لن أستطيع أبداً وصف شعوري عندما أخبرتني أمّي أنّها ستطلّق أبي بعد ثلاثين سنة من الزواج. إنهال عليَّ الخبر كالصاعقة فلطالما إعتقدتُ أنّهما ثنائي مثالي وأخذتُ علاقتهما كعبرة في حياتي وفي بحثي عن شريك. حتى أنني عندما إلتقيتُ بالذي أصبح زوجي لاحقاً قلتُ له: "أريد علاقة كالتي يعيشها والديّ". وعندما سألتها عن سبب قرارها هذا قالت: "إنتظرتُ حتى تكبري وأطمئنّ على مستقبلك. وها أنتِ أصبحتِ راشدة وسعيدة ولم يعد عندي سبب لأبقى". وبالطبع لم أكتفي بهذا التفسير المبهم فذهبتُ إلى والدي طارحة عليه نفس السؤال. فرأيه كان أن أمّي تمرّ بفترة عصيبة ومن الأفضل تركها تفعل ما تشاء إلى حين تسترجع رشدها. حزنتُ كثيراً عليه فكانت الحيرة بادية عليه ولكنني إحترمتُ خصوصيّتهما فتلك كانت حياتهما الخاصة.
ومضَت أمّي في الطلاق وإنتقلَت إلى شقّة صغيرة حيث وضعَت أغراضها الخاصة وكانت فرحة جداً لكونها ستعيش لوحدها وعندما ذهبتُ لزيارتها وجدتُها متألّقة والبسمة لا تبارح شفتيها. هنّأتها على منزلها الجديد وأرتني الغرفة التي خصّصتها لي:
- هذه غرفتكِ في حال تشاجرتِ مع زوجكِ أو أساء معاملتكِ.
- لماذا تقولين هذا يا أمّي؟ حسّان رجلٌ طيّبٌ جدّاّ وهذا لن يحصل أبداً.
- لا أحد يعلم ما يخبّىء له القدر. إعلمي فقط أنّ لديك مكان تلجئين إليه عند الحاجة.
شكرتُها على لفتتها هذه ولكنني إسغربتُ كثيراً أن تفكّر أمّي بأن يسيئ إليّ زوجي إلى حدّ إجباري على ترك بيتي.
أمّا أبي فبقيَ في المنزل الأساسي وبعد رحيل أمّي عمّت الفوضى في كل مكان فقررتُ المرور به كل أسبوع لأساعده على بعض الأعمال المنزليّة. ومع مرور الأيّام أصبح عندي نقمة على والدتي لما فعلته بزوجها فهملتُها لأركّزَ على مساندة الحلقة الأضعف. وبّختها عدّة مرّات عبر الهاتف شارحة لها وضع والدي ولكنّها كانت دائماً تجيب: "ربما هكذا سيكتشف قيمتي".
وبينما كنتُ أقسّم وقتي بين عملي ومنزلي ومنزل أبي كانت أمّي تعيش قصّة حبّ جديدة وكأنّها رجِعَت مراهقة. إكتشفتُ أمر هذه العلاقة صدفة عندما ذهبتُ ألاقي أصدقاء لي في المقهى. كانت جالسة على طاولة بقربي وبرفقتها رجل بسنّها وكانا يضحكان بصوتٍ عالٍ وهما يمسكان اليدين. في البدء لم أصدّق عينيّ وقلتُ لنفسي أنّ نظري يخونني ولكن إحدى صديقاتي قالت لي: " أليست هذه والدتكِ؟".
نهضتُ عن الكرسي وذهبتُ إليها:
- أمّي... ماذا تفعلين هنا؟
- أفعل ما يفعله باقي الناس، أحتسي القهوة!
- ومن هذا الرجل؟
- آه... أعرّفكِ على هيثم... صديق قديم جداً... كنّا نتواعد قبل أنّ أتزوج من أبيكِ... كم أنا سعيدة أنني وجدتُه من جديد... هو أيضاً مطلّق ويعيش وحده."
