لماذا تكرهني يا بني؟

مَن كان ليُفكّر أنّ ابني سيتحالفُ مع ابن زوجتي ضدّي؟ حتى اليوم أجدُ صعوبةً في تصديق ما حدَثَ، ولا أزالُ أسألُ نفسي أين أخطأتُ بتربيته حتى قرَّرَ خيانة ثقتي وأذيّتي.

حين توفّيَت زوجتي، كان رامي في الخامسة مِن عمره، وأقسمتُ أنّني سأبذلُ جهدي للتعويض له عن خسارته والإهتمام به وكأنّني أيضًا أمّه. لِذا لَم أتزوّج مُجدّدًا إلا بعد أن مضى على ترمّلي أكثر مِن عشر سنوات، وحين اعتبرَتُ أنّ شخصيّة رامي كانت اكتملَت وصارَ قادرًا على مُجابهة زوجة أب لو حصَلَ أن كانت شرّيرة. وهكذا تعرفتُ إلى زوجتي الثانية عند أصحاب مُشتركين لنا وهم أثنوا كثيرًا على أخلاقها الحسنة وسيرتها النظيفة. هي الأخرى كانت قد فقدَت زوجها ولدَيها شاب يُناهزُ سنّه سنّ رامي. تعرّفَ الشابّان إلى بعضهما وفرِحا أن يصيرَ لهما أخٌ. وقد سرّني أنّ الأمور تجري بسلاسة قصوى وعقدتُ قراني على مها.

عشنا كلنّا في بيت زوجتي الجديدة بسبب كبره وقربه إلى مدرستَي ولدَينا، وكنتُ سعيدًا للغاية إذ وجدتُ لنفسي رفيقة وحبيبة بعد سنوات مِن الوحدة.

كان رامي وخليل إبن مها يقضيان مُعظم وقتهما معًا، وبعد فترة طلَبَ إبني أن أنقلَه إلى مدرسة خليل كي يتسنّى لهما الدرس والمُراجعة معًا وقت الإمتحانات. لبّيتُ طلبه بسرعة واطمأنّ قلبي على مسار الأمور، واستطعتُ أخيرًا التركيز كما يجب على حياتي العاطفيّة.

لكنّ هدوء إبني وحماسه، غير المُسبَق، على الدّرس كانا يُخفيان أشياءً لَم تخطر ببالي. ففي تلك المدرسة، كان هناك شاب في آخر سنته المدرسيّة يقومُ بتجنيد الشبّان لبيع المخدّرات داخل المؤسّسة وخارجها، وكان خليل أحدهم واستطاع جَذب رامي إلى العصابة. كيف قَبِلَ إبني الإنضمام إلى هكذا أناس في حين لَم يلمس حتى سيجارة في حياته؟ بسبب المال طبعًا فقد كانت نسبة الأرباح مُغرية خاصّة لمَن هو في السادسة عشرة، أي بحاجة إلى شراء ألعاب الفيديو والهواتف المحمولة أو مُكبّرات الصوت الحديثة، ولَم يكن راتبي كافيًا لشراء كل ذلك بسبب واجباتي تجاه عائلتي التي كبرَت بسرعة.

ويوم اكتشفتُ صدفة كيسًا في داخله مادّة غريبة، نادَيتُ رامي بسرعة وقلتُ له غاضبًا:

 


ـ قُل لي إنّكَ لا تعرف شيئًا عن هذا الكيس، أرجوكَ!

 

ـ مَن أذَنَ لكَ بالمسّ بأمتعتي؟

 

ـ أوّلاً لستُ بحاجة إلى إذن لذلك، ثانيًا لَم أكن أبحث عمّا يخصّكَ بل عن كتاب أعرتُه إيّاكَ في ما مضى وأحببتُ إعارته لصديق. أجِب على سؤالي!

 

ـ لا بدّ أنّ هذا الكيس لخليل. إسأله عنه.

 

وغادَرَ إبني الغرفة. وأنا رحتُ أسأل إبن زوجتي عن الأمر وهو رمى الكرة في ملعب إبني. عندها أخبرتُ مها عمّا يجري وهي وعدَتني بأن تتصرّف بطريقة سلسلة وليس مثلي بغضب. وافقتُ على أن تتولّى هي المهمّة لكن بشرط أن تعرف كلّ التفاصلي وتمنع أيًّا مِن الشابَّين مِن معاودة التعاطي بهذه المواد.

كان بالي مشغولاً للغاية، وللحقيقة خابَ ظنّي بإبني لكنّني عدتُ وفكّرتُ بأنّها مرحلة عابرة كما يحصل لبعض الشبّان في هذا السنّ. إنتظرتُ بفارغ الصبر جواب مها، لكنّها بقيَت تؤجّل الموضوع بسبب عدَم إيجادها الوقت والطريقة المُناسبة.

