كدتُ أجنّ بعد موت زوجي

كنّا كطيور الحب، وكنتُ أسعد امرأة في العالم إلى أن أخَذَ القدر زوجي منّي. حصل ذلك فجأة عندما كان هشام عند أحد أقاربه. شعَرَ المسكين بِضيق نَفَس وأمسَكَ ذراعه وارتمى أرضًا ليُغمض عيَنَيه إلى الأبد. وعندما أخبروني على الهاتف أنّ رجل حياتي قد مات، أُغميَ عليّ، واستفَقتُ وسط زملائي في العمل الذي ركضوا إليَّ بعدما سمعوا صرختي. وهرعتُ إلى المشفى حيث كان خليل، إبن عم هشام، قد نقله بسرعة ولم أجد أحدًا، فجلستُ أبكي لوحدي بانتظار أن أحصل على تفسير منطقيّ لما حصل. فقد كان زوجي يتمتّع بصحّة جيّدة جدًّا ولم يكن يُعاني مِن شيء. وبعد قليل أخبَرَني طبيب الطوارئ أنّ قلب هشام توقّف عن الخفقان بسبب جلطة عنيفة وما مِن أحد أو شيء كان باستطاعته إنقاذه.

 

وعدتُ إلى البيت باكية أفكّر بِكيفيّة إخبار أولادي أنّ أباهم قد مات وأنّهم لن يرَوه مجدّدًا.

وأقمنا مراسيم الدفن والتعازي، وتوافَد الناس بعدد هائل لكثرة حبّهم لهشام الذي كان بالفعل مميّزًا. ولبستُ الأسود وحبستُ نفسي في المكان الذي وُلِدَ وكبُرَ فيه حبّنا حتى وصَلَ إلى أسمى درجة. وجمعت صغاري وشرحتُ لهم أنّ أباهم في الجنّة وأنّه يحميهم مِن حيث هو.

 

ومع مرور الأيّام والأسابيع، بدأتُ أهلوِس، فتارة أرى هشام معنا في البيت وتارة في الحلم. واعتقَدتُ أنّ روحه لا تزال موجودة بيننا، لِذا أخذتُ أضَع طبقًا له على المائدة وأحضّر له ثياب النوم وأضعَها على السرير. هل كنتُ أنتظر أن يعود؟ أجل. ففي كلّ صباح عندما أفتح عَينَيّ كنتُ أمدّ يدي لأرى إن كان هشام نائمًا بقربي، وكأنّ معجزة كانت ستحصل لكثرة صلاتي.

وطفَحَ كَيل أولادي، وطلبوا منّي التوقّف عن إجبارهم على العيش مع شبح. لم أفهم إصرارهم على نسيان أبيهم واعتبرتُ ذلك إهانة له ولحبّنا. وعندما عدتُ إلى عملي في المصرف، أشعت الحزن مِن حولي لِدرجة أنّ زملائي باتوا يتفادون التواجد بقربي.

 

ومَّرت سنة على هذا النحو، وبالطبع كنتُ لا أزال غارقة بِمصيبتي ولا أرى مخرجًا لها إلّا عندما أموت بِدوري وألتقي بِحبّ حياتي مجدّدًا. والوحيد الذي كنتُ أسمح له بِمكالمتي كان خليل، أوّلًا لأنّه إبن عمّ زوجي وصديقه الحميم، وثانيًا لأنّه كان متواجدًا معه عندما حصلَت الفاجعة. وكنّا نتكلّم هاتفيًّا، وفي كلّ مرّة أطلب منه أن يُعيد عليّ سرد ما قالَه هشام في لحظاته الأخيرة. وكان يُجيبني:

ـ قال بِصوت خافت قبل أن يُغمض عينَيه:" نسرين... حبيبتي نسرين".


وأن يكون زوجي قد لفَظَ إسمي قبل أن يُغادر هذا العالم، كان بمثابة تعزية أحملها في قلبي كلّ ما ضاقَت بي الدنيا.

ولكن في ذات يوم تفاجأتُ بخليل يدقّ بابي. كان حتى ذلك الحين يكتفي بالإتصال هاتفيًا بي، وخلتُ أن مكروهًا حصل لأهله ففتحتُ له بسرعة ولكنّه قال لي:

ـ جئتُ أطمئنّ عليكِ.

ـ أنا بِخير... شكرًا.

ـ لا... لستِ بِخير... الكلّ يقول إنّكِ على شفير الإنهيار... وقرّرتُ المجيء للتأكّد بِنفسي.

ـ أنا بِخير.

ـ أنظري إلى نفسكِ... تبدين وكأنّكِ عجوز...

