لعبة بين يدَيه

كيف توصَّلتُ إلى أن أتحوّل لعبة بين يدَي زوجي؟ قد يعود السّبب إلى طفولتي حين كان أبي هو الأمر الناهي يطلب منّي أن أنفّذ أوامره بدون حتى التفكير بها، بعدما أقنعَني أنا وغيري أنّه يعرف مصلحتنا أكثر مِن أيٍّ كان. وكبرتُ وأنا معتادة على عدم إبداء رأيي، تمامًا كما فعَلَت أمّي مِن قبلي، ومعتقدة أنّ على المرأة أن تطيع زوجها في كلّ الأمور حتى أبشعها.

وبالطبع إختَرتُ زوجًا يُشبه أبي، لأنّه كان الرّجل الوحيد الذي عرفتُه في حياتي فلم أقارنه بغيره. وهكذا كان طارق إنسانًا أنانيًّا ومتعجرفًا، لا يقبل النقاش ولا يتنازل لأحد عن شيء. حسنته الوحيدة كانت أنّه كريم، فهو لم يبخل عليّ بشيء خاصة أنّه كان صاحب مؤسّسة كبيرة تدرّ عليه الكثير مِن المال.

وبعد زفافنا مباشرة، قال لي إنّه لا يُريد أولادًا، وطَلَبَ منّي ألا أحاول تغيير رأيه أو حتى التلاعب بالموضوع لأنّ غضبه سيكون لا يوصف. وفي قرارة نفسي، وكأيّ إمرأة أخرى، ظننتُ أنّني سأجد طريقة لجعل قلبه يلين وأتمتّع بسعادة الأمومة.

وكم كنتُ مخطئة! فذلك المخلوق لم يكن يمتّ إلى الإنسانيّة بأيّة صلة، بل شبَّهتُه مرارًا بحيوان مفترس لا يأبه إلا لشهواته.

فليلتنا الأولى كانت أشبه بالمعركة، وكلّما أتذكّرها يقشعرّ بدَني مِن الخوف والإشمئزاز. ولن أدخل في التفاصيل لأنّها جدّ مؤلمة وربما غير لائقة. وما أن فتَحَ طارق عَينَيه في الصباح حتى نسيَ أنّني زوجته.

سألتُ نفسي خلال سنوات لماذا تزوّجَني إن كان لا يُحبّني ولا يُريد ذريّة، وأتاني الجواب مِن صديق له عندما قال خلال إحدى زياراته لنا:

 

ـ علينا الزواج لنبيّض صورتنا أمام عملائنا... فالرجل العازب يُثير الشكوك ويخلق مناخ قلق.

 

وكان طارق يقول لكلّ مَن نلتقيه أنّنا نحاول جلب طفل إلى الدنيا ولكنّني أعاني مِن خطب ما. حاولتُ منعه مِن قول تلك الكذبة التي كانت تؤلمني وتجعل منّي إمرأة غير كاملة، إلاّ أنّه بقيَ يُجيبني:

 

ـ وكيف ستمنعيني مِن ذلك؟

 

هكذا كان، يقول ويفعل ما يُريد ولا يرى فيّ سوى أداة لذّة. إلى حين ملّ منّي، خاصة أنّني لم أكن أفعل كلّ ما يطلبه منّي، أعني جنسيًّا، وكان في كلّ مرّة يكيل لي الشتائم وعبارات الإحتقار. فبالنسبة إليه لم أكن فالحة بشيء، حتى بأبسط الأمور. وكان يُبكيني حين كان يقول لي بازدراء:

 


ـ لو جلبتُ قردة كانت تعلّمَت فعل ما أطلبه... قردة!

 

ولم يعد يقترب منّي، والحقيقة أنّني ارتحتُ كثيرًا لا بل شكرتُه على ذلك في سرّي. وصبَبتُ إهتمامي على البيت وأهلي الذين كانوا يجهلون ما أمرّ به، فلم أكن مقرّبة مِن أمّي التي لطالما رفضَت التكلّم بالأمور الحميمية والتي لم تخبرني شيئًا عن الرجال. فلِمَن أشكو وأشتكي؟ وبقيتُ أمثّل دور الزوجة السّعيدة، خاصّة أمام أبي الذي لم يكن ليرضى بغير ذلك. أمّا بالنسبة إلى أخوتي، فكانوا منشغلين بعائلاتهم ولا وقت لدَيّهم لي.

