ما كان سرّ ساندي؟

كنتُ قد جلَبتُ فتاة لتساعدني في الأعمال المنزليّة، بعدما عُدتُ إلى وظيفتي فور دخول ابني الأصغر المدرسة. كنتُ قد اشتَقتُ إلى أجواء التحدّي التي تسود في المكتب، وإلى زملائي الذين كانوا قد أصبحوا عائلتي الثانية.

لم نكن بحاجة إلى أن آتي براتب ثانٍ، فقد كان موسى، زوجي، موظّفًا في أحد المصارف ولم أكن أراه كثيرًا، لأنّه كان يهتمّ أيضًا بمصالح أبي الذي لم يعد قادرًا على ملاحقة ما بدأه عندما كان لا يزال شابًّا.

لِذا لم يتأثّر زوجي بغيابي ولا الأولاد الذين باتوا ينتظروني مع ساندي، الفتاة التي أتَت مِن بلدها لمساعدتي.

كانت ساندي حائزة على إجازة في التربية وتجيد اللغات والتنظيف وطهو بعض الأطباق الشرقيّة، بعد أن عمِلَت سنوات في البلدان العربيّة، أيّ أنّها كانت مثاليّة.

 

إستعَدتُ راحتي بعدما أنجَبتُ أولادي خلال فترة قصيرة، واستطَعتُ إقامة الدّعوات إلى العشاء والخروج مع زوجي عندما لم يكن يعمل. إلى جانب ذلك، عُدتُ أرى صديقاتي في الأماكن العامة بعيدًا عن صراخ أولادي وأولادهم.

مع مرور الوقت، وُلِدَت بيني وبين ساندي صداقة حقيقيّة، لأنّها كانت فعلاً انسانة مميّزة وكنتُ أستطيع أن أترك معها أغلى ما لدَيّ للقيام بعملي في الشركة. وكان البعض يستغرب تلك الصلة التي تربطني بها، وكنتُ أجيبهم بحزم: "تلك المرأة تَرَكَت بلدها وذويها لتعمل في بيت أناس لا تعرفهم، بالرّغم مِن شهادتها ومكانتها التي كانت تستحقّها لولا أوضاع بلدها الاقتصاديّة... هي موظّفة لدَيَّ وليست خادمة... فأنا موظّفة لدى شركة، وهذا لا يُقلّل مِن شأني فلماذا سيُقلّل العمل في بيتي مِن شأن ساندي؟" وكانوا هؤلاء يسكتون خجلاً مِن عنصريّتهم.

 

ولكن تلك العلاقة المميّزة بدأت تتغيّر بعد حوالي السنة مِن قدوم ساندي إلينا. لاحظتُ عليها علامات الانزعاج لدرجة أنّها باتَت تتفادى النَظَر إليّ مباشرة. حاولتُ معرفة ما تشكو منه، وخفتُ أن أكون قد تصرّفتُ معها بشكل غير لائق أو أنّ يكون صَدَرَ منّا أيّ شيء، ولكنّها تحجّجَت بمرَض أمّها في البلد. وبالطبع تفهّمتُ وضعها وعاملتها بلطف زائد، لأعوّض لها عن البعد والحنين اللذَين تعاني منهما تلك المسكينة.

ولكن في إحدى الأمسيات، وجدتُها تفتّش بأمتعتنا. صحيح أنّها كانت مسؤولة عن ترتيب كامل البيت ونظافته، إلا أنّ ردّة فعلها حين دخَلتُ غرفة النوم هي التي أثارَت استغرابي، فقد قفَزَت حين رأتني وكأنّها تفعل شيئًا لا يجدر بها فعله. لم أقل لها شيئًا بل اكتفَيتُ بالابتسام لها، ومِن ثمّ تركتُ الغرفة بصحبتها، خاصة أنّ موسى كان في الحمّام يستحمّ ولم أكن أريده أن يخرج قبل رحيلها. وبعد تلك الحادثة، بدأتُ أراقب ساندي لا لأنّني شكَكتُ بنزاهتها بل بدافع الحشريّة البحتة. كنتُ أريد أن أعرف ما الذي يُقلقها بعدما كانت جدّ مرتاحة عندنا وفرحة بيننا.

