت النتيجة مُذهلة وامتلأ قلبي بالفخر. تذكّرتُ السيّدة مرَيم وتصوّرتُ فرحتها لو رأَت المانكين بشكله الجديد، لكنّني عزمتُ على ألا تراه خوفًا مِن أن تطلبَ استرجاعه. أخذتُ بعض الصوَر للمانكين لاستعمالي الشخصيّ ولعرضه على الإنترنت بقصد بَيعه لو جاء بسعر مقبول، ولأريه، عن بعد، لصاحبته القديمة.

وفور إنزال صوَر المانكين على صفحتي الإلكترونيّة، إنهالَت عليّ العروض بالشراء، وارتفعَت الأسعار إلى أن بلَغَت حدًّا لَم أتصوّره مُمكنًا. قبضتُ المال بفخر، ففي آخر المطاف، لَم يكن للمانكين أن يُساوي شيئًا لولا فنّي، ودعَوت للسيّدة مرَيم بالخير.

صرفتُ معظم المال على ما كانت تشتهيه نفسي، لكنّني لَم أكن مُرتاحًا، لِذا لَم أنَم جيّدًا في تلك الليلة ورحتُ في الصباح الباكر إلى بيت صاحبة المانكين، فلَم يُبارح مشهد يَديها المُرتجفتَين خيالي. ماذا لو كانت تلك المرأة بحاجة إلى المال بعد أن اضطُّرَت لإيقاف الخياطة؟ كان لا بدّ لي أن أُعطيها القسم المُتبقّي مِن المال الذي قبضتُه حتى لو لَم يكن ذلك مِن حقّها، لأنّها كانت تنوي رمي المانكين في القمامة.

إبتسمَت لي السيّدة مريَم عندما رأتني واقفًا عند بابها، ودَعتني إلى الداخل لِتناول الشاي والبسكويت. كان بيتها صغيرًا للغاية وتفحّ منه رائحة غريبة علِمتُ لاحقًا أنّها رائحة الزهور المُجفّفة التي تملأ المكان. أرَيتُ السيّدة صوَر المانكين بحلّته الجديدة وهي ذرفَت الدموع مِن كثرة فرحها:

 

ـ أشكُركَ يا سيّد جاد، فلقد أعَدتَ الحياة لصوفيا.

 

ـ صوفيا؟

 

ـ أجل، لقد أعطَيتُها هذا الإسم أوّل ما رأيتُ المانكين في واجهة المحل، وطلبتُ مِن والدي الذي كان برفقتي شراءه لي. وأعطَيتُه وعدًا بأن أحافظ عليه... نعم، كانت الأشياء باهظة بالنسبة لنا يا سيّدي، فلَم نكن أغنياء.

 

ـ ولماذا صوفيا؟ لماذا لَم تختاري إسمًا شرقيًّا مثلاً؟

 

ـ هو إسم بطلة فيلم أجنبيّ شاهدتُه آنذاك، وكانت البطلة بغاية الجمال وأحبَّها رجل وسيم وغنيّ... كانت تُمثّل بالنسبة لي الشياكة والجمال والسعادة. قضَيتُ وصوفيا سنينًا جميلة للغاية. صحيح أنّها رحلَت لكنّها الآن أكثر جمالاً مِن قبل. يا لَيتَ أبي لا يزالُ على قيد الحياة لرؤية صوفيا بحلّتها الجديدة، لعلِمَ أنّني اعتنَيتُ بها حتى النهاية، كما وعدتُه أن أفعل.

 


أعطَيتُ السيّدة مريَم المال الذي جلبتُه معي. رفضَت أوّلاً ولكنّها عادَت وقبلَت المبلغ، ربمّا لأنّها كانت بحاجة إليه. ودَّعتُ الخيّاطة واتّجَهتُ نحو الباب، إلا أنّني رأيتُ طاولة صغيرة وجميلة للغاية موضوعة في زاوية مُظلمة. توقّفتُ قليلاً ثمّ استدَرتُ نحو السيّدة وقلتُ لها:

 

ـ هذه الطاولة... لو...

 

ـ خُذها.

 

ـ لا... أقصد... بلى... لكن...

 

ـ خُذها!