 

كنتُ أعلم أنّ لطارق عشيقات، فرجل بهذا الكمّ مِن الشهوة لا يُمكنه المكوث مِن دون نساء، ولكنّني لم أكن قادرة طبعًا على منعه مِن خيانتي. فكما شأن أمّي، كنتُ أنظر إلى الرّجل وكأنّه مخلوق متفوّق يحقّ له كلّ شيء شرط أن يعود إلى البيت في المساء.

هل كنتُ أحبّ زوجي؟ أجل ولكن ليس بالمعنى التقليديّ. كنتُ أهابَه وأشعر تجاهه بنوع مِن الطاعة والخضوع. كان هو الإنسان القويّ والمتفوّق وأنا الضعيفة. كان وجودي مرتبطًا به، وحين كان يقول لي كلمة جميلة أو ينظر إليّ بشيء مِن الرّفق، كنتُ أشعر أنّ الدنيا لا تسَعني. فكان لدَيّ أمل بأنّه سيُحبّني يومًا بقدر ما أحبّه، وأنّ بخضوعي له سيتوقّف عن إهانتي. ولكنّ أشكال طارق لا يتغيّرون، لأنّهم يستمدّون قوّتهم مِن ضعف مَن حولهم، بل تزيد قباحتهم مع مرور الأيّام.

وكنتُ سأكتشف ذلك مذهولة حين قال لي في أحد الأيّام:

 

ـ أرى أنّكِ تكنّين مودّة خاصة لجارتنا هناء.

 

ـ أجل... فهي لطيفة جدًّا ووحيدة... مثلي.

 

ـ ماذا قلتِ؟ مثلكِ؟؟؟

 

ـ آسفة حبيبي... لم أعنِ ذلك... سامحني!

 

ـ م م م... أين زوجها؟

 

ـ مسافر كعادته... يتركها لأشهر ليعود لبضعة أيّام ويرحل مِن جديد.

 

ـ لِما لا تدعينها للعشاء؟

 

ـ صحيح؟ ستفرح كثيرًا وأنا أيضًا... شكرًا حبيبي.

 

وبالطبع لم يعرض طارق ذلك عليّ ليُفرحني بل ليُدخل هناء إلى وكره. وخلال ذلك العشاء كان الأمر وكأنّني لم أكن موجودة سوى لخدمتهما. كان زوجي قد سَحَرَها بكلامه المعسول، وبهَرَها بمعرفته العميقة في كلّ شيء، كما فعَلَ معي سابقًا. ونسيَت المرأة صداقتنا ولم تعد تريد سوى شيء واحد: طارق.

وحين انتهَينا مِن الأكل، وبينما كنتُ في المطبخ أغسل الصحون، صرَخَ لي زوجي مِن الصالون حيث كان جالسًا مع هناء:

 

ـ إذهبي إلى النوم!

 

ـ ولكن...

 

ـ إذهبي إلى النوم واقفلي باب الغرفة وراءكِ.

 

إمتلأت عَيناي بالدموع ونشّفتُ يدَيّ ودخلتُ الغرفة. ومِن حيث أنا سمعتهما يضحكان سويًّا، ومِن ثم خفَتَ صوتهما وأدركتُ ما كانا يفعلانه في بيتي وأثناء وجودي. بكيتُ حتى الصباح حين عاد طارق إلى السرير. وعندما التقيتُ بجارتي في اليوم التالي في ردهة المبنى، أسرعَت بالخروج بدون أن تنظر إليّ مِن كثرة خجَلها منّي.

 


لو كان لي مكان أذهب إليه لكنتُ تركتُ البيت. لو كان لدَي عمل لكنتُ تركتُ كلّ شيء ورائي. ولكنّ طارق كان كلّ ما لدَيّ وكان قد استحوذَ على إرادتي وشلّها مِن أيّ فرصة للعصيان. كان قويّاً جدًّا ولم أكن مهيّأة لمواجهة ومجابهة رجل مثله.

وبعد هناء، طلَبَ زوجي أن أدعو صديقة لي. حاولتُ الوقوف في وجهه ولكنّه بدأ يُهدّد ويصرخ. وأمام إصراري على الرّفض، تنازَلَ وعاشَرَني في تلك الليلة بعد حوالي سنة مِن الإمتناع. كان بذلك يقول لي إنّه سيُكافئني بمعاملتي أخيرًا كزوجة بكلّ ما للكلمة مِن معنى.