 

ولكن حين سمعتُها ذات مساء تقول لابني البكر بصوت منخفض: "عِدني بأنَّكَ لن تقول شيئًا لأمّكَ"، قرَّرتُ التصرّف.

نادَيتُها إلى الصالون حيث كنتُ جالسة مع موسى، وسألتُها بنبرة قاسية عمّا كانت تتكلّم مع ابننا. تلبّكَت وتمتمَت أشياء غير مسموعة ثمّ قالت بصوت عالٍ: "سيّدتي لقد كسَرتُ إناء الزهور وخفتُ أن توبّخيني".

 

بالطبع لم أصدّقها فكانت تعلم تمام العلم أنّني لا أوبّخ حتى أولادي عندما يكسرون شيئًا فكيف هي؟ ولكنّني ادّعَيتُ تصديقها بعدما لاحظتُ انزعاج زوجي مِن احراج ساندي أمامه. فالجدير بالذكر أنّ موسى لم يكن يرى ساندي كثيرًا بسبب عمله المستمرّ، ولم يكن معتادًا عليها كثيرًا. وعندما عادَت ساندي إلى غرفتها سألَني زوجي:

 


ـ ما الأمر؟ لم أرَكِ قاسية مع أحد يومًا؟

 

ـ لا شيء حبيبي... لم أكن قاسية بل أنا متعبة بعض الشيء، وكنتُ أريد معرفة ما يجري فأنا أمّ وتعلم كيف هنّ الأمهات!

 

وضحكتُ لأثبتُ له أنّني بخير، إلا أنّني كنتُ قد بدأتُ أجد تصرّفات ساندي أكثر مِن غريبة وخفتُ على سير عملها وعلى أولادي.

لِذا قصدتُ منزل صديقة لي كانت توظّف أيضًا إحدى صديقات ساندي. طلَبتُ رؤيتها وقلتُ لها:

 

ـ أنتِ على تواصل دائم مع ساندي... قولي لي ما خطبها؟ هل تعاني مِن مرَض أمّها؟

 

ـ ماذا تقصدين سيّدتي؟ أمّها بألف خير، فلقد بعَثَت لي ساندي صوَرًا أتَتها مِن البلد تظهر فيها والدتها متعافية تمامًا لا بل سعيدة!

 

ـ هكذا إذًا... قد أكون أخطأتُ الفهم... أشكركِ.

 

كان مِن الواضح أنّ ساندي كذِبَت عليّ ولكنّ لماذا؟ ما الذي تخفيه عنّي؟ ما الذي يدور في رأسها؟

خفتُ على الأولاد منها، مع أنّها كانت تحبّهم كثيرًا وتهتمّ بهم وكأنّها أمّهم الثانية، ولكن هل كان بأمكاني الوثوق بها بعد كلّ ذلك الغموض؟ لِذا قرَّرتُ التكلّم معها بجديّة لافهامها أنّني لن أطيق وجود اسرار في بيتي، وإن كانت غير سعيدة معنا فيُمكنها الرحيل.

 

وبدأت ساندي بالبكاء مؤكّدةً لي أنّها تريد البقاء، وأنّ المرحلة عابرة وستعود مِن بعدها كما كانت في السابق.

أعطَيتُها فرصة ثانية، لأنّني انسانة طيّبة وأعلم كم أنّ هذا العمل مهمّ بالنسبة إليها ولذويها ولأنّني كنتُ بالفعل أحبّها.

لاحظتُ تحسّنًا بتصرّفات ساندي، ولكنّ الحزن والقلق كانا لا يزالان موجودَين في عَينَيها، وكنتُ سأغضّ النظر نهائيًّا عن الموضوع لولا الذي حَدَث بعد أيّام قليلة.