ثمّ واجهتُ مشاكل في عملي ألهَتني عن موضوع رامي بعض الشيء، فإيجاد لقمة العَيش كان يتصدّر إهتماماتي، واعتبرَتُ أن مواجهتي لإبني قد تكون كافية لردعه عن مُعاودة ما اعتبَرتُه "حفظ المخدّرات الخفيفة لأحد أصدقائه". فكان مِن الواضح أنّ إبني أو حتى خليل لا يتعاطيان المخدّرات وذلك مِن مُراقبتي لتصرّفاتهما التي بقيَت طبيعيّة.

لكنّ رئيس العصابة كان مُستاءً مِن اكتشافي للمخدّرات، فقرَّرَ توقيف رامي وخليل عن التوزيع، أي أنّهما لَم يعودا يجنيان المال الذي تعوّدا عليه، ونمَت في قلبَيهما نقمة ضدّي خاصّة بعدما قرّرتُ التكلّم معهما مُجدّدًا. فحين لَم تتصرّف مها لمعرفة الحقيقة، وجَبَ عليّ إجراء حديث مع الشابَّين حتى لو كانا قد فهِما الرسالة. فأنا أبٌ وعليّ القيام بواجب رعاية وتوجيه عائلتي. لكنّ حديثي مع رامي وخليل لَم يكن مُجديًا إذ أنّهما نكرا كلّ شيء، وبان عليهما الغضب الشديد والرّغبة بإنّهاء المُحادثة بحجّة الدّرس. وفي اليوم نفسه قرّرا التخلّص منّي. نعم، أقصدُ أنّ ابني الذي أحبَبتُه ورعَيتُه، أرادَ قتلي بمساعدة شاب لَم يكن يعرفه قبل سنة، وكلّ ذلك مِن أجل بعض المال الحرام. مَن يُصدّقُ ذلك؟!؟

بالطبع لَم يخطر ببالي أنّ وجودي بات مُزعجًا، فتابعتُ حياتي كالعادة على أمل أن أتمكّن مِن دخول رأس إبني ومعرفة كيفيّة ردعه عن عالم المخدّرات.

لكن في إحدى الأمسيات وعندما دخلتُ المرآب وترجّلتُ مِن سيّارتي لأدخل البيت، قامَ شخصان مُقنّعان بضربي بوحشيّة ولَم يتركاني إلا حين ظنّا أنّني متُّ. إستفقتُ في المشفى بحالة يُرثى لها وفي كلّ أنحاء جسمي كسور عديدة. كان أحد الجيران قد وجدَني فاقدًا للوعي في أرض المرآب وأسعفَني بسرعة. لَم أستطع طبعًا إرشاد الشرطة إلى الفاعلَين، وعدتُ إلى البيت بصحبة زوجتي التي لَم تتركَني للحظة. إستغربتُ طبعًا أنّ رامي لَم يزُرني في المشفى إلا مرّة واحدة، أمّا خليل فاكتفى بالإطمئنان عليّ عبر الهاتف. ردَدتُ الأمر مُجدّدًا إلى سنّهما، فالمراهقون يتصرّفون بطريقة غريبة. ولكّن الحقيقة كانت أنّهما أسِفا لفشل خطّتهما، وخافا أن يظهر عليهما أيّ شيء يُمكنه فضحهما.

 


لَم تكن مها على علم بشيء، وذنبها الوحيد أنّها لَم تحسن تربية إبنها أو حتى الإنتباه إليه مِن كثرة انشغالها بحالتها كأرملة. أنا الآخر، كما ذكرتُ سابقًا، أخطأتُ بما يخصّ رامي، ربمّا لأنّني أردتُ التعويض له عن رحيل أمّه بشكل مُبالغ به.

وبعد أن وجَدَ رامي وخليل أنّني لا أزالُ موجودًا وقادرًا على منعهما مِن التنعّم بحياة محورها كسب المال بأيّة طريقة، وضعا خطّة ثانية أكثر نجاحًا وهي قتلي في سريري أثناء نومي. وللقيام بذلك مِن دون الإضطرار إلى قتل مها أيضًا، ليس حبًّا بها ولكن تجنّبًا للتعقيد، إنتظرا أن تذهب كعادتها عند أمّها في فرصة نهاية الأسبوع. كنتُ لا أزال غير قادر على المشي بسهولة وأقضي وقتي في السرير لأتعافى. لِذا كانت الفرَص مُتاحة للشابّين للقضاء عليّ.

في تلك المرّة لَم يلبس الشابّان قناعًا، فهما كانا متأكّدين مِن نجاحهما بقتلي، ولأنّ تنفيذ جريمتهما كان سيحصل في البيت وليس في مكان عام كالمرآب.