ـ وما نفع التبرّج وتسريح شعري؟

ـ ألم يحِن الوقت لتنتقلي إلى مرحلة التعافي المعنويّ والجسديّ؟

ـ وهشام مدفون تحت التراب؟ وهل هو متعافي؟

ـ لديكِ أولاد... لا تقحميهم في حزنكِ.

ـ كان هشام أباهم ومِن واجبهم أن يحزنوا عليه.

ـ إلى متى؟

ولم أستطع الإجابة فأقفلتُ الباب بِوجه الرّجل.

 

ولكنّه لم يستسلم وعادَ بعد أسبوع حاملًا سلّة فواكة. أخذتُها منه وعدتُ إلى الداخل. وبدأ يأتي بانتظام ويبقى واقفًا عند الباب يسأل عنّي شخصيًّا ليرى إن كنتُ بخير. ولم أطلب منه الدّخول ولو مرّة واحدة، لأنّني أقسمتُ ألا تطأ رِجل رَجُل البيت بعد رحيل صاحبه. وكان خليل متفهّمًا كفاية ولم يغضب أو حتى يطلب الدخول.

ثمّ اعتدتُ أن أراه ولو لِبضعة دقائق، ليس لأنّني شعرتُ بشيء تجاهه ولكنّ قدومه كان يُواسيني وسط عزلَتي.

 

ولكن في إحدى المرّات حاول خليل إقناعي بالخروج:

ـ لن نكون لوحدنا... سأطلب مِن أختي مرافقتنا.

ـ لا! لن أخرج وأتسلّى بينما هشام راقذ في المدفن!

ـ يا نسرين... كان هشام يُحبّ المرح والفرح... كان إنسانًا مفعَمًا بالحيويّة... ولا أعتقد أنّه كان سيُريد رؤيتكِ هكذا... هيّا!

وقبِلتُ الدعوة لأنّني فعلًا كنتُ بحاجة إلى بعض الترفيه. وجلَسنا مع أخته إلى مائدة مطعم لطيف وعمِلا جهدهما لتسليَتي. ولكن قبل أن نغادر المكان، جاءَت نحونا امرأة شابة ومتبرّجة وقالَت لِخليل:

ـ أين أنتَ يا رجل؟ لم أرَك منذ تلك الليلة...


وعند سماع ذلك، إصفرّ وجه الرجل وتلبّكَ بشكل واضح وتمتم بضعة كلمات. ثم وقَفَ بِسرعة وأخَذَ المرأة بِذراعها وسحبَها بعيدًا.

ثم عادَ لِوحده وطلَبَ منّا أن نرحل. وفي طريق العودة لم يتفوّه خليل بِكلمة واحدة.

وبالطبع لم أفهم سبب تلبّكه، فقد كان خليل شابًا أعزبًا ولا بدّ له أن يكون على معرفة بإحدى النساء. لِذا سألتُه عن الأمر عندما اتصل بي بعد يومَين. أجاب:

ـ لا أحبّ أن ألتقي بأحد عندما أكون مع أختي.

ـ إمرأة جميلة وجذّابة... هل تنوي الزواج منها؟

ـ لا! أبدًا!

ـ ولِما لا؟ ألم يحِن الوقت لِتؤسّس عائلة؟ لقد بلغتَ الخامسة والثلاثين.

ـ دعينا مِن هذا الموضوع... لنعِد إليكِ... هل تحتاجين لشيء؟"

 

ومرَّت الأيّام بدون أن يحدث شيء يُذكر، حتى لعِبَت الصُدَف دورًا غيَّرَ حياتي بأسرها. أقول الصّدَف ولكن ربما عليّ أن قول القدر الذي قرَّرَ وضع نهاية للوضع المأساويّ الذي كنتُ فيه.

 

ففي ذات نهار وأنا في المصرف، دخَلَت المرأة التي رأيتُها في المطعم. كانت تريد سحب بعض المال مِن حسابها، فنادَيتُها قصدًا لأرى إن كانت مناسبة لخليل وأقنِعها بالزواج منه. وعندما جلسَت أمامي على الكرسيّ، أخبرتُها أنّني أعلم بِعلاقتها بخليل وأراهما مناسبين لِبعضهما. عندها أجابَتني:

ـ شاب لطيف للغاية ولكنّ علاقتنا ليسَت... جديّة... أعني أنّنا فقط أصدقاء... إن كنتِ تريدين الحقيقة كنتُ معجبة جدًّا بالشاب الآخر... ولكنّه مات...

ـ أيّ شاب آخر؟

ـ إبن عمّه".

