كرَّستُ حياتي لغَيري

عندما توفّي زوج أختي وتركَها مع ابنتَين صغيرتَين، طلبَت منّي ترك بيت أهلي والعَيش معها لمساعدتها بطفلتَيها بينما تذهب هي إلى عملها. وبما أنّني كنتُ لا أزال في الثامنة عشرة مِن عمري ولا أنوي إكمال دراستي، سُرِرتُ بطلبها خاصّة أنّ الحياة عند أهلي كانت لا تُطاق، فالجدير بالذكر أنّ والدَيَّ لم يكونا مِن الصّنف المحبّ والمتفهّم لا مع بعضهما ولا معي.

وهكذا تقاسَمتُ حياتي مع ريما ودينا إبنتَي أختي، وكنتُ جدّ فخورة بأن أساهم في تربيَتهما. مرَّت السّنوات بسلام، وازدَهَر عمل أختي ولم تعد بحاجة إليّ، فرأيتُ أنّ الوقت أصبَحَ مناسبًا لأكوّن عائلة خاصّة بي.

ولكنّ الفتاتَين لم تكونا مِن رأيي:

 

ـ لا، يا خالتي! إبقِ معنا بعد... إبقِ حتى نكبر أكثر... إن رحلتِ فستجلب لنا أمّنا مربيّة ولن نطيقَ وجودها معنا... لا تتركينا!

 

وأمام إصرارهما، قرَّرتُ إعطاءهما المزيد مِن وقتي... ومِن حياتي.

كانت قد مرَّت خمس عشرة سنة على قدومي، حين أعلَنتُ لأختي وابنتَيها أنّني تعرَّفتُ إلى رجل وأنوي الارتباط به. رأيتُ الخَيبة على وجوههنّ وكنت آمل أن أسمع منهنّ التهاني، ووعَدتُ نفسي ألا اتراجع عن قراري.

ولكنّني تفاجأتُ بأختي وهي تقول لي بكل محبّة:

 

ـ مِن حقّكِ أن ترتاحي أخيرًا وتعيشي الحياة التي تريدينَها... لقد أخَذنا سنوات مِن عمركِ... أرجو منكِ ألا تنسينا، حبيبتي.

 

وارتاحَ قلبي وركَضتُ أخبر عُمر بأنّ كلّ شيء جرى بسلاسة تامة. وبدأنا تحضيرات الزفاف، وأشرَكتُ ريما ودينا بها كي لا تشعران أنّني وضعتُهما جانبًا.

وقبل الزفاف بشهرَين، جاءَت أختي وقالت لي:

 

ـ يا أختي العزيزة... لا أعلم كيف أقول لكِ ذلك... أنا أيضًا لدَيَّ أحد في حياتي ولكنّني لستُ محظوظة مثلكِ، فحبيبي يودّ الزواج منّي وبأقرب وقت إلا أنّه لا يريد أن تعيش بنتايَ معنا.

 

ـ إنّها فعلًا مشكلة... هل حاولتِ اقناعه؟

 


ـ بالطبع فعلتُ... المشكلة هي أنّ ريما ودينا لم تتقبَّلنَه وهو شعَرَ بذلك ولم يتصوّر نفسه قادرًا على العيش بأجواء قد تكون مشحونة، ولا أستطيع لومَه على ذلك.

 

ـ هل تريدين منّي أن أكلّم ابنتَيكِ؟ تعرفين كم أنّني أستطيع التأثير عليهما.

 

ـ أرجوكِ أن تفعلي، فأنا في وضع جدّ صعب... أحبّ ابنتَيَّ ولكنّني أحبّ ذلك الرجل أيضًا ولن أجد أفضل منه، فهو الوحيد الذي عَرَف كيف يخطف قلبي وعقلي... منذ وفاة زوجي وأنا أصبّ كلّ أهتمامي على عملي لأصل إلى حيث أنا اليوم، وهو استطاعَ إضافة الفرحة إلى حياتي المتعِبة.


أخَذتُ على عاتقي إقناع ريما ودينا بقبول الذي سيُصبح زوج أمّهما ولكنّني لم أنجح بذلك. كانتا ترفضان العَيش مع ذلك الرجل رفضًا قاطعًا، ومصمّمتَين على إزاحته مِن طريقهما وطريق والدتهما. وعند معرفة ذلك، وقعَت أختي في حالة يأس عميقة ولم تعد تأكل أو تنام، ورأيتُها تتلاشى أمام عَينَيَّ يومًا بعد يوم.

