لكل فعل ثمن

لقد تسبَّبتُ باسم الحبّ بخراب لا يُمكن إصلاحه، فهناك أمور لا يسَعُنا الرجوع بها في الزمَن لِمَحوها، ويا لَيتني علِمتُ بذلك قبل أن أتعرَّفَ إلى زياد. لكنّ الحبّ له قوانين ومنطق خاصَّين به، فالعقل يسكتُ إلى حين تقَعَ المُصيبة.

كانت سلوى جارتي في سنّي ولقد كبرنا سويًّا، واعتبرتُها الأخت التي تمنَّيتُ أن تكون لدَيّ إذ أنّني إبنة وحيدة وسط أربعة أخوة. كنّا نتقاسمُ كلّ شيء ونروي لبعضنا أسرارنا. وحين بلَغنا الجامعة، زفَّت لي سلوى خبَر وقوعها في الحبّ ومِن ثمّ عرّفَتني إلى زياد. ولحظة وقعَت عينايَ على ذلك الشاب، شعرتُ بأنّني أعرفُه منذ ما ولِدتُ. أدَرتُ نظَري عنه لكنّ قلبي كان قد أصبَح ملكه. مِن ناحيته، لَم يخجَل زياد مِن التحديق بي بعد أن لاحظَ إرتباكي، فقرَّرتُ طبعًا تفادي التواجد معه قدر المُستطاع. أقولُ قدر المُستطاع لأنّ صديقتي صارَت تُصرُّ وبإلحاح أن أُرافقَها وحبيبها أينما يذهبان. بعد أشهر أُعلِنَت خطوبتهما ولاحقًا تزوّجا.

زرتُ العروسَين في بيتهما الجديد مُقنِعة نفسي بأنّني سأكون قادرة على مُقاومة تأثير زياد عليّ بعدما صارَ زوج سلوى، أي أنّه ملك أخرى. إلا أنّني لَم أحسِب حساب نواياه تجاهي. لستُ ألقي اللوم على زياد وحده طبعًا، إلا أنّ الحبّ مِن طرَف واحد لا يتحقّق بل يبقى دفين قلب صاحبه. وحصَلَ أن زوج صديقتي كان إنسانًا ماكرًا واستغلاليًّا، فأخَذَ رقم هاتفي خلسةً مِن سلوى وبدأ يُكلّمُني لحجَج بريئة في البدء وصارَ لاحقًا يشكو لي مِن المشاكل التي يُواجهُها مع زوجته. فحسب قوله، كانت سلوى لا تتفهّمه وتُهملُه كرجل، وصرَّحَ أنّه نادمٌ على الزواج منها وأنّه أخطأ بالإختيار وكان عليه الزواج منّي بدلاً منها. لدى سماع ذلك، شعرتُ بالفخر وصدّقتُه مع أنّ كلامه هذا كان صعب التصديق، خاصّةً أنّ سلوى كانت إنسانة لطيفة ومُحبّة ومُتفهّمة. بعد فترة، طلَبَ منّي زياد مُقابلته في "مكان هادئ" للبحث معي في سبيل لحلّ مشاكله مع زوجته فقبلتُ أن أراه. أعترفُ أنّني فعلتُ جهدي لأبدو في قمّة أناقتي وجمالي، ليس لإغرائه بل لأثبتَ له أنّني فعلاً التي كان عليه اختيارها. دوافعي كانت ولاّديّة بحت، ولَم أعلَم حينها أنّ ذلك اللقاء كان بداية علاقة غراميّة.

أخجلُ مِن نفسي على الذي دارَ بيني وبين زياد إلا أنّ الأمر لَم يتعدَّ القبلات والمُداعبات، لكنّ الخيانة هي خيانة مهما بلَغَ حدّها. وبدأنا نلتقي في شقّة صغيرة إستأجرَها زياد لنكون بعيدَين عن الأنظار، وكان يحكي لي مُطوّلاً عن حبّه الكبير لي، هذا قبل أن نستلقي على السرير. أمّا بعد أن ننتَهي مِن الذي كنّا نفعله، كان يُسرع بالرحيل "كي لا تشكّ سلوى بشيء". في معظم الأحينان لَم يكن حتى ينتظرُ أن ألبسَ ثيابي بل يتركني ويرحل.

 


وعدَني زياد مرارًا بأنّه سيترك صديقتي ليتزوّجني، إلا أنّ ذلك لَم يحصَل طبعًا، خاصّة بعدما علِمنا أنّ صديقتي حاملاً. عندها، أرجأ عشيقي مشروع طلاقه إلى ما بعد ولادة الجنين. ولِدَ إبنه، فاستمهلَني إلى حين يكبر قليلاً. في تلك الأثناء، رفضتُ كلّ العرسان الذين تقدّموا لي لأنّ قلبي كان ملك زياد حصريًّا، وكان لا يزال لدَيّ أمَل بأن أصيرَ زوجته يومًا.