 

كان موسى قد عادَ مِن العمل وقصَدَ غرفتنا ليستحمّ ويُغيّر ملابسه قبل العشاء، حين سمعتُه يصرخ بساندي مِن بعيد:

 

ـ أين العلبة؟

 

ـ أيّة علبة يا سيّدي؟

 

ـ كانت هناك علبة صغيرة واختفَت! وضَعتُها بين أمتعَتي في الخزانة! أين هي أيّتها السارقة؟!؟

 

ركَضتُ إلى الغرفة، وحين دخَلتُها سكَتَ زوجي فجأة ونظَرَ إليّ بخوف. وحين سألتُه لماذا كان يصرخ بساندي قال لي: "أضَعتُ سروال النوم وكنتُ أسألها عنه".

 

نظَرتُ إلى ساندي التي فضّلَت الخروج بصمت. كنتُ قد سمعتُه بوضوح يتكلّم عن علبة وليس عن سروال، وتساءَلتُ لماذا يكذب زوحي عليّ هكذا.

للصّراحة كنتُ قد سئمتُ مِن كلّ تلك الأكاذيب التي كانت تدور في بيتي، لذا قصَدتُ غرفة ساندي وقلتُ لها: "إمّا أن تقولي عمّا يحصل أو سأضطرّ إلى طردكِ... لدَيكِ حتى الصباح".

كان موسى قد سبَقَني إلى مائدة الطعام مع الأولاد، ولكنّه لم يكن يأكل بل كان ينظر في صحنه مهمومًا. وحين جلستُ بدوري قال لي:

 

ـ علينا أن نتخلّص مِن ساندي وبأسرع وقت... إنّها تتصرّف بطريقة مريبة.

 

ـ أنا مِن رأيكَ حبيبي... سأتصرّف غداً

 

وفي الصباح كانت ساندي في المطبخ تحضّر الفطور بصمت. كنّا في عطلة نهاية الأسبوع وكان الأولاد نائمين، ووحده موسى كان قد غادَرَ إلى المكتب لأنّه كان كما ذكرتُ سابقًا يعمل طوال الوقت. اقترَبتُ منها وقلتُ لها بحزن:

 

ـ ساندي... لم نعد نحتمل هذا الوضع... أظنّ أنّ مِن الأفضل للجميع أن ترحلي... أحبّكِ كثيرًا... آه... لو تقولي لي ما الذي يحملكِ على التصرّف هكذا وممّا تخافين؟ تعلمين كم أنّني متفهّمة ويُمكنّني تقبّل أيّ شيء.

 

ـ أيّ شيء سيّدتي؟

 


ـ طبعًا!

 

خَرَجَت مِن المطبخ وعادَت وبيدها علبة صغيرة وأعطَتني أيّاها. فتحتُها ورأيتُ في داخلها خاتمًا مِن الماس جميل جدًّا. قلتُ لها:

 

ـ أهذه العلبة التي أضاعَها موسى البارحة؟ يعني ذلك أنّكِ حقًا سرقتها.

 

ـ لم أسرقها بل وضَعتُها جانبًا لأريكِ إيّاها.

 

ـ وتفسدين على موسى مفاجأته لي باهدائي هذا الخاتم الرائع! لماذا تفعلين شيئًا كهذا؟

 

ـ لأنّ الخاتم ليس ولم يكن يومًا مخصّصًا لكِ سيّدتي... بل لعشيقته.

 

عندما قالَت لي ذلك شعَرَتُ وكأنّ أحدًا صفعَني، ولكنّني أجبَرتُ نفسي على الابتسام لأريها أنّني لا يُمكنني تصديق ذلك. ولكنّها تابعَت:

 

ـ نومي خفيف جدًّا وأستيقظ لمجرّد سماع أبسط صوت، ورأيتُ السيّد موسى مرارًا جالسًا في الصّالون وسط الليل وهو يتبادل الرسائل مع أحد، وسرعان ما صارَ يتصل بامرأة ويقول لها أشياءً حميمة جدًّا... كم كرهتُه! كان يُغادر السّرير حيث أنتِ نائمة بالقرب منه... وحين وجَدتِني أفتّش في غرفتكم أثناء حمّام السيّد، كنتُ أريد أن أتأكّد مِن الرّسائل... أعلم أنّ ما فعلتُه سيّئ جدًّا ولستُ فخورة بنفسي، ولكنّ دافعي كان حمايتكِ لكثرة حبّي واحترامي لكِ.

