كانت أمّي مِن أجمل النساء وأرقاهنّ، دللها والداها وأعطَياها كلّ ما تمنَّت نفسها، ليس فقط لأنّهما كانا أثرياء وهي ابنتهما الوحيدة، بل لأنّها تستحقُّ الدّلال ويليقُ بها. إلا أنّها أحبَّت رجلاً مِن غير طبقتها الاجتماعيّة لَم يرَ فيها سوى رقم حسابها المصرفيّ. حاوَلَ الجميع الوقوف بوجه زواجهما، لكنّها بقيَت مُصرّة عليه. فأبي كان رجلاً مُحتالاً ووصوليًّا يتمتّع بجاذبيّة لا تُقاوَم ومعرفة واسعة بفنّ الاغراء.
وهكذا تزوّجا، وبعد فترة ليست بطويلة رضيَ جدَّايَ عليهما، وطلبا منهما العَيش معهما في المنزل الكبير الشبيه بالقصور الفخمة التي يحلمُ بها الناس. هناك ولِدتُ وكبرتُ.
تصرَّفَ والدي وكأنّه سيّد المكان، الأمر الذي أزعَجَ جدّي إلى حدّ كبير، لكنّه تحمَّلَ صهره مِن أجل وحيدته التي أحبَّها فوق كلّ شيء. وحين جئتُ إلى الدنيا، صِرتُ محطّ محبّة ودلَع الجميع تمامًا كما حصَلَ لأمّي مِن قبلي.
علاقتي بأبي كانت جيّدة ليس أكثر، فهو بقيَ يشعرُ أنّه غريب بالرغم مِن مُحاولاته الاندماج، وعاشَ بعيدًا عنّا، تارة في العمل الذي أسَّسَه له جدّي، وتارة مع أصدقائه الذين كانوا يُشبهونَه، أي رجال يعيشون مِن تَعَب غيرهم.
أمّا بالنسبة لأمّي، فكانت سعيدة بعد أن حصَلَت على مرادها، أي الزواج مِن الذي تُحبّه، والعَيش حيث ترعرعَت وتربية ابنتها الوحيدة.
لكنّ هذه السعادة لَم تدُم، إذ ماتَ جدّي بسبب ضعف قلبه، ولحقَت به زوجته بعد سنتَين إثر مرض خبيث وفتّاك. وبالطبع ملأ الحزن قلب أمّي، وفرِحَ أبي بأنّه أصبَحَ الآمر الناهي والمُستفيد مِن ثروة أمّي التي لَم تكن ترفضُ له طلبًا.
بعد موت جدَّيَّ، صِرتُ حزينة القلب وشعرتُ بوحدة عميقة، وأدَرتُ اهتمامي على القراءة لأملأ فراغ حياتي كفتاة صغيرة. وسرعان ما تغيّرَت العلاقة بين والدَيَّ، بعد أن وجَدَ أبي أنّه لَم يعُد مُجبرًا على لعب دور الزوج المُحبّ. فأصبح يغيبُ عن البيت كثيرًا، ووصَلَت لأمّي أخبار خياناته العديدة، الأمر الذي حطَّمَ قلبها. وذات يوم، أنهَت والدتي حياتها. وأبشَع ما في الأمر هو أنّني كنتُ التي وجدَتها ميّتة.
وقفتُ مصدومة أمام جثّة أعزّ إنسانة لدَيّ، أحدّقُ بكميّة الدماء التي تُحيطُ بها. ولا يزالُ ذلك المشهد يُرافقُني حتى اليوم، ويا لَيتني أستطيعُ محوه مِن ذاكرتي.
لَم يذرِف والدي دمعة واحدة على زوجته، بل أسرَعَ بالتدابير القانونيّة لمعرفة مقدار ثروتها وكيفيّة توزيعها. كنتُ أنا سأرثُ الحصّة الأكبر، لكنّ ذلك لَم يُزعجه، لأنّني كنتُ لا أزال قاصرًا ولدَيه مُتّسَع مِن الوقت للتصرّف بما لي كوَنه الوصيّ الشرعيّ عليّ.
أحمُدُ ربّي أنّ والدي كان يُصرّ على الحفاظ على مكانتنا الاجتماعيّة، وإلا أنّا مُتأكّدة مِن أنّه كان قد غيَّرَ لي مدرستي الباهظة القسط والتكاليف. فإصراره على الحفاظ على وجوده في طبقة نبذَته واحتقرَته كان، في بعض الأحيان، أقوى مِن حبّه للمال.