في تلك الفترة بالذات، علِمَت الصدف ضدّي، إذ أنّ مُستأجرين جددًا سكنوا المبنى الذي توجد فيها شقّة زياد السرّيّة. وهؤلاء الناس كانوا أقرباء سلوى، رأوني وزياد نخرج مُتعانقَين مِن شقّتنا واتّصلوا على الفور بأهل صديقتي، هذا بعد أن سألوا الناطور عن تحرّكاتنا. كانوا طبعًا يعرفون زياد إذ أنّهم حضروا حفل الزفاف، ويعرفوني جيّدًا لأنّني قضَيتُ حياتي كلّها برفقة سلوى.

إنتشَرَ الخبَر وصُعِقَت به سلوى ورفضَت تصديقه، فقد كان لها ثقة عمياء بزوجها وبي. وكيف لأعزّ شخصَين على قلبها أن يخوناها هكذا؟ لِذا قرَّرَت سؤالي وزياد معًا عن الأمر.

لَم أتوقّع أن تواجهَني صديقتي هكذا، فامتلأت عينايَ بالدموع ونظرتُ إلى زياد لأعرف ما كان عليّ قوله، وتمنَّيتُ ضمنيًّا أن يغتنمَ الفرصة ليُنهي زواجه على الفور. بدلاً مِن ذلك قال لسلوى:

 

ـ الأمر كان مُجرّد تسلية بالنسبة لي... فهذه "الصديقة" هي فتاة سهلة لِدرجة لَم أتصوّرها مُمكنة. أنتِ حبّي الوحيد وأمّ ولدَي ولن أستبدلُكِ بأحد، خاصّة بها!

 

عندها صرختُ به:

 

ـ ما هذا الكلام؟!؟ أنسيتَ كلّ ما قلتَه لي عن مشاكلكَ الزوجيّة وعن حبّكَ لي؟!؟

 

ـ كاذبة... وخائنة.... مَن سيُصدّق فتاة خانَت ثقة أعزّ صديقة لها وأخذَت منها زوجها؟

 

كانت سلوى قد بقيَت صامتة بينما تبادَلتُ التهَم والشتائم مع زياد، لكنّ نظراتها كانت مليئة بحزن لا مثيل له. ندِمتُ لأقصى درجة على ما فعلتُه وتمنَّيتُ لو أموتَ في الحال. أخذتُ حقيبة يدي وخرجتُ بصمت، عالمة تمام العلم أنّني لن أرَ سلوى بعد ذلك وبالتأكيد زياد. لكن قبل ان أتخطّى عتبة ذلك البيت، قلتُ لسلوى:

 

- سيفعلُها مُجدّدًا مع غيري... فقط إحترسي.

 

لكنّ المسألة لَم تنتهِ عند سلوى، بل كان أهلي قد علِموا بعلاقتي غير المُشرِّفة وكذلك أخوَتي، فقرّروا جميعًا أنّ عليّ الزواج وبأسرع وقت والرحيل بعيدًا كي ينسى الناس أمري ويستعيد ذويّ كرامتهم. أخذَتني والدتي إلى طبيب نسائيّ للتأكّد مِن أنّني لا أزال أحتفظ بعذرّيتي واطمأنَّت.

لَم أرفض ذلك العريس الذي كان سيأخذُني إلى أفريقيا والذي كانت مواصفاته غير مُطابقة لِما أُريدُه في رجُلي، فاعتبَرتُ ذلك عقابًا أستحقُّه. لَم نُقِم فرحًا بل تزوّجنا بحضور أهلي فقط ومِن دون إذاعة الخبَر. وفي مساء اليوم نفسه طرتُ وزوجي إلى القارة الأفريقية. لَم تنشَف دموعي وأنا في الطائرة، لأنّ ما حصل لي كان ذنبي وكنتُ مُدركة ذلك تمامًا. أنجبتُ إبنة مِن كثرة ملَلي حيث كنت أعيش، لأنّ زوجي كان يقضي وقته كلّه في العمَل، فصبَبتُ إهتمامي على صغيرتي. علاقتي بعائلتي كانت تقتصر على بعض المكالمات عند الأعياد، فكان مِن الواضح أنّهم لا يُريدون إبنة مثلي، ورضختُ للأمر. لَم أسألهم يومًا عن أحوال سلوى أو زياد، فكان ذلك سيُعتبَر وقاحة مِن جانبي.

 


مرَّت السنوات وصارَت إبنتي مُراهقة، وقرَّرَ زوجي أنّ الوقت حان لنعود إلى البلد بعدما قضى حياته بالعمَل. خفتُ مِن الرجوع، فذلك المكان لَم يعُد بلدي بعدما فقدتُ ناسه كلّها، لكن ما عسايَ أفعل؟ خابَرتُ أهلي لأُطلعهم على ما ننوي فعله، وكانت ردّة فعلهم باردة إذ أنّهم اعتادوا على إبتعادي وعدَم تواجدي في حياتهم. أقنعتُ زوجي بشراء بيت بعيدًا كلّ البُعد عنهم وهو لم يُمانع، فلَم يكن لدَيه مَن ينتظرُه.

