لَم أختَر أن أكون مُساعدة ممرّضة، بل القدر شاءَ ذلك عنّي... أو بالأحرى الفقر. فلقد احتَجتُ إلى العمَل وبأسرع وقت لدَفع ايجار الشقّة الصغيرة التي أسكنُ فيها. كنتُ قد تركتُ المنزل الأبويّ لعدَم قدرتي على تحمّل ما كان يجري فيه. فقد كان أبي إنسانًا طاغيَا إستفرَدَني حالما فارقَت أمّي الحياة. حاولتُ الصّمود، إلا أنّني لَم أتمكّن مِن تقبّل الشتائم والإهانات والقَمع المجّانيّ الذي كان يُمارَس عليَّ فقط، لأنّ التي كانت تُحني رأسها أمامه كانت قد ماتَت... وارتاحَت منه.
عندما وصَلتُ المدينة، إنبهَرتُ بها وبِناسها، واستطَعتُ أخيرًا تصوّر حياتي بطريقة مُختلفة عمّا قبل، أي أنّني كنتُ سأحقّق نفسي كإنسانة بكلّ ما للكلمة مِن معنى، وليس كعبدة وُلِدَت لتخدم رجل لا يعرفُ الرّحمة.
لكنّ المال القليل الذي أخذتُه معي نفَذَ بسرعة، فالحياة في المدينة باهظة، وكأنّ على الإنسان أن يدفع ثمَن الحريّة التي يركضُ وراءها.
لِذا قبِلتُ، على مضض، بالعمل في ذلك المشفى، وبأن أقوم بالأعمال التي لا يُريدُ أحد القيام بها، أي غسل المرضى وتنظيف كلّ ما يخرجُ مِن أجسادهم التعِبة.
لَم أكن يومًا كسولة، فقمتُ بواجباتي بحماس، الأمر الذي جلَبَ لي تقدير ومحبّة المرضى الذين كانوا يترقّبون وصولي إلى غرفتهم ليروا وجهًا مُبتسمًا مهما كانت الظروف. فالممرّضات الباقيات كنّ توبّخنَ هؤلاء المساكين كلّما اتّسخوا.
وسرعان ما لَفَتَ عمَلي إنتباه القيّمين على تلك المؤسّسة الطبيّة، فضُرِبَ المثل بي وحصلتُ على تهنئة علنيّة، الأمر الذي جلَبَ لي غضب الكسالى والحاسدين. لكنّني لَم أتأثّر بالنظرات والتلميحات البشعة، وسرعان ما سكتَت الأصوات.
وانقلَبَ عمَلي الشاق إلى مُتعة، ولَم أعُد أشعرُ بالتعَب أو حتى الخجل، بل أصبحتُ أفتخرُ بتنظيف ما كان سابقًا مُقرفًا.
وحصَلَ أن فاتحَني أحد الأطبّاء بإعجابه بعملي... وبي.
في البدء، وجدتُ صعوبة باستيعاب أنّ الدكتور فريد يكنّ لي أيّة عاطفة، ولأسباب عدّة: فهو كان مُتعاليًّا ومعروفًا عنه نظرته إلى الممرّضات وعاملات المشفى. إضافة إلى ذلك، لَم أكن مُتعلّمة أو أحملُ أيّة شهادة. وما هو أهمّ مِن ذلك، هو أنّني لَم أكن جميلة أو حتى جذّابة، بل إنسانة عاديّة جدًّا ليس لها أيّة ميزة مِن تلك التي يهواها الرجال. لِذا، إستمَعتُ لكلام فريد وكأنّه يتكلّم عن شخص آخر، أي لَم آخذه على محمل الجدّ إطلاقًا.
حسبتُ أنّ ذلك الطبيب سينسى الموضوع بسرعة ليجد لنفسه فتاة أخرى، إلا أنّ فريد بقيَ مُصرًّا عليَّ، فبنظره كنتُ الصبيّة المثاليّة، ليس فقط بسبب التفاني الذي أُبذلُه بعملي وحبّي للمرضى، بل أيضًا لأنّني، وحسَب قوله، كنتُ أمتلكُ نقاوة قلب لا مثيل لها، الأمر الذي كان مِن النادر وجوده في أيّامنا هذه.
بقيتُ أقاومُ فريد وحبّه حتى أن بدأتُ أحبّه. هل حصَلَ ذلك لكثرة إصراره عليَّ أو بسبب كلامه الجميل ونظراته المُتيّمة لي؟ فالجدير بالذكر أنّها كانت المرّة الأولى التي يُبدي رجل اعجابًا بي. كل ما أعرفُه هو أنّني صرتُ أفكّر بهذا الطبيب ليلاً نهارًا وأنتظرُ مجيئه إلى المشفى بفارغ الصبر بعدما حفظتُ أوقات دوامه عن ظهر قلب. وعندما كنّا نتصادف في أحد الأروقة، كان قلبي يدقّ بسرعة فائقة وهو كان يبتسمُ لتأثيره الواضح عليّ.
