لعنة أم إرادة الله؟

كنت فتاة صغيرة تحب الحياة واللهو قدر المستطاع نظرًا لإعاقتي. فقد شاءت الظروف أن تحدث لي عرجة قويّة، الأمر الذي ميّزني منذ صغري عن باقي الأولاد. لحسن حظي، عاملني الكلّ بلطف وامتنع عن ذكر رجلي في أيّ حديث أو مناسبة، لذا لم أتأثّر كثيرًا نفسيًّا بل عشت أيّامي بفرح، هذا قبل أنتعرّف إلى العم بلال.

كان ذلك الرجل في الخمسين من عمره، وكان قد اشترى دكّان الحَيّ مِن عمّه الذي لَم يعد قادرًا على العمل بسبب سنّه ومشاكله الصحّيّة. كنّا نحبّ زيارة الدكّان لاختيار ما نشتهيه مِن سكاكر ونجلب لأهلنا طلباتهم. كانت الأيّام مُختلفة آنذاك، ولَم يُفكّر أحد بتداعيات إرسال أولاد صغار لوحدهم إلى رجل أيضًا لوحده، ربمّا لأنّ الناس كانت تثقُ ببعضها أو لأنّ الكتمان كان يلفّ بعض المواضيع الحسّاسة إن حصلَت.

لكنّ العّم بلال لَم يكن أهلاً لهذه الثقة. هل كان يهوى منذ البداية الفتيات الصغيرات، أم أنّه رآهنّ ضحايا سهلة فخطَرَ بباله الإستفادة مِن الوضع؟ لستُ طبيبة نفسيّة لأحلل حالته، لكنّني كدتُ أن أقَع ضحيّة انحرافه. إستعملتُ عن قصد عبارة "كدتُ" لأُطمئنَ القارئات منكم اللواتي لدَيهنّ فتيات، لأنّني أنا الأخرى صرتُ أمّا وأعرفُ مدى فظاعة الأمر.

في ذلك المساء، كانت أمّي تحضّرُ العشاء لضيوف غير متوقّعين ولزَمَتها بعض المواد الغذائيّة. وبما أنّ المحلّ الوحيد غير المُقفَل بهكذا ساعة كان الدكّان، أرسلَتني إلى العمّ بلال: "إرجعي بسرعة ولا تضيعي وقتكِ بالكلام أو شراء السكاكر! ضيوفنا على وشَك الوصول". وضعتُ رداءً فوق البيجاما التي كنتُ أرتديها، وركضتُ إلى الدكّان وببالي الحلويات التي تزيّن الواجهة.

لحظة دخولي إبتسَمَ لي العّم بلال، وسألَني كيف لأهلي أن يبعثوا بفتاة بهذا الجمال لوحدها بعد غروب الشمس، فأجبتُه أنّ أمّي مشغولة للغاية وأبي لا يزال في طريقه إلى البيت. تمَتمَ الرجل:

 

- حسنًا... حسنًا

 


ثمّ حضّرَ لي ما طلبتُه قبل أن يقول لي بلهجة معسولة: "تعالي إلى آخر المحلّ وسأريكِ الطيّبات التي أُخبّئها للفتيات أمثالكِ". رافقتُه إلى حيث لَم أدخل يومًا، لكنّني وجدتُ المكان مُظلمًا تفوحُ منه رائحة التوابل ممزوجة برائحة الصابون القديم. إنزعجتُ لعدَم رؤيتي أيّ سكاكر أو بالونات، فوقفتُ مكاني قائلة:

 

- أمّي بانتظاري... سأعودُ في يوم آخر.

 

 

لَم يخطر ببالي ما ينوي الرجل فعله بي، فلَم يُخبرني أحدٌ عن أمور كهذه، لكنّني كنتُ خائفة مِن المكان نفسه. إلا أنّ العمّ بلال لَم يكن ينوي إفلاتي بهذه السهولة، فوقَفَ أمامي وصَرَخَ بي:

 

- أدخلي إلى قَعر المحل أقولُ لكِ! الوقت ضيّقَ.

 

نظرتُ إلى عَينَيه ورأيتُ الشرّ بذاته. ظننتُ أنّه سيقتلُني لِسبب مجهول منّي، فركضتُ خارجًا بسرعة لَم أتصوّرها مُمكنة نسبة لِعرجتي. إلا أنّ الرجل أمسكَني وأنا في طريقي إلى المخرج، وأوقعَني أرضًا ونامَ فوقي وهو يقول:

 

- لن يطول الأمر، سترَين.