لَم يزُرني في بيتي الجديد سوى أخي الصغير الذي كان يكنّ لي مودّة خاصّة، فهو لَم ينسَ كيف كنتُ أهتمُّ به وأُلاعبُه، وبالكاد تعرّفتُ إلى ملامحه التي تغيّرَت كثيرًا عبر السنوات. تعانَقنا مطوّلاً وبكَينا، وعرّفتُه إلى زوجي وإبنتي وتناولنا سويًّا وجبة العشاء. حضّرتُ له غرفة الضيوف كي لا يعود إلى بيته ليلاً.

وقبل أن يخلد كلّ منّا إلى فراشه، رحتُ إلى غرفة أخي وتحدّثتُ معه عن أحواله وأحوال والدَيّ وباقي أخوَتي وعائلاتهم، ومِن ثمّ سألتُه السؤال الذي كان يحرقُ شفتَيَّ:

 

ـ قُل لي... كيف سلوى؟ أريدُ الإطمئنان عليها فقط.

 

سكَتَ أخي مُطوّلاً وقال لي مُحرَجًا:

 

ـ ما سأقصُّه لكِ وصلَني مِن الذي سمعَه أهلنا مِن جيراننا، فكما تعلمين لَم نعُد نتواصل مع أهل سلوى بعد... أعني بعد الذي حصَل، ولقد إنتقلَنا إلى مسكن جديد بُعَيد سفركِ خوفًا مِن نظرات الناس. فالمسكينة سلوى لَم تستوعِب أن تكون أعزّ صديقاتها قد حاولَت أخذ زوجها منها، فأصابَها إكتئاب حاد وراحَت إلى طبيب وصَفَ لها المهدّئات، وبكثرة، الأمر الذي حوّلَها إلى شبه إنسانة. كانت تقضي وقتها بالنوم وأهملَت بيتها وابنها. زوجها، مِن جانبه، أخذَ الوضع ذريعةً للتغيّب عن البيت وإقامة علاقات مُتعدِّدة. بعد فترة، راحَت سلوى إلى بيت أهلها لترتاح مطوّلاً تاركةً ابنها مع زوجها. بعد أقلّ مِن سنة، طلّقَ زياد سلوى وتزوّجَ مِن جديد، وحصَلَ مِن المحكمة على حضانة ولدهما لأنّ سلوى لَم تكن قادرة طبعًا على الإعتناء به كما يجب.

 

ـ يا إلهي... تابع أرجوكَ.

 

ـ ساءَت حالة سلوى بعد فقدان إبنها الوحيد، ومعرفة إساءَة مُعاملة زوجة أبيه له، فتأزّمَت حالتها ممّا استدعى نقلها إلى مؤسّسة خاصّة.

 

ـ تعني مصحّة؟!؟

 

ـ أجل، لكنّها خرجَت منها بعد سنة مُتعافية، فصحيح أنّها كانت تُعاني مِن الكآبة، إلا أنّ العلاج الذي وصفَه لها طبيبها هو الذي أزَّمَ حالتها. وهي اليوم لا تزال تعيش عند أهلها.

 

ـ كنتُ يافعة يوم تسبّبتُ بما حصل ولا أعي مدى تأثير أفعالي... كَم أنا نادمة! لقد خربتُ حياة سلوى وإبنها وحياة أهلي وحياتي، كلّ ذلك مِن أجل رجل بلا أخلاق تلاعبَ بي واستغلَّني ليتسلّى. اليوم أنا إنسانة مُختلفة تمام الإختلاف عمّا كنتُ عليه، لكنّ الأوان قد فات، فلا يسعُني العودة إلى الوراء.

 

ـ لَم أنتهِ بعد مِن الكلام يا أختي، هناك المزيد.

 

ـ لا تقُل لي إنّها قتلَت نفسها؟!؟

 

ـ لا يا أختي، بل العكس. فذهابها إلى تلك المؤسّسة كان مُفيدًا للغاية لها، إذ أنّ الأطبّاء هناك عالجوها بالفعل وساعدوها على وضع الماضي وراءها بصورة نهائيّة، وها هي تستعدّ للزواج مُجدّدًا.

 

ـ أنتَ تُمازحُني!

 

ـ لا بل هي أوصلَت خبرًا لأهلنا مفاده أنّها تُسامُحكِ. لَم نقُل لكِ شيئًا لأنّنا أرَدنا أن تبقى هذه المسألة طَي النسيان إلى الأبد.

 

ـ أتفهمّ ذلك... هي تُسامُحني... الآن فقط عادَت إليّ الحياة..! الآن فقط أستطيع النظَر إلى نفسي مِن دون خجَل وازدراء. كم أنّكَ كريم، يا رب! أتعلمُ شيئًا يا أخي؟ لدَيّ إحساسٌ دفين بأنّ يومًا سيأتي وألتقي بسلوى مُجدّدًا. وسترى أنّني على حقّ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button