كم كُنت ساذجاً

لا أعتقد أنّ السذاجة هي قلّة الذكاء، بل إنّها نتيجة عوامل مختلفة، كالتربية الحسنة بإفراط، أي أنّ الولد يرى أهله يُسامحون مَن آذاهم ويجدون له الأعذار، فيفعل مثلهم. وهي أيضًا حاجة الانسان إلى أن يُحَبّ مِن الجميع فيندفع إلى مساعدة الآخر لنَيل رضاه. والسّبب الثالث هو بكل بساطة أنّ المرء يتحلّى بروح نقيّة لا ترى بشاعة مَن حوله ولا تفهم أبعاد تصرّفات الغير. ولكن لا عَيب في أن نكون ساذجين، بل العَيب هو ألا نتعلمّ مِن دروس الحياة، لأنّ الضحيّة الوحيدة هي نحن وبعض الجروح لا تلتئم بسهولة لا بل أبدًا.

كنتُ مِن هؤلاء الناس، ولم أكن أرى الشرّ في أيّ كان أو في أيّ شيء، وكانت أيّامي هنيئة حتى خلتُ حقًّا أنّني كنتُ سأقضي حياتي كلّها هكذا، أي محاطًا بأفضل الناس بدءًا مِن أهلي إلى أصدقائي ومرورًا بكلّ مَن التقَيتُ به. نسيتُ أن أذكر أنّني رجل، الأمر الذي قد يبدو غريبًا بعد هكذا مقدّمة. ولكن دعوني أبدأ بسرد قصّتي لتروا ما حلّ بي عندما وقعتُ في الحب.

 

كنتُ في العاشرة مِن عمري حين رأيتُ أمَيمة لأوّل مرّة. كانت تلك الفتاة قد جاءَت مع أهلها للسكن في المبنى المجاور لنا وكانت جميلة جدًّا.

أذكر أنّ كلّ صبيان الحيّ كانوا مبهورين بها، أمّا هي فكانت تتعالى علينا جميعًا ولا تنظر حتى إلينا. وتغيَّرَت حياتي كلّها عندما وقَعَتُ أمَيمة عن درّاجتها الهوائيّة أمام عَينَيَّ وركضتُ لأساعدها على النهوض. إبتسمَت لي ببراءة وقالت:

 

ـ أشكركَ... لن أنسى لكَ مساعدتكَ لي.

 

ولتثبتَ لي صدق كلامها، وضَعَت قبلة خفيفة جدًّا على خدّي وركبَت درّاجتها واختفَت عن نظري. أمّا أنا فبقيتُ مسمّرًا مكاني خوفًا مِن أن تطير عن خدّي تلك الفراشة الرقيقة التي وضعَتها أجمل فتاة في الحيّ. ولو علِمتُ آنذاك ما كانت ستفعله أمَيمة بي لاحقًا لمسحتُ وجهي ونسيتُ تلك الحادثة إلى الأبد.

ولكنّني وقعتُ بغرام كان سيدوم سنوات طويلة بفتاة كانت ستتحوّل إلى مخلوقة بغيضة.

 

وبات شغلي الشاغل أن ألمَح أمَيمة ولو من بعيد، فحفظتُ كلّ خطواتها: متى تذهب إلى المدرسة ومتى تعود منها، في أيّة ساعة تلاقي صديقاتها أو تخرج مع ذويها. ولكنّنا لم نلتقِ مجدّدًا إلا بعد سنة مِن حادثة الدراجة في حفل أقامَته البلديّة بمناسبة الأعياد. ركضتُ ألقي التحيّة عليها وابتسمَت لي مجدّدًا قائلة:

 


ـ منقذي! لقد فكّرتُ بكَ مراراً.

 

ولم يتسنَّ لي الجواب لأنّها أدارَت ظهرها وراحَت تقف مع أهلها. مرَّت سنوات قضيتُها بانتظار لقاء آخر، وأصبحتُ مراهقًا وسيمًا ومجتهدًا في مدرستي وكنتُ أنوي الذهاب إلى العاصمة لأدرس الطب حين جمعَني القدر بأمَيمة مرّة أخرى عند أصدقاء مشتركين. لم تتعرّف إليّ لأنّني وكسائر الشبّان كنتُ قد كبرتُ طولاً وعرضًا وأصبح لي شارب ولحية. عرّفتُها عن نفسي قائلاً إنّني "منقذ الدرّاجة" فضحكَت وجلسَت بالقرب منّي طوال السهرة. وعندما علِمَت أنّني سأقصد العاصمة لإكمال دراستي قالت لي:

 

ـ سترحل؟ سترحل بعدما التقَينا مِن جديد؟ ستتركني لوحدي؟

 

عندما سمعتُ ذلك نسيتُ الدرس وكلّ شيء لا يتعلّق بها وأجَبتُها:

 

ـ يُمكنني البقاء إن كان هذا ما تريدينه.

 

ومرّة أخرى وضعَت تلك الفتاة الفائقة الجمال قبلة على خدّي، وفي تلك اللحظة شعرتُ أنّني أمتلك الدنيا بأسرها.