 

لا أدري كيف خطَرَ ببالي أن أغرَسَ أصبعي في عَينِه، إلا أنّ ذلك ألَمَه كثيرًا لِدرجة إفلاتي. وقفتُ وعدتُ أركضُ وسمعتُه يقولُ لي:

 

- سأقتلُكِ إن أخبرتِ أحدًا! لا بل سأقتلُ أهلكِ بسكّيني الكبير!

 

وصلتُ البيت لاهثةً وباكيةً، وأخبرتُ أمّي أنّ كلبًا شاردًا هاجمَني فعدتُ مِن دون المُشتريات. أضفتُ أنّني لن أقصد الدكّان بعد ذلك إلا إذا كان أحدٌ بِصحبتي. غمَرَتني والدتي ووعدَتني بأنّني لن أتعرّض للأذى مُجدّدًا. كتمتُ ما حدَثَ مع العمّ بلال خوفًا مِن أن يُنفّذ تهديده بقتلنا، لكنّني كنتُ خائفة ومصدومة لِدرجة لا توصَف. حتى اليوم، وأنا أروي قصّتي، أشعُرُ بقلبي يدقّ بقوّة وبإحساس بالعجز والإستنكار. وفي تلك الحقبة سكنَت لياليّ كوابيس مُخيفة كنتُ أرى فيها وجه ذلك المُفترس وأركضُ للإختباء منه، خاصّة بعدما فهمتُ ما كان ينوي فعله بي فعليًّا.

مرَّت الأيّام ولَم تطأ قدَميّ ذلك الدكّان، بل كنتُ أبقى خارجها حين كانوا أصدقائي يُريدون شراء شيئًا. أمّا هو، فكان ينظرُ إليّ بشرّ مِن وراء الواجهة، ويومي بيَده على رقبته بِحركة تعني بوضوح أنّه يُهدّدُ بِذبحي.

لَم يُكلّمني العمّ بلال إلا ذات يوم عندما كنتُ مارّة لوحدي للقاء أصحابي في الساحة. عندما رآني خرَجَ مِن دكّانه وصَرَخ بي:

 

ـ وما حاجتي إلى فتاة عرجاء مثلكِ؟ كلّ صديقاتكِ أجمل منكِ وهنّ كاملات جسديًّا، على خلافكِ! لو كنتُ مكانكِ لبقيتُ في بيتي بدلاً مِن جرّ رجلي هكذا! ألا تخجلين مِن شكلكِ؟

 

وبالرّغم مِن خوفي الشديد منه، إنتابَني غضبٌ لا يوصَف عند سماع كلامه البشع. وقفتُ مكاني ونظرتُ إليه بإمعان قائلة بجدّيّة قصوى:

 

ـ أدعو الله مِن قلبي أن تُنجِبَ فتاةً عرجاء مثلي، وأن تكون رؤيتها وهي تمشي تذكارًا لِمحاولة اعتدائكَ القذر عليّ ولِكلامكَ المُجرّح لي! أنا أوكلُ الله بِمحاسبتكَ!

 


سكَتَ العمّ بلال عند سماع كلامي ومِن ثمّ انفجَرَ ضاحكًا، مُضيفًا قبل أن يعود إلى محلّه:

 

- كلّ أولادي سليمو البنية أيّتها العرجاء! مِن المستحيل أن يحصل ذلك!

 

بكيتُ وأنا أمشي إلى الساحة، لأنّني كنتُ قد أدركتُ أنّني صغيرة ومعوّقة ولا يسعُني فعل شيء سوى السكوت والإبتعاد قدر الإمكان عن هذا الرجل. ثمّ اخترعتُ قصّة رويتُها لصديقاتي لتخويفهنّ مِن الدّخول إلى الغرفة الخلفيّة للدكّانة، مفادها أنّني رأيتُ فيها في إحدى المرّات عفريتًا يقبع في الظلمة. وهكذا كنتُ قد حمَيتُ رفيقاتي مِن مصير بشع.

نسيتُ أمر العّم بلال بسبب انشغالي بالمدرسة، إلى أن وصَلَنا في أحد الأيّام طردٌ مِن الدكّان يحتوي على جميع أنواع المأكولات والسكاكر. إستغرَبَ أهلي كثيرًا لأنّنا لَم نطلب شيئًا مِن المحل.

لكنّ كلّ شيء إتّضَحَ حين وجدَت أمّي ورقة في قعر الطرد كتَبَ عليها صاحب الدكّان:

 

- هديّة بسيطة بمناسبة قرب ولادة طفلي الجديد، راجيًا بأن يُعطيه الله الصحّة المرجوّة.

