كلّ ذلك لأنّني لم أرضَ به

خفتُ مِن بسّام عندما رأيتُه آتيًا مع أهله لِطلب يدي. صحيحٌ أنّني كنتُ قد رأيتُه بضع مرّات في الحيّ، ولكن كانت تلك أوّل مرّة أراه عن قرب. كان ذلك الشاب طويل القامة وعريض الكتفَين ولكن بشكل مخيف، خاصّة أنّ ملامحه كانت قاسيّة جدًّا وتدلّ على غضب دائم.

وبالطبع رفضتُه، ولم يصّر أهلي عليّ لأنّهم كانوا يعرفون أنّ سمعته سيّئة. وعندما ترَكَ بيتنا مع ذويه قال لنا مع شبه ابتسامة:

 

ـ سأعود قريبًا... وأنا متأكّد مِن أنّكم ستكونون قد غيّرتم رأيكم... لا بل ستتوسّلوني لآخذ ابنتكم.

 

صحيح أنّ كلامه كان مخيفًا بقدر شكله، ولكنّنا لم نعِره أهميّة كبرى لا بل سرعان ما نسينا بسّام ومشروعه.

ولكنّ ذلك الشاب لم يكن مِن الذين يتقبّلون الهزيمة، خاصة أنّه كان قد تباهى أمام أصدقائه بأنّه سيتزوّج منّي قريبًا وأنّ ما مِن فتاة قادرة على مقاومة وسامته. لِذا أخَذَ ينتظرني أمام المبنى ويلحق بي، آملاً أن يُغيّر رأيي ببضع كلمات مجاملة. ولكنّني كنتُ أنظر أمامي وأكمل طريقي وكأنّه غير موجود. وهنا شَعَرَ بسام بالاهانة وقرَّرَ تنفيذ تهديده، أي استعمال القوّة.

 

لم أكن أتصوّر أنّ هؤلاء الأشخاص موجودون خارج الرّوايات والأفلام، ولكنّهم للأسف يعيشون بيننا ويتربّصون بنا، منتظرين اللحظة المناسبة لاشباع رغباتهم الدنيئة التي تسكن في عقولهم المريضة.

كان يجدر بي أن آخذ حذري أو أن يُنبّهني أهلي منه، فكما قلتُ سابقًا كانوا على علم بسيرته السيّئة، ولكنّهم تصرّفوا حسب أخلاقهم وطيبتهم.

 


وفي إحدى الليالي بينما كنتُ عائدة مِن عملي وعلى وشك الوصول إلى بيتنا، جاءَت سيّارة مسرعة جدًّا ولطمَتني على مستوى رجليَّ. سقَطتُّ أرضًا وبدأتُ أصرخ وأبكي مِن الخوف والألم الحاد، إلى أن جاءَ أحد المارّة وأخبر أهلي الذين حمَلوني بسرعة إلى المشفى حيث خضَعتُ لعمليات جراحيّة عديدة لمعالجة كسور ساقيَّ.

تألمّتُ كثيرًا وبكيتُ أكثر، ولم يخطر ببالي للحظة أنّ ذلك السائق اللعين كان بسّام. ولكن إكتشفتُ الحقيقة حين جاءَ بكلّ وقاحة لرؤيتي بالمشفى. دَخَل الغرفة مبتسمًا على غير عادته ووقَفَ أمام سريري قائلاً:

 

ـ لستُ متأكّدًا مِن أنّني ما زلتُ أريدكِ... إلا إذا توسّلتِني لأفعل.

 

نظَرَتُ إليه بتعجّب ومِن ثمّ بغضب وأجبتُه:

 

ـ سأشفى وأعود كما في السّابق... وحتى لو أقعدَني صدمكَ لي، لن أقبل بكَ يومًا أيّها المجرم!

 

ـ عمّا تتكلّمين؟ أنا لم أفعل لكِ شيئًا... لا بدّ أنّكِ تهلوسين.

 

وخرَجَ بعد أن أطلقَ ضحكة عالية وبشعة مثله.

تمنَّيتُ لو لم أكن لوحدي في الغرفة، لكان لدَيَّ شهود على اعترافه بفعلته، ولكنّ أهلي كانوا قد ذهبوا إلى البيت ليرتاحوا قليلاً ويعودوا بعد ساعة أو اثنتَين.

وبعدما علِمتُ أن ذلك الشخص البغيض مستعدّ لأذيّتي وبشكل إجراميّ، حبَستُ نفسي في المنزل. لم أقل لأهلي عن السّبب كي لا أورّط أبي أو أخي بمشاكل لن يُحسنوا التعامل معها.

وبتُّ أخاف مِن أيّ صوت أو حركة، وأتخيّل أنّ بسّام آتٍ لإنهاء ما بدأه، إلى درجة أنّني استقَلتُ مِن عملي بالرّغم مِن أنّ مديري طالَبني بالعودة. إستغَرَب الجميع أنّني فضَّلتُ البقاء في البيت بعد أن شفيتُ بفضل اهتمام أهلي بي وجلسات العلاج الفزيائيّ العديدة، خاصّة أنّني لطالما كنتُ امرأة عاملة وأحبّ الاختلاط بالناس.