في أحد الأيّام، طلَبَ منّي فريد موافاته إحدى غرف المرضى لنتكلّم. عندما دخلتُ المكان، كانت العجوز التي تشغل الغرفة نائمة وتشخرُ بقوّة. قال لي الطبيب:
- لا تُبالي بها، فهي صمّاء وتنام طوال الوقت. إنّها موجودة هنا منذ فترة طويلة.
- أعرفُ ذلك، فأنا أهتمّ بنظافة هذه السيّدة.
- للحقيقة، هذه الغرفة هي مكان الأطبّاء المفضّل للبحث بأمور نريدُ إبقاءها سرّيّة. ففي هذا المشفى، حتى الجدران لها آذان.
وأغلقَ فريد الباب وعانقَني وقبّلَني بقوّة. حاولتُ ردعه، لكنّ قبلته كانت مليئة بالحنان، وأعترفُ أنّني أحبَبتُ ذلك الشعور الجميل. لَم يُقبّلني أحد مِن قبل، وكنتُ فخورة بأن يفعل ذلك أوسَم وأمهَر طبيب في المؤسّسة.
خرجتُ مِن الغرفة مُحرَجة وركضتُ أُنهي عملي. بالطبع لَم أنفكّ عن التفكير بالقبلة طوال النهار، الأمر الذي ملأ قلبي بالفرَح والرومنسيّة.
عدتُ والتقَيتُ بفريد مرّات عديدة في غرفة المريضة العجوز، إلى أن طلَبَ منّي أن نخرجَ سويًّا في المساء ذاته، فقد كان كَيله قد طفَحَ مِن الإختباء كالمراهقين، وكان يُريدُ أن يراني العالم كلّه إلى جانبه. سُرِرتُ بكلامه، فذلك كان يعني أنّه جدّيّ بحبّه لي، لكنّني لَم أكن أملكُ الملابس المُناسبة للخروج إلى مطعم فاخر. عندها أكَّدَ لي فريد أنّه يُحبّني كما أنا، فلا داعٍ للقلَق. ووصَلَ الأمر به إلى تغيير مكان العشاء إلى مطعم أكثر شعبيّة كي يرتاح بالي.
خرَجَ الطبيب مِن غرفة المريضة، وأنا انتظَرتُ بضع دقائق حتى ألحق به، كما كنّا نفعلُ عادة كي لا يشكّ أحد بأنّنا نلتقي هناك، ليس لأنّ فريد يخجلُ بي، بل لأنّ الغراميّات ليست مسموحة طبعًا في غرف المرضى.
وقبل خروجي بثوانٍ، سمعتُ صوتًا يقول لي: "لا تذهبي إلى ذلك الموعد."
إستدَرتُ نحو المريضة فرأيتُها صاحية تمامًا. قلتُ لها:
- لستِ نائمة؟!؟
- لا... بل كنتُ أستمتِعُ بالحديث... والقُبَل.
- يا إلهيّ! أنا آسفة يا سيّدتي. لكن... أنتِ تسمعين جيّدًا؟
- سمَعي أفضل مِن سمعكِ وسمَع ذلك الكازانوفا! أحبّ الهدوء، لذا أدّعي أنّني صمّاء ليدعَني الناس وشأني.
- هههه... فكرة جيّدة!
- الفكرة الجيّدة هي أن تحترسي مِن الدكتور فريد... فلستِ أوّل فتاة يجلبُها إلى غرفتي، وإلى جانب ذلك...
- لِما هذا الكلام الجارح يا سيّدتي؟ تقولين لي إنّ فريد لا يُحبُّني لشخصي بل لغايات أخرى، وكأنّني لا أستحقّ حبّ رجل.
- لا بل تستحقّين مَن هو أفضل منه! إسمعي يا صغيرتي، أحبَّكِ كثيرًا لأنّكِ لطيفة للغاية. فأنتِ تأتين إلى غرفتي وتنظّفيني مُعتقدةً أنّني نائمة أو نصف نائمة، ولَم أسمعكِ يومًا تتذمّرين منّي أو مِن عملكِ كما تفعَل الأخريات. فأنا لَم أنبّه سواكِ مِن الدكتور فريد...
- شكرًا سيّدتي، لكن كيف لكِ أن تعلَمي نواياه الحقيقيّة تجاهي؟ فهو قد يكون واقعًا في حبّي وقرَّرَ التخلّي عن حياته السابقة.
- يا لبراءة الشباب! إلى جانب كون الدكتور فريد زير نساء، فهو يتبارى مع باقي الأطبّاء حول النَيل مِن الممرّضات. أنا أسمعُهم حين يتكلّمون هنا، يظنّون أنّني عجوز صمّاء! أغبياء! إعلَمي يا صغيرتي أنّ ذلك الطبيب المُنحلّ يُخطّط لأخذكِ إلى العشاء ومِن بعد ذلك إلى شقّته لِـ... تعلمين لماذا! وبالطبع سيرميكِ في اليوم التالي، كما فعَلَ بالأخريات.
