لم يكن أمامي سوى الانتحار (الجزء الأول)

يوم خرجتُ مِن باب المشفى، كنتُ إمرأة مكسورة. فلَم تنجَح محاولتي بالانتحار واعتبَرتُ أنّ الموت حتى لا يُريدُني. مِن المُستغرَب جدًّا كيف أنّ الإنسان اليائس لا يرى الأمور إلا بمنظور سلبيّ، وكيف أقوى أشعّة نور تنقلبُ بالنسبة إليه إلى ظلمة حالكة.

كانت أمّي تمسكُ بذراعي وكأنّها خائفة مِن أن يأخذني الهلاك منها، وغير دارية كيف ستتعامل معي حين نصل إلى البيت. أمّا أبي، فبقيَ صامتًا طوال الطريق، ولَم ينظر حتى إليّ. شعرتُ بوحدة عارمة، كما فعلتُ طوال حياتي. لَم يتغيّر شيء، وبدأتُ أفكّر كيف أعاودُ محاولة قتل نفسي لكن بطريقة ناجحة.

وصَلنا البيت وركضتُ أحبسُ نفسي في غرفتي، واكتشفتُ أنّ والدتي كانت قد أخفَت مفتاح بابي. إبتسمتُ لتلك المحاولة البائسة، فلَم أكن أنوي الموت في المنزل كما في المرّة السابقة، ربمّا كي لا يتمكّن أحد مِن إنقاذي.

لَم أنَم في تلك الليلة وأنا أنظرُ إلى معصَمَيّ الملفوفَين، وطلَعَ الضوء عليّ أخيرًا.

رحتُ أتناول الفطور مع أهلي وسادَ الصّمت بيننا. كان بودّهما التحدّث معي، إلا أنّ أيًّا منهما لَم يجد الكلمات المُناسبة. رحَلَ أبي إلى عمله وبدأَت أمّي أعمالها المنزليّة الاعتياديّة. بقيتُ في البيت، فلَم يكن لدَيّ مكان أذهب إليه أو إنسان أكلّمُه.

لكن دعوني أروي لكم سبب محاولتي الإنتحار وما جرى بعد ذلك.

وُلِدتُ وربيتُ ابنة وحيدة، مع أنّ والدتي حاولَت أن تأتي لي بأخ أو أخت، لكنّ جسمها بقيَ يرفضُ ذلك. كبرتُ مِن دون أصدقاء بسبب طبعي المُنعزِل، باستثناء سمير إبن عمّي الذي صارَ كأخ لي. كنّا نتبادَل أسرارنا وأحلامنا، إلى حين سافَرَ مع أهله إلى الغَرب. عندها، شعرتُ بوحدتي التي لَم يكن يستطيع أحد ملؤها سوى سمير.

في المدرسة، كنتُ فالحة لكن مِن دون تفوّق، فلَم يكن لدَيَّ طموحات تمامًا كباقي أفراد أسرتي. كنّا أناسًا عاديّين وكان ذلك يُناسبنا. وحين جاءَ الوقت لدخول الجامعة، إخترتُ الآثار كاختصاص لي، ربمّا لأنّني فضّلتُ التعامل مع أناس مِن الماضي على الذين هم حولي. تخرّجتُ بدرجة جيّد، الأمر الذي أراحَني. فلَم أرِد لَفت الانتباه بشيء، بل عَيش حياة لَم أطلبها ولَم تُعجبني.

وكَم كانت فرحتي عارمة عندما عادَ سمير! ولحظة رأى كم كبرتُ وصرتُ صبيّة حسنة الملامح، تغيّرَت نظرته إليّ ولَم أعُد أختًا أو حتى صديقة بالنسبة له، بل أنثى جذّابة. لَم يخطر ببالي أن يُحبّني إبن عمّي، وتفاجأتُ كثيرًا بحديثه لي الذي كان يُشبه ما كنتُ أراه في الأفلام، الأمر الذي أفاقَ المرأة النائمة فيَّ.

 


ووُلِدَت بيننا قصّة حبّ جميلة أبقَيناها في الخفاء بطلب مِن سمير، فهو قال إنّ قُربنا العائليّ لا يسمحُ لنا بأيّ خطأ، وإنّ علينا التأكّد مِن أنّنا فعلاً مُتجانسَين قبل الإعلان عن نيّتنا في الزواج. قبلتُ معه، تمامًا كما قبِلتُ كلّ ما جرى بعد ذلك. فقد كان لسمير تأثير كبير عليّ، أوّلاً لأنّه كان أكبر منّي سنًّا، ولأنّه كان فعلاً كلّ ما لدَيّ. كان هو كاتِم أسراري ورفيق طفولتي، ومِن ثمّ أمَلي بمُستقبل مُختلف.

فحين قال لي إبن عمّي إنّ علينا "ممارسة الحبّ" كاختبار أخير لعلاقتنا، صدّقتُه. إلا أنّ ذلك الماكر سافَرَ بعد أقل مِن شهر وبعد أن استفادَ مِن جسَدي وسذاجتي. إختفى مِن دون أن يُودّعني أو يعِدُني بشيء.

