بالطبع تمنَّيتُ كسائر الناس أن أعيش طويلاً، لكنّني لم أتوقّع أنّ الأمر شبيه بلعنة ولا كلّ اللعنات. فحياتنا سلسلة أحداث مترابطة، تولّد حالات علينا تحمّل مسؤوليّتها ونتائجها، فتصوّروا أن يكون على المرء دفع ثمَن أفعاله لمدّة مئة سنة!
ها أنا في التاسعة والتسعين من عمري وبكامل عقلي، وأشعر كأنّ جسدي المُقعد سجين في غرفة بدار للعجزة، وكذلك ذكرياتي التي أتمنّى لو تُمحى إلى الأبد.
على مرّ السنين، خسرتُ كل مَن كان مِن حولي، البعض لأنّهم لم يعيشوا كفاية لمجاراتي بسنّي المتقدّم، والبعض الآخر لأنّهم سئموا منّي أو كرهوني أو غيّروا مسار حياتهم. وهناك مَن فقدتُه بسببي...
لستُ ولم أكن إنسانًا سيّئًا بل كنت مدلّلاً أكثر مِن اللازم. ففي تلك الأيّام، كانت ولادة الذكر بمثابة جائزة لأهله ومدعاة للفخر، وكان يُفرَض على الأنثى أن تتكرّس لخدمته وتتفانى في عملها. وهكذا أصبحتُ أحصل على كلّ ما أردتُه، إن كان منطقيًّا أم لا، وعلى أهلي ومحيطي أن يُلبّوا طلباتي. لم أكن أعي طبعًا ما أفعلُه، فلَم يقل لي أحد إنّ هذا غير جائز، بل شجعّوني على المواصلة. أنا هنا لا أبحث عن أعذار لِما فعلتُه لاحقًا، لكن على القارئ أن يعلم بأيّة أجواء وُلِدتُ ونشأت.
لم أكبر لأصبح شجاعًا لكثرة خوف أهلي على الذي مهمّته حَمل إسم العائلة، وبقيتُ في كنَف دافئ وأمين حتى صِرتُ أخجل مِن نفسي أمام رفاقي، وأدّعي أنّني مثلهم أهوى العراك والمواجهة. لكنّني كنتُ أفضّل الإنسحاب كلّما ضاقَ الخناق عليّ، و لم يتغيّر حالي حتى عندما كبرتُ.
بالرغم مِن الفقر الذي ولّدَته الحرب العالميّة الأولى، كنّا شبه أغنياء بفضل الأراضي التي كان يملُكها أبي وعمله في التجارة. كان لدينا أيضًا شقق هنا وهناك، وشاليه لطيف في أعلى الجبل نقصدُه خلال فترة الصيف لنهرب مِن حرارة المدينة. وفي تلك البلدة الجميلة، وجدتُ الحب.
كنتُ في السابعة عشر وهي تصغرني بسنتَين. كانت وفاء جميلة للغاية، وخجولة لا تجرؤ على النظر إليّ مباشرة بل تكتفي بالإبتسام وكان ذلك يكفيني، على الأقل في المرحلة الأولى.
صِرتُ أذهب إلى الشاليه ليس فقط في فصل الصيف لا بل في كلّ الفصول، لأرى وفاء وأكون قربها. كانت الطريق صعبة وطويلة لكنّني لم أكن أشعر بالتعب. بالطبع لاحَظَ الجميع حماسي للذهاب إلى الجبل، وشكّوا بوجود حافز قويّ لذلك، لكنّهم لم يتصوّروا أنّ التي ملكَت قلبي هي ابنة مزارعين بسطاء لا تليق بشاب سيدخل بعد أشهر أكبر جامعة ليكون له أفضل مستقبل.
لم أعلّق أهميّة على أصول حبيبتي المتواضعة، فكلّ ما كان يهمّني هو كيفيّة الحصول على قبلة منها، بعدما رضيَت أخيرًا أن تكلّمني وتوافيني سرًّا إلى مكان حيث لا يرانا أحد.
ولأنّ وفاء كانت أيضًا تحبّني وتفكّر بي ليلاً نهارًا، فقد قبِلَت بإعطائي القُبَل التي حلِمتُ بها. كنتُ أسعد شاب بالدنيا، لكنّ سرعان ما لَم يعد ذلك يكفيني. فالرّجال أينما كانوا وبأيّ عصر عاشوا لا يُحبّون كالنساء لمجرّد الحب، أعني أنّ لدَيهم طريقة مختلفة للتعبير عن مشاعرهم: الجنس.
دخلتُ الجامعة وصارَت مشاويري إلى الجبل قليلة بسبب دراستي، لكنّ حبّي لوفاء لم يضعف بل زادَ بسبب البُعد. لم يكن لدَينا آنذاك هواتف خلويّة للتخابر وشعرتُ بعزلة تامّة. وفاء، مِن ناحيتها بقيَت هي على العهد، وصارَت تنتظر قدومي بفارغ الصبر. وفي تلك الحقبة بالذات تقرَّرَ مصيرنا، لكن ليس بالطريقة التي تصوّرناها أبدًا.