- لا أصدّقكِ! لماذا يعبأ فريد بمُلاطفتي وتضييع وقته معي، حين يكون قادرًا على نَيل التي يُريدها؟
- بسبب الشرط.
- أي شرط؟
- لقد قرّروا جميعًا "إعادتكِ إلى مكانكِ الصحيح" بعدما نلتِ توصية مِن المدير. يقولون إنّكِ أصبحتِ مُتعالية ويجب تلقينكِ درسًا.
- مَن يقول ذلك؟
- الأطبّاء وخاصّة الممرّضات. لا تذهبي إلى ذلك الموعد، ثقي بعجوز رأت الكثير خلال حياتها.
- ربّما حلِمتِ بكلّ هذه القصّة.
- سأسألُكِ سؤالاً واحدًا: هل بقرارة نفسكِ أنتِ مُقتنعة بأنّ الدكتور فريد يُريدُكِ أنتِ بالذات وأنّه مبهور بشخصيّتكِ، وأنّكِ تصدّقينَه عندما يقول لكِ إنّه يُحبّكِ؟
- لستُ أدري... لا أعرف!
- حسنًا، إذًا إتبعي حدسكِ وستسلَمين، يا صغيرتي. دعيني أنام الآن، فلقد أتعَبتموني كلّكم باجتماعاتكم في غرفتي!
إحتَرتُ لأمري، فكنتُ حتى ذلك الحين سعيدة بحبّ فريد لي. هل كانت تلك العجوز خرِفة أم أنّها تقول الحقيقة؟ ورأيت أنّ أفضل طريقة لتفادي الوقوع في فخٍّ ما، كانت أن أُرجئ موعدي مع "حبيبي" وآخذ وقتي للتفكير بالأمر.
حين أخبرتُ فريد بأنّني أشعرُ بالتعَب الشديد وأنّني غير قادرة على تلبية دعوته إلى العشاء، إنتابَه غضب شديد وكأنّ الأمر بغاية الأهميّة بالنسبة إليه. حاولَ بشتّى الطرق تغيير رأيي، لكنّ أمام إصراري صرَخَ بي: "لقد استثمرتُ جهودًا كبيرة في هذه المسألة ولَم يعُد لديّ وقت أضيعُه!" سألتُه عن أيّ مسألة يتكلّم عنها، لكنّه لَم يُجِب بل فضّل الانسحاب مُضيفًا: "لَم يكن يجدرُ بي تكريس ولو دقيقة واحدة مِن وقتي الثمين لِممرّضة، أو بالأحرى مُساعِدة ممرّضة! إنسِ أمرنا". فأجبتُه ببرودة: "بكلّ سرور... يا دكتور." نظَرَ إليَّ باندهاش، فهو توقّع أن أتوسّل إليه وأُعيدُ النظر قراري، إلا أنّني قلتُ له قبل أن ينصرِف: "كنتَ على حقّ... هنا، الجدران لها آذان... ولكن أيضًا أفواه!
هل فهِمَ فريد قصدي؟ على كلّ حال، خرجَت المريضة العجوز مِن المشفى بعد أيّام، وأخذتُ عنوان سكنها مِن ملفّها بمساعدة إحدى الممرّضات.
وحين قمتُ بزيارة التي أنقذَتني لأشكُرها، عرضَت عليّ ترك عملي في المشفى لأصير مُساعدتها بشكل دائم. قبِلتُ بسرور، أوّلاً لأنّني كنتُ مدينة لها بإنقاذ شرَفي، وثانيًا لأنّني كنتُ بذلك سأنتهي مِن دفع إيجار شقّتي وأجني ما يُمكّنني مِن وضع بعض المال جانبًا لتأمين حياتي المُستقبليّة.
لَم أحتَج لادّخار المال مِن راتبي، فبعد سنوات قليلة، توفّيَت العجوز الطيّبة تاركةً لي منزلها ومبلغًا كبيرًا مِن المال.
كانت الحياة، بفضل طيبَتي وحبّي للناس وبالأخصّ المرضى، قد أعطَتني فرصة جديدة. ولا يمرّ يوم مِن دون أن أترحّم على تلك السيّدة الحنونة... والذكيّة!
وعلِمتُ مِن زميلةٍ قديمة في المشفى أنّ الدكتور فريد تزوّجَ مِن صبيّة ثريّة وأنّه لا يزال يُلاحقُ الممرّضات. أمّا في ما يخصّني، فأنا مخطوبة لشاب محبّ وكريم وننوي الزواج قريبًا. وبالطبع لن أنسى إعطاء إسم مُنقذتي للإبنة التي سأُنجبُها يومًا.
حاورتها بولا جهشان