في ذلك اليوم إستفقتُ مِن قيلولتي على صوت أدراج تُفتح وأغراض تُلقى أرضًا في الصالون. كان رامي وخليل يُحضّران للإيحاء بأنّ سارقًا أتى إلى البيت وانتهى الأمر به بقتلي كي لا أفضحه. خفتُ طبعًا مِن تلك الأصوات غير المُبرّرة، واتصلتُ بالجار نفسه الذي أنقذَني في المرآب لأنّه كان الأقراب إليّ. ثمّ جررَتُ نفسي خارج السرير، ووقفتُ خلف الباب حاملاً وعاءً للزهور لأضربَ اللص على رأسه فور دخوله الغرفة. كان قلبي يدقُّ بسرعة فائقة وجسمي يؤلمُني بسبب كسوري ورضوضي، وصلَّيتُ لأبقى واقفًا أكبر وقت ممكن. وفُتِحَ الباب ببطء ورأيتُ رأس إبني يخرج مِن وراء الباب. إرتاحَ قلبي، ولكن حين كنتُ على وشك إظهار نفسي وسؤاله إن كان اللص قد خَرَجَ، سمعتُه يقول همسًا:

 

ـ خليل، خليل... أبي ليس في سريره! ماذا نفعل؟

 

ـ يا إلهي... ألن يموت أبوكَ أبدًا؟!؟ قد يكون في الحمّام.

 

ـ لن يرتاح قلبي قبل أن أقتلَه!

 

ماذا؟!؟ إبني يُريدُ قتلي؟!؟ كادَ أن يُغمى عليّ، لكنّني تمالكتُ نفسي وجررتُ رجليّ حتى الكرسيّ الموضوع في الزاوية والذي أوصدتُ به باب الغرفة ثمّ عدتُ إلى الزاوية مع وعائي، لكنّ قلبي كان يدقّ هذه المرّة مِن كثرة خَيبتي. سألتُ نفسي إن كان مِن المُجدي أن أبقى حيًّا بعد أن اكتشفتُ حقيقة إبني.

طالَ انتظاري، أو هكذا تصوّرتُ، ففتحتُ باب الغرفة على مهلي ولَم أجد أحدًا. بعد ثوانٍ، سمعتُ طرقًا على الباب وصوت جاري يُناديني. ركضتُ بصعوبة لأفتَح له وسقطتُّ أرضًا. حمَلَني الجار إلى سريري، وسألَني عمّا جرى فقلتُ له إنّ اللص غادَرَ البيت. لَم أُفصِح له عن حقيقة ما جرى، فذلك القاتل هو إبني. طلبتُ مِن جاري أخذي إلى بيته إلى حين تعودُ زوجتي.

في المساء عدتُ ومها إلى البيت، ووجدنا رامي وخليل يتأسّفان على سرقة البيت ويتساءلان عن هويّة اللص. عندها قلتُ لهما أمام زوجتي:

 

ـ ستأخذان أمتعتكما وترحلان مِن هنا في الحال! إذهبا إلى بيتي في الجبل إن شئتما لكنّني لا أريدُ رؤيتكما هنا!

 

صرخَت زوجتي إستنكارًا فأسكتُّها قائلاً:

 

ـ إبنكِ وإبني حاولا قتلي مرّتَين... ربمّا بسبب المخدّرات... لكنّ الله لا يُريدُني أن أموت. لقد أخبرتُ الشرطة كلّ شيء وسيأتون للبحث عنكما بعد قليل. إن اقتربَ أحدكما منّي مُجدّدًا، فمصيركما السجن المؤبّد.

 

ثمّ نظرتُ بغضب إلى إبني:

 

ـ يا خَيبة أملي فيكَ يا رامي... لَم ينقصكَ شيء طوال حياتكَ... لقد أحطُّكَ بحناني ووضعتُ حياتي جانبًا مِن أجلكَ... وتحاولُ قتلي بآخر المطاف؟!؟ أيّ صنف مِن الناس أنتَ؟

 

ـ أنا لا أحبُّكَ! ولَم أطلب منكَ أن تُضّحي مِن أجلي! أريدُ المال والكثير منه لنفسي! أكرهُكَ!

 

إمتلأت عينايَ بالدموع ولكنّني بقيتُ مصرًّا على طرد الشابّين. رحلا بعد دقائق ومِن ثمّ أخبرتُ مها بأنّ زواجنا انتهى لأنّني كنتُ أعلم أنّها ستكرهُني هي الأخرى. لكن قبل أن أتركَ بيتها، نصحتُها بعدم إرجاع إبنها إلى البيت بسبب خطورته.

بالطبع كذبتُ حين قلتُ إنّني أخبرتُ الشرطة عن رامي وخليل، ولكنّها كانت الوسيلة الوحيدة للبقاء حيًّا.

بعد فترة ليست بطويلة، تمّ القبض على الشابّين وهما يبيعان المخدّرات أمام المدارس، واقتيدا إلى سجن الأحداث. لقد زرتُ إبني كلّ أسبوع، لأنّه إبني. في البدء لَم يكن يُريدُ رؤيتي لكنّه عادَ وطالبَ بي. هل هو نادمٌ فعلاً على كلّ ما فعلَه؟ لن أعرف الجواب إلا حين يخرج. هل أنا خائفٌ منه؟ أجل، فلدَيه نزعة إجراميّة واضحة. عند خروجه سآخذُه إلى طبيب نفسيّ، لكنّني لستُ مُتأكدًّا مِن أنّ ذلك سيجعل منه إنسانًا سليمًا. فليكن الله بعوني!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button