بدَّدَ أبي مالي بإتقان، فهو اشترى سيّارات فخمة، وقطع مِن الأراضي ومنازل على البحر والجبل. ولتتويج نمط حياته الجديد، تزوّجَ مِن راقصة كاباريه كان يتردّدُ إليه قبل موت زوجته. فسلوى كانت عشيقته منذ سنوات، وترقَّت إلى درجة زوجة وسيّدة منزل لَم تتصوّر حتى في أحلامها أن تدخل إليه.
لَم أكرَه سلوى، بل أبي. فتلك المرأة كانت مُسلّية للغاية، بسبب قلّة معرفتها بالأصول وبطريقة لبسها وتصرّفاتها. وهي أدخَلت علينا نفحة جديدة. كرهي كلّه ذهَبَ ناحية ذلك الرجل الأنانيّ الذي لَم يتعَب حقًّا يومًا، بل حصَلَ على مراده بفعل خططه الماكرة وجوع روحه. لكنّني لَم أتصوّر أنّه سيصل إلى تجريد ابنته الوحيدة مِن ميراثها مِن أجل ملذّات عابرة ومُقتنيات فانية.
منَعَ والدي سلوى مِن الإنجاب، الأمر الذي أحزنَها إلى أقصى درجة. وحين رأيتُها يومًا وهي تبكي في غرفتها، قلتُ لها:
ـ أبي لا يُحبُّكِ... هو لا يُحبّ أحدًا على كلّ الأحوال.
ـ وما أدراكِ، لا تزالين مُراهقة ولا تفهمين الحياة.
ـ صحيح ذلك، لكنّني أعلمُ أنّه لا يُحبُّني، ومَن لا يُحبُّ ولده لا يُحبُّ أحدًا.
نظَرَت سلوى إليّ بِحزن ثمّ تابعَت البكاء.
وبعد أقلّ مِن ستّة أشهر، طلّقَ والدي سلوى لأنّه سئِمَ منها.
عندها طلبتُ منه بجرأة ألا يجلبَ زوجة أخرى إلى البيت، بل أن يفعل ما يشاء خارجه. تفاجأَ، لكنّه قال لي: "أنتِ على حقّ... فأنا لا أحبُّ الارتباط."
عشتُ باقي سنيني مع العاملين في البيت الذين أعطوني المحبّة التي كنتُ بحاجة إليها، فهم كانوا يُحبّون جدَّيَّ وأمّي ويحتقرون والدي. هم كانوا عائلتي وعاملتُهم بالمثل.
وحين جاء اليوم الذي سُمِحَ لي بالحصول على ميراثي، أي عند بلوغي سنّ الرشد القانونيّ، تفاجأتُ بأنّني لا أملكُ شيئًا. وشَرَحَ لي أبي أنّه فعل ما عليه ليُؤمّن لي دراسة جيّدة وطعامًا وملبسًا، وأنّ الباقي يُحسَب أنّه بَدَل أتعاب:
ـ أيّ أتعاب؟ لَم أرَكَ تتعَب يومًا في حياتكَ يا أبي.
ـ تعبتُ بتربيتكِ لوحدي... لقد ضحَّيتُ بالكثير مِن أجلكِ.
ـ صحيح... صحيح... سهراتكَ وغياباتكَ وعشيقاتكَ وتلك المسكينة سلوى... وسيّاراتكَ وأراضيكَ ومنازلكَ، كلّها تضحيات.
ـ أجل، لكنّكِ اليوم صبيّة مُتعلّمة وجميلة وقادرة على خوض مُعترك الحياة.
ـ مِن دون مال؟
ـ مِن دون مال، أجل، فالحياة معركة عليكِ خوضها لتتعلّمي منها.
ـ كفى احتيالاً ومُراوغة! أريدُ مالي! كنتَ وصيًّا عليّ وعلى مالي، ولا يحقّ لكَ التصرّف بميراثي كما تشاء... أعرفُ حقوقي.
ـ ما هذا الكلام الكبير! مِن أين جئتِ به؟
ـ مِن عادل، إبن الطاهية.
بالفعل كان ذلك الشاب قد تخرَّجَ مِن كليّة المحاماة، وأعطاني لمحة عن حقوقي بعدما طلبَت منه والدته أن يفعل. فهي كانت تعتبرُ أنّ ابنها استطاع دخول الجامعة بفضل جدَّيَّ، وهي مُدينة لهما، فضلاً عن محبّتها الخاصّة لي. كان الكلّ يعلَم أنّ والدي لن يتركَ لي شيئًا.