وذات يوم وجدَتها بناتها فاقدة الوعي، الأمر الذي استدعى جلب الطبيب الذي وصَفَ لها الراحة التامة وعدَم التعرّض لأي شيء يُسبّب لها الزعل، وأعطاها المهدّئات والمنوّمات.

صارَ جوّ البيت لا يُطاق، فباتَت ريما ودينا تبكيان طوال الوقت وأختي غارقة في نوم شبه دائم.

 

ولم يعد أمامي سوى حلّ واحد وهو أن أبقى مع ريما ودينا، بينما تتزوّج أختي مِن الذي تحبّه وتنتقل للعيش معه في بيته. ترَكتُ عُمر خطيبي والدّمع ملء عينَيَّ وهو لم يفهم كيف أفعل ذلك به وبنا. حاوَلتُ أن أشرح له أنّني لن أجد السّعادة وأنا أعلم أنّ أختي الوحيدة في حالة يُرثى لها وأنّ ابنتَيها اللتَين ربَّيتُهما في حزن عميق، ولكنّه نعتَني بالأنانيّة ورحَلَ مِن حياتي غاضبًا.

ومِن بعد ذلك تزوّجَت أختي وأنا أخَذتُ مكانها. لم أكن سعيدة ولكنّني كنتُ مقتنعة بالذي فعلتُه. على كلّ الأحوال كانت ابنتَا أختي قد دخلتا الجامعة، وسرعان ما كانتا ستجدان عريسَين وترحلان مِن البيت، وعندها سأتمكّن مِن استرداد حرّيتي.

وهكذا حصَل، على الأقل مع ريما. فبعد سنتَين تزوّجَت وحمِلَت على الفور. ولأنّ كان عليها إكمال دراستها، جاءَت لي بطفلها كما فعَلَت أمّها قبلها. قبِلتُ بسرور لأنّها كانت مسألة سنة على الأكثر، ولأنّ دنيا كانت لا تزال تعيش في البيت.

وبعد سنة بدأَت ريما بالعمل مع أمّها، وتَرَكَت لي ولدها أهتمّ به خلال تواجدها في عملها، إلا أنّني لم أنزعج مِن الأمر بعد أن تعوّدتُ على ذلك الصغير الجميل واللطيف.

 


وسرعان ما لحِقَت دنيا بأختها في شركة أمّها، ووجَدتُ نفسي لوحدي مع الصّغير ومع منزل كبير عليّ تنظيفه وترتيبه. عندها شَعَرتُ بأنّني أُستغَلّ. لماذا لم أدرك ذلك مِن قبل؟ لستُ أدري. ربمّا وجود أختي ومِن ثمّ ابنتَيها معي كان كافيًا لأتغاضى عن الذي كان يحصَل. جمَعتُ شجاعتي كلّها لأقول لهنّ "كفى". كان الأمر صعبًا عليَّ بعد أن قضَيتُ حوالي العشرين سنة أقبل بكلّ شيء باسم الأخوّة وصلة الدمّ، خاصّة أنّ علاقتي بأبوَيَّ كانت رديئة جدًّا ولم يسألا عنّي أو عن أحد حتى مماتهما.

طلَبتُ أن أكلّم أختي وديما وريما بأمر مهمّ، وعندما وجَدتُ نفسي أمامهنّ قلتُ:

 

ـ أظنّ أنكنّ تعرفنَ كم أحبّكنّ... ولكن حان الوقت لأرحل... بيت أهلنا باتَ فارغًا بعدما ماتا وسأنتقل إليه... قِسمي مِن الميراث سيكفيني للعيش إلى حين أجد عملاً بسيطًا، فأنا كما تعلَمنَ لم أكمل دراستي... سأشتاق إليكنّ كثيرًا وسأبقى أزوركنّ باستمرار.