بكيتُ كالطفلة لأنّه غشّني واستغلّني وتركَني. حفَظتُ السرّ كي لا أسمع عتاب أمّي وأتحمّل غضب أبي. على كلّ الأحوال، لَم أتوقّع منهما أن يفهما سبب تعلّقي بسمير، فهما لَم يُحاولا قط فهمي أنا.

لكنّني لَم أستطِع كتمان سرّي أكثر مِن ذلك. فقد إكتشفتُ أنّني حامل بعد أن أصابَني الغثيان الصباحيّ وانقطَعَ حَيضي. شعرتُ بضياع فظيع، فالحَمل كان أمرًا خطيرًا للغاية وعواقبه لا تُقاس. أخبرتُ أمّي بالحقيقة، ومِن حسن حظّي أنّ أبي كان في عمله وإلا كان قد ركضَ على صراخ زوجته وبكائها. وبعدما نشفَت دموعها، قالَت لي:

 

ـ حسنًا... علينا التصرّف بسرعة... سنذهبُ غدًا إلى مَن بإمكانه حلّ مصيبتنا.

 

ـ لكن...

 

ـ إخرسي أيّتها الفاجرة! لَم أُربّكِ هكذا!

 

ـ للحقيقة، لا أذكُر يا أمّي أنّكِ جلستِ معي يومًا لتحكي لي عن الشبّان والحياة. كلّ ما أعرفُه جئتُ به مِن الأفلام والإنترنت. ولَم تنبّهيني مِن الكاذبين والمحتالين... ولَم تُمانعي وجود سمير معي طوال سنين. المربى لا يكون فقط بما يتعلّق بالنظافة والتهذيب، بل بتدريب وتحصين الأولاد لمواجهة الدنيا.

 

ـ كفاكِ فلسفة! أنتِ عار علينا.

 

ـ ألا يهمُّكِ شعوري؟ ألا يهمُّكِ كيف أنّني أحبَبتُ وخُذِلتُ؟ ألا يهمُّكِ أنّ شخصًا مُقرّب منّي إستفاد مِن قلبي وجسَدي ثمّ رماني؟

 

ـ لا

 

ذهبنا في اليوم التالي إلى مُمرّضة مُتقاعدة أجرَت لي الإجهاض. لن أدخل في التفاصيل، إلا أنّني بكيتُ كثيرًا وتألّمتُ أكثر. لكنّ ألَمي الحقيقيّ كان خذلاني مِن سمير وأهلي والحياة. لقد نزعوا منّي طفلاً كان مِن المفروض به أن يكون ثمرة حبّ جميل، وأمَلي بإعادة صياغة حياتي كما يجب. إنتزعوا منّي ما أسموه خطيئة، بينما كان خطأً ذهبتُ وجنيني ضحيّته.

عُدنا إلى البيت وتصرّفَت والدتي وكأنّ شيئًا لَم يكن. لَم يعرف أبي بالأمر. والغريب في الموضوع، هو أنّ أمّي إمرأة مثلي وهي الأخرى فقدَت أولادًا. فكيف لها ألا تشعر بما في داخلي؟ كيف لها ألا تشعر بي؟ لماذا اعتبرَتني المُذنبة الوحيدة بالذي حصل؟ ماذا عن سمير الذي هو أكبر منّي ويعرفُ الحياة أكثر منّي؟ هل يقعُ دائمًا اللوم على المرأة؟

بدأتُ بالعمل في الجامعة كمساعدة في قسم الأبحاث، وبدأتُ أتخطّى مصيبتي بعض الشيء. كان مِن الضروريّ ألا أبقى في بيت لستُ محبوبة فيه، لِذا صرتُ أقضي يومي كلّه في الكليّة وأبقى مساءً في المكتبة أقرأ.

 


جاءَت لي والدتي بعريس رفضتُه على الفور، وهدّدتُها بأن أُخبر البشريّة كلّها أنّني حملتُ وأجهضتُ. كنتُ أعرفُ كيف أنّ كلام الناس ونظرتهم مهمّة بالنسبة لها. تراجعَت أمّي عن مشروع تزويجي وارتحتُ كثيرًا.

مِن ثمّ أحبّني أستاذي القديم وأرادَ الزواج منّي، إلا أنّني رفضتُ بتهذيب، ففكرة أن يلمسَني رجل باتَت تُزعجُني إلى أقصى درجة. كنتُ قد قرّرتُ أن أبقى عزباء مدى حياتي.