تابَع أبي:
ـ تعرفين حقوقكِ... هكذا أريدُكِ، قويّة وعازمة. لكن، ما الذي يُمكنُكِ فعله حيال ذلك؟ قولي لي يا شاطرة!
ـ سأعطيكَ فرصة لإعادة ما أخذتُه، وإن لَم تفعل، سأتصرّف.
ضحِكَ أبي بوجهي، ومِن ثمّ رحَلَ إلى أصحابه وعشيقاته، وأنا إلى محامٍ كبير أرسلَني إليه عادل.
لو كان والدي رجلاً عاقلاً بعض الشيء أو يتمتّع بذرّة أخلاق أو ضمير، لكان أعادَ لي ولو جزءًا مِن حقّي، وكنتُ تغاضَيتُ عن الباقي. لكنّه لَم يفعل، الأمر الذي سمَحَ لي بالانتقام منه لِما فعلَه بأمّي وبي. فهو الذي دفعَهَا إلى إنهاء حياتها بعدما تعلّقَت به لدرجة الجنون، لتراه يُهملُها ويُعاشر غيرها علنًا ويصرفُ مالها. لكنّ الذي حمَلَها حقًّا على قتل نفسها، كان جَلب أبي لعشيقاته إلى البيت مِن الباب الجانبيّ وممارسة الجنس معهنّ في إحدى الغرف الخلفيّة. وقد علِمتُ ذلك مِن إحدى مُستخدمينا التي لَم تعُد قادرة على كتمان السرّ مِن كثرة حبّها لأمّي وحزنها عليها.
أقَمتُ دعوى على والدي، وطلَبَ مُحاميّ منه تقديم تبريرات لصرف ميراثي. بالطبع لَم يقدر أبي تفسير نفقاته، فدخلنا في نزاع كبير تكلّم عنه الناس. هو الآخر كان لدَيه مُحامون كبار، لكنّ الحقّ والله كانا إلى جانبي وفزتُ بالدعوى. أعادَ أبي إليّ المُمتلكات والسيّارات وبعض المال الذي كان في حساباته المصرفيّة. بقيَ الكثير طبعًا، إلا أنّ ذلك كان كافيًا. وعندما أصبحتُ المالكة الوحيدة لمنزلنا ولكلّ باقي الممتلكات، أنعَمتُ على مُستخدميّ مِن دون استثناء بالبيت الكبير. ساعدتُهم ماديًّا وأولادهم، وقدّمتُ لمَن يرغب منهم السكن الدائم. فكما قلتُ سابقًا، كانوا هم عائلتي الفعليّة وهم الذين ربّوني واهتموّا بي.
صَرَفَ والدي المال الذي استطاع تهريبه قبل الدعوى ولَم يعُد يملكُ قرشًا واحدًا. وبالطبع جاء إليّ طالبًا المُساعدة ومُدّعيًّا إنّه اشتاقَ إليّ. نظرتُ إليه ساخرة:
ـ تريدُ المال؟
ـ أجل، لأعيش يا حبيبتي.
ـ يُمكنُكَ العَيش كباقي الناس.
ـ أي مِن دون مال؟
ـ أجل، فالحياة معركة عليكَ خوضها... أليس هذا ما قلتَه لي؟
ـ الله يطلبُ منكِ، بل يأمرُكِ، أن تُكرمي أباكِ!
ـ صحيح، وكنتُ لأفعل ذلك لو كنتَ أبًا.
ـ ما أنا أذًا؟
ـ أنتَ جبان غير مسؤول، تستفيد مِن الناس ومِن ثمّ ترميهم. لَم تنظر إليّ يومًا نظرة حنان، لَم تأخذني بين ذراعَيكَ، لَم تواسيني ولو مرّة واحدة. رمَيتني في أحضان الخَدَم الذين أحبّوني أكثر منكَ. لن أُكرم قاتل والدتي والشخص الذي جاء بي إلى الدُنيا ليُثبّتَ وجوده في عائلة لَم تكن تُريدُه. لن أُكرمكَ. وإن كان ذلك سيُغضِبُ الله، فسأقبلُ بحكمه عليّ. لكنني متأكّدة مِن أنّ غضبه منكَ أكبر بكثير، فهو يُمهل ولا يُهملُ.
حاورتها بولا جهشان