نظرتُ إلى الرجل ووجدته يبتسم لي ببراءة فحمقتُ جداً وتركتهما دون أن أسلّم عليه حتى. خرجتُ من المقهى بعد أن ودّعتُ رفاقي وعدتُ إلى البيت أخبر زوجي بما حصل آملة أن يساعدني. إستمع لي وقال:
- ربّما أبوكِ على حق... إنّها تمرّ بمرحلة أرجو أن تكون مؤقّتة... إسمعيني... لطالما كانت والدتكِ إمرأة عاقلة ولائقة وعرفَت كيف تجعل منكِ إنسانة صالحة. لما لا تعطيها بعض الوقت؟ ثقي بها قليلاً!
- أظنّ أنّها فقدَت عقلها ولكن سأفعل كما قلتَ، سأتحمّل الوضع وسنرى نتيجة هذا التصرف. أتمنّى فقط ألا تتصاعد الأمور وتقرّر أن تتزوّج مجدّداً!"
كان قلبي دليلي لأنّه بعد شهر تقريباً إتصلَت بي أمّي تطلب رؤيتي. كانت تنتظرني في صالونها وبرفقتها ذلك الرجل وبعد أن قبّلتني بحرارة أخبرتني وهي تبتسم:
- طلبَ هيثم يدي للزواج وأنا قبلتُ!
- ماذا؟؟؟ هل جننتِ؟ تحمّلتُ تصرفاتكِ الصبيانيّة حتى الآن ولكن هذا يكفي!
- بل أنا التي تحمّلتُ الكثير... منه ومنكِ ومن كل الناس! أنتِ لا تعلمين شيئاً عن أبيكِ وعن حقيقة زواجنا... لم أكن أريد إخباركِ ولكن ما دمتِ مصرّة... أترين هذا الرجل؟ نعم هيثم... كنّا متحابّان كثيراً وكنّا ننوي الزواج منذ أكثر من ثلاثين سنة... ولكن جاء وحشٌ أنانيّ فرّق بيننا... وهذا الوحش هو بالطبع أبوكِ الذي كان أيضاً جارنا وكان قد قرّر أنّني لن أكون لسواه فذهب لوالدي وقال له أنّ هيثم رجل عديم الأخلاق ينصبُ على الناس ويسلبُ منهم مالهم وجاء حتى بشهود زور لتأكيد صحّة أقواله. وحرمني أبي من رؤية حبيبي الذي فضّل الهجرة. وتزوّجتُ من أبيكِ على مضض لأنّه أقسم أنّه لن يدعني وشأني... ولكنّه بعد أن فاز بي لم أعد أهمّه وبدأ يبحث عن طريدة أخرى بل طرائد. كان يتركني وحدي في المنزل لأيّام طويلة وهو برفقة نساء أخريات ويعود ليسيء معاملتي. ما تعرفينه عنه هو ما جعلتُكِ تظنينه حقيقة لكي لا تشوّه صورة الرجل عندكِ ولكي تكوني سعيدة لاحقاً. جعلتُ منه إنسان صالح في نظركِ ولكن لم يكن يوماً هكذا. بدّد مالي ومال أهلي على الميسر والنساء ولم يهدأ إلا عندما كبِرَ في السن ولم يعد لديه شيء يتباهى به. تحمّلتُ هذه الإساءات فقط من أجلكِ ووعدتُ نفسي أن أهرب منه عندما تصبحين جاهزة.
ما قالته لي صعقني وتغيّر كلّ شيء بنظري ففهمتُ طوق والدتي للعيش بسعادة مع الذي أحبّته وتمّ تفريقها عنه. إنهالَت دموعي وعانقتُها قائلة:
- هنيئاً لكما.
ثم ذهبتُ لأرى أبي وأطلبُ منه تفسيراً لما فعله بأمّي فكل ما إستطاع قوله كان:
- لقد كنتُ قاسياً وشرّيراً وأنا اليوم أحصد ما زرعتُه...
وتزوّجَت أمّي من هيثم وهي الآن تتابع قصّة حبّ أوقِفَت لسنين طويلة.
حاورتها بولا جهشان