وشعرتُ بِدَمي يتجمّد في عروقي ولكنّني بقيتُ متماسكة. وأضفتُ:

ـ مات؟ المسكين... وكيف؟

ـ لا تخبري أحدًا لأنّه كان متزوّجًا... يا لِغبائي... لماذا أقول لكِ ذلك؟ بالطبع لن تخبري أحدًا فكيف لكِ أن تعرفي زوجته؟

ـ صحيح... كيف لي أن أعرفها؟ تابعي... مِن فضلكِ.

ـ المتوفّي... أقصد المسكين كان يخرج مع صديقتي... وأنا مع خليل... نذهب نحن الأربعة إلى شقّة لِـ... فهمتِ قصدي...

 

ولكن في إحدى الليالي سمعنا أنا وخليل صرخة وركضنا إلى الغرفة المجاورة ورأينا الرجل وهو يصرخ مِن الألم... ومِن ثمّ مات... إتصل خليل بالإسعاف وانتهى كل شيء".

كيف استطَعتُ تمالك أعصابي عند سماع ذلك الحديث؟ لا أعلم. ربما لأنّني أردتُ معرفة كلّ الحقيقة قبل أن أحكم على زوجي. لِذا سألتُها:

ـ ومنذ متى وأنتما على معرفة بخليل وابن عمّه؟

ـ منذ زمن بعيد! الرجلان كريمان جدًّا... ويُحبّان المرح... المسكينة صديقتي... تفتّش الآن عن رفيق جديد... وأنا أيضًا، فمنذ تلك الحادثة لم أعد أرى خليل... لِذا ركضتُ أتحدّث معه في المطعم... لا تظنّي أنّني فتاة سيّئة! ولكنّ الأيّام صعبة...

- صعبة؟ لدَيكِ حساب مصرفيّ....

- ألم أقل لكِ إنّ صديقَينا كريمَان؟"

ورحَلَت المرأة واستطَعتُ أن أبكي على سجّيتي. أخذتُ حقيبة يدي وخرجتُ ركضًا مِن المصرف. وحبستُ نفسي أيّامًا طويلة لم يرَني أحد خلالها حتى أولادي. ومِن ثمّ طلبتُ مِن خليل المجيء. وفي تلك المرّة سمحتُ له بالدخول. وبعد أن جلَسَ مهمومًا سألتُه:

ـ منذ متى كان يخونني هشام؟

ـ ماذا؟ لا! ما هذه الأفكار السيّئة؟

ـ كفى كذبًا عليّ! قل لي الحقيقة وبكاملها وإلاّ أقسمتُ ألّا أتكلّم معكَ حتى آخر أيّامي! لا تنكر! لقد رأيتُ تلك المرأة وتحدَّثنا سويًّا وعلِمتُ منها أن هشام مات بين ذراعَي مومس!

ـ صحيح... لم أشأ تشويه سمعة إبن عمّي.

ـ ولكنّكَ لم تمانع أن أعيش بحزن عميق وأعزل نفسي عن العالم.

ـ بلى... لِذا كنتُ أتصل بكِ وآتي لرؤيتكِ... شعرتُ بالذنب تجاهكِ... فهشام لم يكن يُبادلكِ حبّكِ... صحيح أنّه كان يحترمكِ...

ـ يحترمني؟ يحترمني؟ يتركني أنا والأولاد لوحدنا في الليل ليذهب إلى المومسات؟

ـ أعني أنّه كان يُعاملكِ جيّدًا... لإسمعي أنا ابن عمّه وأقول لكِ اليوم إنّه لم يكن يستحّقكِ ابدًا... كنتِ تعيشين وهمًا كبيرًا وحزنكِ الزائد عليه قطّع قلبي وحرّكَ ضميري... ولكنّني لم أستطع قول الحقيقة خوفًا عليكِ.

ـ الحقيقة مهما كانت صعبة تحرّر الانسان... عن إذنكَ دقيقَتَين.

وقمتُ مِن مكاني، ودخلتُ غرفتي ولبستُ فستانًا ملوّنًا، وسرّحتُ شعري وعدتُ إلى الصالون وقلتُ لِخليل:

ـ الآن عدتُ إلى الحياة بعدما دفَنتُ نفسي مع هشام... الآن عدتُ إلى نفسي وإلى أولادي... أخرج الآن ولا تعد... لا أريد أن يُذكّرني شيء بِطريقة موت الذي بكَيتُه سدىً... إرحل!"

أن أقفلتُ الباب وراءه، نظرتُ إلى نفسي بالمرآة وأخذتُ نفسًا عميقًا... وانتظرتُ عودة الأولاد مِن عند جدّتهم ليفرحوا باسترجاع امّهم.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button