 

ـ يا إلهي... لا أعلم إن كان عليّ تصديقكِ فقد تكوني قد اخترَعت كلّ ذلك... للواقع لا أصدّقكِ! أنتِ كاذبة!

 

ـ سيّدتي... أفهم حيرتكِ ولم أكن أريد البوح بما أعرفه لولا... لولا نيّة السيّد موسى بالزواج... نعم هذا الخاتم هو لعروسته الجديدة.

 

ـ إخرسي! مِن المؤكّد أنّ موسى يُريد اهدائي الخاتم لأنّه غائب طوال الوقت ويُريد التعويض لي!

 

ـ لدَيَّ شاهد سيّدتي.

 

ـ مَن؟ إحدى صديقاتكِ؟

 

ـ لا... بل ابنكِ... كنتُ أنزّه الأولاد حين مرّ زوجكِ بسيّارته وإلى جانبه امرأة تضع رأسها بحنان على كتفه وهو يقود، ولقد حملتُ ابنكِ البكر على وعدي بعَدم إخباركِ بما رآه، وأعطَيتُه تفسيرًا يُريحه بأنّ أباه كان يوصل زميلة له إلى المشفى لأنّها كانت مريضة... إسأليه.

 

وانتظرتُ بصبر أن يستفيق ابني، وسألتُه عن تلك المريضة فأكَّدَ لي أنّ والده كان فعلاً في الوضع الذي وصَفَته لي ساندي.

بقيَ لي أن أنتظر عودة زوجي لأواجهه وأفهم منه ما يجري فعلاً. كانت ساعات طويلة خلتُها لن تنتهي إلى أن وصَلَ موسى أخيرًا. طلَبتُ منه أن نجلس سويًّا لأنّني أريد أن أكلّمه بموضوع هام. كنتُ قد بعثتُ بالأولاد مع ساندي إلى أهلي، لأتمكّن مِن التفاهم مع زوجي على راحتنا.

في البدء أنكَرَ كلّ شيء ولكنّه عاد واعترَفَ بموضوع خيانته لي ومشروع الزواج مِن عشيقته. كان ينوي فعلاً ذلك سرًّا ومِن ثمّ تركي نهائيًّا. وعندما سألتُه عن دوافعه قال لي:

 

ـ لقد سئمتُ مِن زواجنا... هي مختلفة... أعنّي أنّها أكثر نشاطًا وحيويّة وتفعل أشياء ترضيني... لن أدخل في التفاصيل.

 

ـ هذا لأنّها عزباء يا غبّي... حين تنجب لكَ ثلاثة أطفال ستفقد كلّ الذي عدَّدتَه لي... كم أنّكَ سطحيّ! لا تقدّر شيئًا... إرحل فلم أعد أريدكَ! ولا تنسىَ أنّكَ ستخسر أعمال أبي وسأطالب بحضانة الأولاد أيضًا.

 

ـ لا يهمّني! خذي ما تريدينه فلدَيّ حبيبتي!

 

نظَرتُ إليه باحتقار، كان مستعدًّا ليس فقط للتخليّ عنّي بل عن أولاده أيضًا، وكلّ ذلك مقابل امرأة ترضيه جنسيًّا... يا لحقارته!

كنتُ على وشك البكاء ولكنّني لم أشأ اعطاءه لذّة الانتصار، وحبَستُ دموعي بعد أن تذكَّرتُ أّنّني لم أخسر شيئًا، فقد كان لدَيّ أهلي وأولادي وعملي... وساندي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button