نظَرَت أختي إليّ وكأنّني قمتُ بجريمة ما، أمّا ابنتَاها فبدأتا بالصّراخ والشَتم. تفاجأتُ كثيرًا بردّة فعلهنّ فلم أتوقّع هذا الكمّ مِن الأذى المجانيّ:

 

ـ ما لزوم هذا الحديث؟ شتائم وتهديدات؟ وهل أنا موظّفة لدَيكنَّ؟ لستُ مدينة لأحد بشيء لا بل العكس! أهَدَرتُ حياتي مِن أجلكنّ وهكذا أُكافأ؟ يا خَيبة أملي بكنَّ! أنتِ يا أختي تكلّميني بهذه الطريقة الفظّة؟ لولايَ لَما تزوّجتِ!

 

ضَحِكَت أختي عاليًا وقالَت لابنتَيها:

 

ـ أسمعتما ما قالتَه؟ لم أكن لأتزوّج لولاها!

 

ثمّ استدارَت نحوي وتابعَت:

 

ـ يا حبيبتي كم أنت ساذجة... لطالما كنتِ هكذا... أتذكرين حين كنّا صغيرتَين؟ كنتِ تعطيني ألعابكِ ثمّ ملابسكِ وتقومين بالأعمال المنزليّة عنّي بينما كنتُ أخرج مع صديقاتي... صدَّقتِ قصّة العريس الذي لا يُريد العَيش مع ابنتيَّ؟

 

في البدء لم أفهم قصدها جيّدًا، فكان مِن الصّعب جدًّا أن أستَوعب أنّ أختي غشَّتني لدرجة حَملي على ترك خطيبي. تابعَت ريما عنها:

 

ـ أجل يا خالتي... لقد وقَعتِ ضحيّة قلبكِ الطيّب... أنا أسمّيه غباء ولكن التسميّة ليست مهمّة... الحقيقة أنّ أمّي كانت تريد الاستمتاع بِزوجها بعدما قضَت حياتها معنا وهذا مِن حقّها.

 

ـ مِن حقّها؟ لم تفعل شيئًا مِن أجلكما... أنا التي فعَلتُ!

 

ـ ربمّا... ولكنّكِ لستِ أمّنا! وقد رأينا أنّ الحلّ الوحيد هو إبقاؤكِ معنا للاستفادة منكِ بعد... ولكن على ما يبدو بدأتِ الأن بالتفكير والتحليل ولم يعد مِنك منفعة.

 

ـ لقد ربَّيتكما... وضحَّيتُ بحياتي مِن أجلكما وبدأتُ أهتمّ بابنكِ، يا ريما... هل يُعقل...

 

لم أتمكّن مِن إكمال جملتي مِن كثرة ضحك أختي وابنتَيها. وبدأتُ أبكي كالطفلة، فلم أتصوّر أبدًا أن ألقى هكذا معاملة.

ركَضتُ أجمع أمتعَتي، وخرَجتُ مِن البيت الذي قضَيتُ فيه عشرين سنة مِن أجل غيري.

عشتُ فترة طويلة بحزن لا يوصَف إلى حين نفَذَ القليل الذي ورثتُه مِن أهلنا. عندها كان عليّ مَسح دموعي والتفكير بطريقة أجني ما يُمكّنني مِن العَيش مِن دون أن أمدّ يدي إلى أختي الماكرة.

وحين وضَعتُ ما حصَلَ لي ورائي، إستطَعتُ التفكير بوضوح: ما هو الشيء الوحيد الذي أحسن عمله؟ تربية الأطفال طبعًا. وبما أنّي كنت أعيش في شقّة كبيرة، كان بإمكاني جَلب أولاد السيّدات اللواتي لا تستطعنَ الاهتمام بأولادهنّ بسبب عملهنَّ.

بدأتُ بطفل واحد: إبن الجيران، ثمّ ولكثرة امتنان أمّه ممّا أقوم به، بدأَت الأمّهات العاملات تتوافَدنَ إليّ، وسرعان ما صارَ عندي عدد كافٍ مِن الأولاد. ومع مرور الوقت، قمتُ بتحسينات في الشقّة لجعلها متوافقة مع المعايير القانونيّة لنَيل رخصة حضانة.

أنا اليوم صاحبة حضانة معروفة، ولدَيَّ مساعدات وأحوالي أكثر مِن ممتازة.

والجدير بالذكر أنّني ومنذ لحظة تركي منزل أختي، لم أسمع منها أو مِن ابنتَيها.

للحقيقة لا يهمّني الأمر، فلقد أصبحَنَ جزءًا مِن ماضٍ لم يعد موجودًا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button