 

كان مِن الغريب أن يبعَثَ الرجل شيئًا قبل الولادة، فالعادة هي أن يفعل الناس ذلك بعد قدوم الطفل. وحدي فهمتُ أنّ العمّ بلال كان يُوجّه لي رسالة مُباشرة لأتراجع عن لعنتي له ولإبنته. ضحكتُ في سرّي، فالأمر أعطاني شيئًا مِن القوّة عليه وشعرتُ بلذّة الإنتقام.

لَم نسمَع أيّ خبر عن صاحب الدكّانة طوال ثلاث سنوات، فلقد تمّ افتتاح سوبر ماركت كبير في الساحة، إلى حين علِمنا مِن إحدى جاراتنا أنّه أُصيبَ بكآبة لا تُقاس حين بدأَت إبنته الصغيرة بالعرج، وأنّه بدأ بالصّلاة والصّوم. لَم أصدّق أذنيَّ! هل يُعقَل أن يكون الله قد ضرَبَ فعلاً العمّ بلال مِن خلال إبنته؟!؟ إمتلأ قلبي بالفخر والإعتزاز، لكن سرعان ما حزنتُ على تلك الطفلة المسكينة. فما ذنبها إن كان أبوها مُتحرّشًا وسافلاً؟ فلقد عانَيتُ كثيرًا مِن عرجتي، وينتظرُها المصير نفسه وسيُلازمُها العذاب طوال حياتها. إنتابَني حزن عميق منعَني مِن الأكل والشرب والنوم. إنشغَلَ بال والدتي عليّ، وسألَتني عمّا يُزعجني إلى هذه الدرجة فأخبرتُها باكيةً بكلّ شيء، مِن حادثة الدكّان إلى اللعنة التي وجّهتُها لصاحب المكان. حضنَتني أمّي وقبّلَتني مئة قُبلة، ومِن ثمّ لامَت نفسها على إرسالي لوحدي ليلاً إلى الدكّان ولامَتني لأنّني لَم أُخبر أحدًا بالذي جرى لي، فالرجل كان سيلقى عقابه بعد التبليغ عنه. أمّا بالنسبة لِما أصابَ إبنته، فقالَت لي:

 

ـ يا حبيبتي... أنا متأكّدة مِن أنّ الله يُحبّكِ كثيرًا، إلا أنّه لا يؤذي الأطفال الصغار بسبب أفعال أهلهم فهم ملائكة طاهرون.

 

ـ لكنّها عرجاء!

 

ـ والسبب هو الجهل... الجهل نفسه الذي سبَّبَ لكِ عرجتكِ... جهلنا آنذاك الذي لَم يحملنا على تطعيمكِ ضد شلل الأطفال، وهو داء مُنتشر في بلداننا، وأنا مُتأكّدة مِن أنّ ذلك الرجل لم يقُم بتلقيح إبنته. لَم نأتِ يومًا على ذكر مشكلتكِ مِن كثرة ذنبنا بعد أن علِمنا أنّ كان بإمكاننا تجنيبكِ عذابكِ... سامحينا يا ابنتي، سامحينا!

 

بالطبع سامحتُ أهلي، فهم لَم يُلقّحوا أخوَتي ولَم يروا حاجة لتلقيحي، وشعورهم بالندم كان كافيًا ولا داعٍ لأزيد مِن عذابهم.

إرتحتُ لفكرة عدَم تأثيري على عرجة إبنة صاحب الدكّان لكن لعنتي أفادَته، فهو تابَ على أفعاله وصارَ إنسانًا مؤمنًا وعاقلاً. بعد سنوات قليلة تركَ العمّ بلال الدكّان لإبنه الأكبر ولزِمَ بيته.

وذات يوم، وأنا مارّة قرب الدكّان، رأيتُ تلك الإبنة فدخَلتُ ألقي السلام عليها، لأنّني شعرتُ بأنّني أعرفُها جيّدًا مِن دون أن نكون قد التَقينا مِن قبل.

حين رأَت عرجتي، إبتسمَت الفتاة وقالت لي:

 

ـ أنتِ أيضًا؟

 

ـ أجل... لَم يُلقّحوني ضدّ شلل الأطفال، كما جرى معكِ.

 

ـ هذا ليس صحيحًا، فلقد اصطحبَني أبي بنفسه إلى الطبيب وأخذتُ اللقاح. ما أصابَني هو إرادة الله، وحسب.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button