ولكن كان مِن المستحيل أن أبقى طوال حياتي مسجونة بين جدران منزلنا ولا بّد لي أن أخرج منه يومًا.

 


وحَصَلَ ذلك عندما دعَتنا ابنة خالي إلى زفافها وأصرَّت طبعًا على حضوري، خاصّة أنّنا كنّا جدّ مقرّبَتَين وأعتبرها أختًا لي. في البدء حاولتُ إيجاد العذر المناسب، ولكنّني لم أفلح بذلك وقبلتُ الذهاب إلى الفرح والخوف يملأ قلبي. ولكن لاحقًا قلتُ لنفسي إنّه مِن المستحيل أن يعترض بسّام طريقي وأنا بصحبة ذويّ أو أن يقتحم صالة الفرح. ولكنّني لم أكن أعرف بعد مدى مَرَض ذلك الشاب.

وهكذا حضَّرتُ نفسي للخروج مع أهلي، وكنتُ مسرورة أنّني سأرى أناساً لم أرَهم منذ زمَن بعيد وعملتُ جهدي للتغلّب على خوفي.

 

ولكن لحظة ما أوقَفَ أبي سيّارته أمام الفندق ونزلنا منها، شعَرتُ بأحد يكمشني ذراعي ويشدّني بعيدًا. في البدء لم أفهم ما الذي يحصل إلى أن استدَرتُ ورأيتُ بسّام وبنيّته خطفي. لا أعلم حتى الآن مِن أين جئتُ بالقوّة اللازمة للإفلات مِن ذلك المارد الشرّير، ولكنّني استطَعتُ الابتعاد كفاية لتسديد ضربة مؤلمة بواسطة العكاز التي جلبتُه معي في حال تعِبتُ خلال الحفل.

كنّا قد ابتعدَنا قليلاً عن الباقين وأصبحنا في مكان مظلم بعض الشيء، ورأيتُ أهلي وهم ينظرون مِن حولهم بحثًا عنّي. بسّام كان قد شدَّني بسرعة فائقة لِدرجة أنّ لا احد رأى شيئًا مِن الذي حَصَلَ.

وعلِمتُ أنّ لدَيّ بضع ثوانٍ للرّكض إلى الضوء حيث يُمكن أن يراني الناس، وذلك قبل أن يتمكّن بسّام مِن سحبي مجدّدًا. وبالرّغم مِن الألم في رجليَّ، أخَذتُ أركض كما لم أركض بحياتي. الغريب في الأمر أنّني لم أصرخ، وأظنّ أنّ السّبب هو تركيزي على ساقَيَّ وعلى المسافة التي كان عليَّ اجتيازها بوقت جدّ قصير.

ووصَلتُ لاهثة إلى أمام الفندق وبالكاد استطَعتُ اخبار الجميع بما حصل، وبما هو أهمّ مِن ذلك، أي أنّ بسّام هو الذي كان يقود السيّارة التي صدَمَتني. عندها أحاط بي الجميع ودخَلنا ردهة الفندق واتصل أبي فورًا بالشرطة. ولأنّنا لم نكن نريد إفساد فرح حبيبة قلبي، قصدَنا نحن المركز حيث أخبرتُهم بكلّ شيء.

ولكن لم يكن هناك دليل على ما فعلَه بسّام، فعندما جاءَ إلى المشفى كنتُ لوحدي وعندما حاوَلَ خطفي كنتُ أيضًا لوحدي، وفي المرّتَين لم يرَه أحد.

سجَّل المفتّش أقوالي وقال لنا إنّه سيتحرّى عن الأمر ولكنّه لم يعدنا بشيء. وعدنا يائسين إلى البيت. وبدأَ عذابي الفعليّ، أيّ أنّ المخاوف التي كانت تراودني في السّابق اتّضحَ أنّها كانت في مكانها، فبتُّ أخاف مِن الخروج حتى إلى الشرفة.

وكان سيستمر وضعي إلى الأبد لولا طرأ أمر على مجرى الأحداث وغيَّرَها بصورة جذريّة وحاسمة.

كان بسّام قد تباهى أمام أصدقاء له بأنّه صدَمَني عن قصد بسيّارته بغَرَض تلقيني درسًا لن أنساه وكي يُحطّم كبريائي، وقال لهم أيضًا إنّه ينوي خطفي ليسلب منّي عفّتي وارجاعي مِن دون أن يتزوّج منّي. وتلك الأخبار وصَلَت إلى مسامع الشرطة التي تتعامل مع مخبرين مقابل شيء مِن المال أو تخفيف جنحهم.

وهكذا تمّ القبض على بسّام بتهمة محاولة القتل والخطف. وبالرّغم مِن خوفي الشديد، استطَعت الادلاء بشهادتي ورُمي بذلك السافل خلف القضبان لمدّة طويلة. وحتى يحين موعد خروجه سأكون قد تعافَيتُ كلّيًا، جسديًّا ونفسيًّا وسأكون حاضرة لأيّ شيء ينوي فعله.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button