وذات يوم، وبعد غياب دامَ أكثر مِن خمس سنوات، عادَ سمير إلى البلَد. كان قد تزوّجَ مِن إمرأة غربيّة وأنجبا طفلاً. عرفتُ بالأمر مِن أمّي التي استهزأَت بي قائلة: "أرأيتِ كيف تدبَّرَ إبن عمّكِ أمره؟ تزوّج وصار له عائلة، على خلافكِ." وأبشَع ما في الأمر، الأفظَع على الإطلاق، أنّ والدَيّ دعيا سمير وزوجته وطفله إلى العشاء عندنا! قد أفهم أنّ أبي لم يكن على علم بما فعلَه ذلك السافل بي، لكنّ والدتي! وبعد شجار عنيف معها، إستطعتُ عدَم التواجد مع المجرم في مكان واحد، وركضتُ أختبئ في مكتبة الجامعة. هناك، بكيتُ بصمت، وقرّرتُ أن أُنهي حياةً لا معنى لها بعد أن خانَني حبيبي وأمّي.

وفي اليوم التالي، أخذتُ سكّينًا، وأقفلتُ باب غرفتي بالمفتاح وفتحتُ عروق معصمَيّ. إستفقتُ في المشفى بعد أن طلبَت أمّي مِن الجيران خَلع بابي. لَم تسألني والدتي لماذا أرَدتُ الموت، ولَم تقل لي كلامًا جميلاً أو مُشجّعًا، بل اكتفَت بالقول لي: "إلى متى ستظلّين تجلبين لنا العار؟" سكتُّ لأنّني، كما قلتُ سابقًا، كنتُ أنوي إعادة الكرّة وعدَم رؤيتها أمامي مُجدّدًا.

الشخص الوحيد الذي سألَ عن أحوالي، كان المسؤول عن مكتبة الجامعة الذي علِمَ كغيره بأمر محاولتي الإنتحار. كنتُ أقدّرُ هذا الرجل الذي كان بسنّ والدي، لأنّه كان ذكيًّا ومثقّفًا وحنونًا، على عكس الذي جاء بي إلى الحياة. ومع أنّني لَم أُجرِ مع السيّد فايز العديد مِن الأحاديث، كنتُ أعرفُ أنّه رجل ثقة. فحين جلَسَ قبالتي في قاعة القراءة وسألَني: "ما الأمر يا إبنتي؟ إلى هذه الدرجة ضاقَت بكِ الدنيا؟ الحياة جميلة وكريمة ومَن هم بسنّكِ عليهم التمتّع بها." ، بدأتُ بالبكاء وأخبرتُه قصّتي. كان مِن الضروريّ بالنسبة لي أن أشارك مصيبتي مع أحد وإلا أُصِبتُ بالجنون. إستمَعَ السيّد فايز إليّ بِصمت ثم قال:

 

ـ أقدّرُ فظاعة ما حصَل لكِ، إلا أنّ تلك الأحداث صارَت مِن الماضي، وعليكِ النظَر أمامكِ والسَير نحو مستقبل واعد.

 

ـ كلام جميل... وماذا أفعل بوَجَعي؟

 

ـ إقبَليه لتتغلّبي عليه، إنتصري على الشرّ الذي لعِبَ بكِ. هيّا، نشّفي دموعكِ وتعالي أُريكِ الكتب الجديدة التي وصلَتنا خلال مكوثكِ في المشفى.

 

منذ ذلك اليوم، شعرتُ بتحسّن بسيط، إلا أنّ أمر موتي لَم يغِب عن بالي. ووسط ذلك المناخ المليء باليأس... إتّصَلَ بي سمير.

لَم أُصدّق أذنَيَّ حين سمعتُ صوته، وكنتُ على وشَك إقفال الخط بوجهه حين قال:

 

ـ إسمعيني، أرجوكِ... وبعد أن أقول ما لدَيَّ، قرّري إن كنتِ تريدين محوي مِن حياتكِ وهاتفكِ.

 

ـ ماذا تريد؟ ألَم يكفِكَ ما فعلتَه بي؟ تركَتني وأنا حامل.

 

ـ حامل؟!؟ لَم أكن أعلم بالأمر، أقسمُ لكِ! أين الولد؟

 

ـ ماتَ بعد أن أجهضتُه. هل كنتَ تُريدُني أن أُبقيه وأربيّه لوحدي بالعار؟

 

ـ طبعًا لا...

 

ـ لماذا تركَتني؟

 

ـ كنتُ يافعًا آنذاك وخفتُ مِن المسؤوليّة.

 

ـ لكنّكَ تزوّجتَ مِن غيري وأنجبتَ.

 

ـ صحيح... حين فهمتُ مدى حماقتي معكِ.

 

ـ ماذا تُريدُ منّي؟ لماذا اتّصلتَ بي؟

 

ـ لأنّني لا أزالُ أحبُّكِ.

 

أقفَلتُ الخط بقوّة وبدأتُ بالبكاء. لماذا لَم يتركني سمير وشأني؟ قرّرتُ عدَم الإجابة على اتّصالاته، لكنّه انتظَرني بعد أيّام قليلة أمام باب المكتبة ووقَف قبالَتي صامتًا، وأنا بدأتُ بالرّجفان. كان مِن الواضح أنّ حبيبي السّابق قرَّرَ ممارسة تأثيره عليّ مُجدّدًا.

(يُتبَع)

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button