واستاءَ أهلي كثيرًا عندما أخبرتُهم أنّني سأبقى في البلدة وأتسجّل في جامعة قريبة، لأنّني كنتُ سأغيّر المنهج الذي اخترتُه بسبب عدم وجود اختصاص في الطب بتلك الكليّة. ولكنّني كنتُ مصمّمًا على البقاء بالقرب مِن التي سَرَقَت قلبي منذ صغري. واختَرتُ الآداب، مادّة لم أكن أحبّها، ومِن ثمّ قصدتُ أصدقاءنا المشتركين وأخَذتُ منهم رقم هاتف أمَيمة. ولكن عندما اتصلتُ بها لأزفّ لها الخبر قالت لي:

 

ـ هذا سيعني أنّكَ ستصبح لاحقًا أستاذ مدرسة... أي إنسان عاديّ... لا بأس... لا بأس.

 

شعرتُ بالخيبة الظاهرة في صوتها واحتَرتُ بأمري، ولكنّني صمَّمتُ على البقاء بجانبها آملاً أن أكمل دراستي حتى الدكتورا لأدّرس بالجامعة لاحقًا.

وبدأنا نتواعد وكانت تلك أجمل أيّام حياتي. صحيح أنّ طلبات أمَيمة كانت عديدة ومكلفة، ولكنّ أهلي كانوا يُعطوني مصروفًا يُتيح لي دعوتها إلى أماكن ظريفة.

ولكن في أحد الأيّام، لم تأتِ حبيبتي إلى موعدنا، وانشغَلَ بالي كثيرًا خاصّة أنّ ذلك لم يحصل مِن قبل. قرَّرتُ المرور ببيتها آملاً أن أعرف شيئًا عنها، وإذ بي أراها تصعد في سيّارة شاب كنتُ قد رأيتُه سابقًا في الحيّ. حاولتُ اللحاق بهما ولكنّني لم أنجح لأنّني لم أكن أملك سيّارة. وهذا بالذات ما قالَته لي أمَيمة في اليوم التالي عندما سألتُها عن سبب عدم مجيئها إلى الموعد وذهابها مع آخر:

 

ـ ماذا تريدني أن أفعل؟ أن أواعد شابًّا لا مال له ولا سيّارة ؟ أنتَ كسول ولا طموح لكَ! ستصبح مدرّساً... بينما هو!

 

ـ كان مقدّراً لي أن أصبح طبيبًا ولكنّكِ أردتِ أن أبقى في البلدة!

 

ـ لم أجبركَ على شيء.

 

وبدل أن أغضب منها وأقرّر أنّها لا تستحقّ العناء، لِمتُ نفسي لِعدم قدرتي على شراء سيّارة وأخذها أينما تشاء. لِذا بدأتُ أفتّش عن عملٍ فوجدتُ وظيفة ليليّة في مستودع. عندها استاءَت أمَيمة أيضًا لأنّ ذلك العمل لم يكن على قدر مقامها، ولكنّها قبلَت أن تواعدني مِن جديد إن أصبح لدَيّ سيّارة "محترمة".

 

أخذتُ قرضًا صغيرًا مِن المصرف واشترَيتُ به مركبة مستعملة لم تُعجب حبيبتي، بل رأت أنّ سيّارة ذلك الشاب أجمل وأسرع بكثير. طلَبتُ منها أن تصبر عليّ قليلاً ولكنّها بقيَت تردّد: "أصبر حتى تصبح استاذ مدرسة ذا راتب ضئيل؟ يا لفرحتي!"

 


ولم تكفّ أمَيمة برؤية صديقها أو أيّ شاب آخر يدعوها للخروج معه. وكنتُ أراهم يأتون لأخذها مِن البيت بسيّاراتهم الفخمة فتكبر الحسرة بقلبي.

وباتَ أصدقائي يسخرون منّي لأنّ حبيبتي تواعد شبّاناً آخرين، ولم أعد أحتمل الوضع. ولم أفكّر ولو للحظة أنّ أمَيمة انسانة معدومة الأخلاق والشفقة وأنّها لا تحبّني لا بل تستغلّني، وكنتُ أجد لها باستمرار الأعذار ملقيًا اللوم على نفسي.

 

وأمام عجزي عن تقديم الأفضل للتي سَرَقَت فؤادي، قرَّرتُ ترك الجامعة لإيجاد عمل بدوام كامل وراتب أفضل. وهذا ما فعلتُه بالرّغم مِن معارضة أهلي. وهكذا بدأتُ العمل بشركة استيراد وتصدير، وأخَذتُ قرضًا آخر مِن المصرف واشترَيتُ سيّارة جديدة وجميلة. عندها فرِحَت أمَيمة وعادَت تراني أنا وحدي.