 

أخذتُ الطاولة الصغيرة وركضتُ بها إلى البيت كالطفل. لَم أقُل للسيّدة مريَم ما أنوي فعله، فقد كان هذا هو سرّ ملأ قلبي بحماسٍ لَم أذقه مِن قَبل. أزلتُ لون الطاولة القديم، وملأتُ التشققات بمادّة خاصة ثمّ حفَفتُها جيّدًا لتنعَم، واختَرتُ لها لونًا حديثًا يُعجبُ زبائني. أي أنّني حافظتُ على جمال تلك القطعة وأعطَيتُها مظهرًا شبابيًّا، تمامًا كما قد يفعلُ طبيب تجميل. إنتظرتُ أن ينشف الطلاء جيّدًا لأرى النتيجة النهائيّة، وكنتُ ممنونًا مِن نفسي لدرجة تمنَّيتُ لو أستطيع إبقاء هذه الطاولة في بيتي.

وبعد أن التقطّت صورًا عديدة للطاولة، نشرتُها على الإنترنت وبدأ انتظاري. كنتُ أودّ أن أحصل مِن الشارين على أكبر مبلغ مُمكن لِذا دفعتُهم إلى المُزايدة في ما بينهم.

وفي تلك الأثناء رحتُ أزورُ السيّدة مريَم جالبًا معي بعض المأكولات والحلويات الطيّبة. هي سألَتني عمّا فعلتُه بالطاولة الصغيرة، إلا أنّني غيّرتُ الحديث لأنّ الموضوع كان بالفعل سرّيًّا للغاية.

عندما تعالَت المزايدات على ثمَن الطاولة الصغيرة، بعتُها بسعرٍ عالٍ فاق التصوّر. وحين قبضتُ الثمن، رحتُ إلى الرجل الذي اشترى منّي صوفيا. هو لَم يكن أبدًا يُريدُ بَيعها لي أو لأيّ كان، إلا أنّني عرضتُ عليه سعرًا لَم يتوقّعه ورويتُ له قصّة السيّدة مريَم.

كيف أصفُ لكم ردّة فعل السيّدة مريَم عندما قرعتُ بابها واختبأتُ خلف الحائط، كي لا تراني وترى فقط المانكين الواقف أمامها؟ سمعتُ صرخة خفيفة وصوتها يُتمتم: "صوفيا... صوفيا... كم أنّكِ جميلة، جميلة!"

ظهرتُ أمام السيّدة وبسمة عريضة على وجهي قائلاً:

 

ـ لقد اشتاقَت صوفيا لكِ وإلى بيتها، وطلبَت منّي إعادتها إلى حيث تنتمي فعلاً.

 

ـ أتقصد...

 

ـ أجل، هذا ما أقصدُه... لقد قطعتِ وعدًا على المرحوم أبيكِ ولا أريدُ أن تخلّي بوعدكِ.

 

ـ لكنّكَ بعتَها.

 

ـ وعدتُ واشتريتُها بفضل طاولتكِ الصغيرة.

 

ـ أي أنّكَ خسرتَ مِن مالكَ وجهدكَ.

 

ـ ... وربحتُ رؤية بسمتكِ ودموع الفرح تلك.

 

عانقَتني السيّدة مريَم، ثمّ أدخَلنا المانكين ووضعناه وسط الصالون وجلَسنا نتفرّج عليه بصمت وفرَح.

بقيتُ أزورُ السيّدة مريَم كلّ أسبوع طوال سنوات. ساعدتُها قدر المستطاع وبطريقة لبقة كي لا أجرح كبرياءها، وهي أوصَتني بصوفيا بعد مماتها.

فارقَت السيّدة مريَم الحياة أثناء نومها بسلاسة وهدوء. بكَيتُها كثيرًا إذ صارَت فعلاً صديقتي المُقرّبة. أخذتُ صوفيا إلى بيتي وكأنّني آخذ معي جوهرة وملخَّصًا لحياة السيّدة مريَم لأبقيها حيّة بطريقة غير مُباشرة.

لَم أبِع صوفيا حتى حين مررتُ بضيقة ماليّة. وعندما استقرَّت أحوالي، صنعتُ لها علبة مِن زجاج لأحميها حتى آخر حياتي.

أعلمُ أنّ السيّدة مريَم تراني مِن حيث هي، وأنّها تبتسمُ لي في كلّ دقيقة وتدعو لي بالخير في كلّ ما أفعله. أشكرُها على ثقتها الكليّة بي التي لَم أخنها. فأن يُفرِحَ الإنسان قلب أخيه عمل لا يُقدَّر بثمَن.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button