وأمام تلك اللفتة الإستثنائيّة لم يسعني سوى قبول دعوة صديقتي. ولكنّ الأمور لم تجرِ كما في المرّة السابقة، لأنّ ريما لم تكن مثل هناء. فحين طلَبَ منّي طارق أن أذهب إلى النوم قالت:

 

ـ سأرحل إذًا... مع كلّ إحترامي لكَ سيّد طارق، ولكنّني جئتُ لأجلس مع صديقتي التي أحبّها كثيرًا... شكرًا حبيبتي على هذا الطعام اللذيذ... تصبحان على خير.

 

ورحَلَت تاركة زوجي مذهولاً.

سُرِرتُ جدًّا لما فَعَلَته صديقتي، ولكثرة فرحتي إستطعتُ تحمّل إهانات طارق وصراخه في تلك الليلة. ولأوّل مرّة منذ فترة طويلة، نمتُ والبسمة على وجهي. وفي اليوم التالي، إتصَلتُ بريما وطلبتُ منها ملاقاتي. كنتُ أوّد الإعتذار منها بطريقة غير مباشرة، آملة ألّا تكون قد لاحظت لعبة زوجي. ولكنّني كنتُ مخطئة لأنّها قالت لي:

 

ـ لم أعد أعرفكِ... مذ تزوّجتِ وأنتِ إنسانة ثانية... ماذا فعَلَ بكِ زوجكِ؟ طيلة العشاء أخَذَ يُلاطفني ويُغازلني وأنتِ صامتة تتفرّجين علينا... كيف تقبلين بهذا الوضع؟ وهل كنتِ فعلاً مستعدّة لتركنا لوحدنا؟

 

ـ أجل.

 

ـ لا أصدّق أذنيَّ! ألا تحبّين نفسكِ؟ أين كرامتكِ؟

 

ـ أخَذَها.

 

ـ بل أنتِ تنازَلتِ عنها! لماذا تبقين معه؟

 

ـ إلى أين تريديني أن أذهب؟ ماذا أقول لأهلي؟ وهل سيفهمون ما أمرّ به وأبي هو طارق ثانٍ؟ آه... لو قَبِل طارق بأن أنجب!

 

ـ قَبِلَ؟ هو منعَكِ مِن ذلك؟

 

ـ نعم.

 

ـ يا إلهي! على كلّ حال مِن الأفضل أنّكِ لم تنجبي... في أيّ مناخ سيكبر طفلكما؟ إن كان ولدًا فسيُصبح صورة عن أبيه وإن كانت بنتًا ستكون مثلكِ وسيُعيدان السيناريو نفسه...

 

ـ ما بيدي حيلة... لستِ مكاني لـ...

 

ـ لستُ مكانكِ ولن أكون! كرامتي فوق كل اعتبار! الزواج هو أن يربط شخصان حياتهما ببعضهما بدافع الحبّ والإحترام... إسمعي... لدَيّ صديق يبحث عن سكرتيرة... سأكلّمه عنكِ.

 

ـ ولكنّ طارق لن يرضى أن أعمل... وإن فَعَلتُ سَـ...

 

ـ لن يترككِ... لو أرادَ ذلك لفعل منذ زمن بعيد... ستعملين وتضعين راتبكِ جانبًا إلى حين يُصبح بامكانكِ استئجار شقّة صغيرة، وحين تصيرين جاهزة تتركين ذلك البشع.

 

ـ أنا خائفة... لا أدري إن كان بإمكاني الإقدام على هكذا خطوة.

 

ـ سأساعدكِ... لا تخافي.

 

ولكن عندما فاتحتُ زوجي بموضوع العمل، إستاءَ إلى درجة لم أتصوّرها. لِذا فضَّلتُ العدول عن مشروعي.

لستُ جاهزة بعد على الرحيل فجزء منّي خائف، الجزء نفسه الذي عَمِلَ زوجي على تحطيمه. ولكن هناك جزءاً آخر، الجزء الذي لا يستطيع أحد الوصول إليه، وهو روحي. فلا يُمكن لأيّ طاغية أن يكسر الرّوح.

وأعلم تمام العلم أنّني سأتغلّب على مخاوفي يومًا ما، خاصّة بعدما صرتُ أرفض تقديم النساء لطارق. صحيح أنّه لا يزال يرى أخريات، ولكنّني لم أعد أداة بين يدَيه. الفَرَج قريب، فأنا كالفراشة التي تتحضّر داخل شرنقتها... وسيأتي يوم أفتَح فيه جناحيَّ وأطير بعيدًا وأحلّق في سماء السعادة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button