ولكن سرعان ما ملَّت منّي ومِن ساعات عملي الطويلة، لأنّها كانت تريد الخروج كلّ ليلة لترقص "وتستمتع بوقتها كأيّ فتاة أخرى". فعندما طلبتُ منها أن تصبح زوجتي ونؤسّس عائلة سويًّا قالت لي مستهزئة:

 

ـ ليس لديكَ شهادة جامعيّة، وعليكَ ديون كثيرة وتريدني أن أدفن نفسي معكَ؟ مستحيل! أنتَ إنسان فاشل... أنظر إلى غيركَ كيف تدبَّرَ أمره وأصبَحَ ثريًّا!

 

ـ هؤلاء ورثوا أموالهم مِن أهلهم أمّا أنا فَـ...

 

ـ أمّا أنتَ فستبقى على حالك طوال حياتكَ... لا طموح لكَ!

 

ـ ماذا تريدين؟ كيف أرضيكِ؟ قولي لي!

 

ـ أريد أفضل حياة فهذا ما استحقّه... إن لم أحصل عليها معكَ فسأجدها مع غيركَ.

 

عندها أيضًا كان بإمكاني الكفّ عن حبّها والعمل على نسيانها، ولكنّني لم أفعل بل زادَ إصراري عليها وعلى اعطائها ما تريده. صمَّمتُ على الزواج منها فهذا ما كنتُ أخطَّط له منذ صغري.

وفعلتُ ما لم يكن عليّ فعله، أي أنّني بدأتُ أسرق بضائع مِن الشركة وأبيعها بنصف سعرها. كيف توصَّلتُ إلى السّرقة مع أنّني مِن عائلة شريفة تخاف الله وتربَّيتُ على احترام ممتلكات الغير؟ لستُ أدري ولم أفكّر بالأمر آنذاك.

 

وأغرَقتُ أمَيمة الهدايا، وهي لم تسألني عن مصدر أموالي، إلا أنّني متأكّد مِن أنّها علمَت أنّ لا قدرة لي على جلب الأفضل لها. سَرَقتُ كثيرًا ولكن بفنّ كي لا أثير الشكوك.

ولكن كان مِن المحتوم أن يُكشف أمري، وحصَلَ ذلك بعد أن وافقَت أمَيمة أخيرًا على الزواج منّي، أي حين كنتُ في قمّة السعادة.

جاءَت الشرطة إلى بيتنا وأخَذَتني مكبّلاً أمام أعين الجميع. إعترَفتُ بجرمي لأنّني لم أكن أحسن الكذب، وتمَّت محاكمتي ونقِلتُ إلى السجن.

لم تزُرني أمَيمة يومًا ولم تسأل عنّي حتى. علِمتُ مِن أمّي أنّ التي دفَعَتني ولو غير مباشرة إلى السرقة تزوّجَت مِن شاب ثريّ وسافَرت معه. عندها فقط أدركتُ مدى سذاجتي. كنتُ قد جلبتُ العار على نفسي وعلى عائلتي مِن أجل فتاة معدومة الضمير.

لمتُ نفسي كثيرًا على ما فعلتُه لأّنّ ذلك لم يكن مِن شيَمي. وبعد خروجي مِن السجن، عدتُ فورًا إلى الجامعة وأكملتُ اختصاصي وسط نظرات زملائي وأساتذتي الذين علموا بما جرى لي. وفور حصولي على شهادتي، وجدتُ عملاً في جريدة صغيرة وبدأتُ أكتب المقالات.

صبَبتُ روحي كلّها على الورق وأفرَغتُ كل حزني وألمي، وباتَ القرّاء ينتظرون مقالاتي بفارغ الصبر. وبعد فترة استطعتُ اجتياز محنتي فانتقلتُ إلى مواضيع أكثر تنوّعًا وأملاً.

وبعدما شفيت من جروحي، استطعتُ أن أحبّ مجدّدًا وليس بإمكاني أن أشكر وفاء كفاية. كانت تلك الزميلة قد شعَرَت بيأسي وساعَدتني على الوقوف مِن جديد. لم تأبه بما فعلتُه سابقاً، والذي سبّبَ لي السجن بل قالت لي:

 

ـ الماضي وراءنا... أنتَ اليوم انسان جديد... كلّ ما أراه فيكَ هو الطيبة والحنان... لقد دفَعتَ ثمن الدّرس غاليًا وحانَ الوقت لنقلب صفحة سويًّا... ومع أنّكَ لم تطلب منّي ذلك سأقول لكَ "نعم" أقبل أن أصبح زوجتكَ وأمّ أولادكَ، وأعدكَ بألا أسبّب لكَ الأسى يومًا بل أن أعمل على اسعادكَ في كلّ دقيقة وحتى آخر أيّامي.

 

أنا اليوم انسان سعيد مع زوجتي وأولادي وباتَ ذكر أمَيمة بعيد جدًّا. أعلّم أولادي على اليقظة ومعرفة نوايا الغير، ولكن مِن دون أن أخيفهم أو أخلق بنفوسهم "الرّعب مِن الآخر"، كي يعرفوا قيمة ذاتهم الحقيقيّة ولا يسمحوا لأحد بأن يستغلّ طيبتهم ومشاعرهم.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button