في أوّل فرصة أُتيحَت لي، ركضتُ إلى حبيبتي، ولكثرة شوقنا لبعضنا، وافقَت وفاء على ملاقاتي في الشاليه. وهناك حصَلَ الذي لم يكن ينبغي أن يحصل. لكنّنا لم نكن نادمَين على شيء، لأنّنا، في تلك الليلة بالذات، إتّفقنا على الزواج.
وعندما عدتُ إلى المدينة، كنتُ إنسانًا سعيدًا للغاية. لم أفكّر بسنّي والمستقبل الذي أعدَّه لي أهلي، لم أفكّر سوى بوفاء ورائحتها الزكيّة وبشرتها الناعمة.
وحين أخبرتُ والدَيَّ عن نيّتي بالزواج مِن إبنة المزارع، ضحكا عاليًا، الأمر الذي أغضَبني كثيرًا. لم أكن أمزحُ أبدًا، بل كنتُ جدّيًّا للغاية، إلا أنّني واجهتُ رفضًا قاطعًا لم أحسب له حسابًا. فلطالما سمعتُ والدَيَّ يتكلّمون عن وجوب محو الفارق الإجتماعيّ بين الناس، وعن حبّهم للجميع وخاصّة للفقراء منهم. لكنّ ذلك كان كلامًا في الهواء، فحين شعروا أنّ "حامل إسم العائلة" سيقترن بإنسانة شبه أميّة أهلها لا أصل لهم ولا فصل، مانعا بكلّ قوّتهما وبدآ يُهدّداني بشتّى العقوبات.
أوّل شيء فعلاه كان التوقّف عن مدّي بالمال، أي أنّني لم أعد قادرًا على الذهاب إلى وفاء أو حتى التفكير بالزواج منها، لأنّني لم أكن سوى طالب جامعة لا مصدر رزق لي سوى مصروفي. مِن بعدها، حاصَرَني الجميع ولم أعد حرًّا بتحرّكاتي. بعثتُ رسالة مع أحد أصدقائي لوفاء لأُطَمئنُها كي لا تظنّ أنّني تخلّيتُ عنها.
يومها لم أعلَم أنّ الرسالة لم تصل لحبيبتي، لأنّ أهلي مارسوا على ذلك الصّديق ضغطًا كبيرًا.
مِن جهّتها، بقيَت وفاء مِن دون أخبار منّي واحتارَت المسكينة لأمرها، خاصّة أنّها وجدَت نفسها حاملاً منّي. نعم، كان القدر قد شاء أن تحمل مِن ليلتنا الأولى والوحيدة، وكأنّ مصيرها كان مرسومًا منذ البدء. فهكذا حدَث كان ولا يزال يُعدّ مصيبة كبيرة، لا بل عارًا لا يغسله سوى الزواج... أو الموت.
أعترفُ بأنّني مع الوقت بدأتُ أعتاد على بُعدي عن حبيبتي، لأنّني وجدتُ صعوبات كثيرة للتواصل معها، خاصّة أنّني لم أتلقَّ مِنها جوابًا على رسالتي وأنّ أبوَيَّ عرضا عليّ السفر إلى اوروبا لإكمال دراستي الجامعيّة. لوّحا لي بأفكار جميلة عن مدينة باريس الخلابة والفرَص التي تنتظرُني هناك. وانتهي بي المطاف باعتبار قصتّي مع وفاء مجرّد مغامرة لطيفة لا غد لها.
وهكذا طرتُ إلى فرنسا، ودخلتُ إحدى الجامعات الشهيرة وصارَ لدَيّ أصدقاء كثُر وكنتُ سعيدًا. بين الحين والآخر، كانت تمرّ صورة وفاء ببالي وكنتُ أبتسم لذكريات جميلة.
مرَّت السنوات وتخرّجتُ مِن كليّة طبّ الأسنان، وصارَت لي عيادة جميلة، لكنّ الحرب العالميّة الثانية اندلعَت بوحشيّة، وتمكّنتُ مِن العودة إلى البلد قبل أن أشهد مآسٍ كثيرة في فرنسا.
بعد رجوعي بأسابيع قليلة، خطَرَ ببالي أن أسأل عن وفاء، مُعتقدًا أنّها تزوّجَت وأنجَبت ونسيَتني كما نسيتُها، لكنّ خبرًا مُفجعًا غيّر حياتي إلى الأبد. كانت وفاء قد ماتَت على يد أهلها بعدما اكتشفوا أنّها حامل. وحدَثَ ذلك بعدما ارسلَني أهلي إلى الخارج بأيّام قليلة.
جلستُ أحدّق بالحائط أمامي، محاولاً إستيعاب الخبر بمختلف جوانبه. كانت حبيبتي تحمل إبني أو إبنتي، وهي دفعَت ثمَن حبّها لي بحياتها وحياة جنيننا. صحيح أنّني لم أكن على علم بحملها، لكنّني لم أفعل ما بوسعي للوصول إليها، وفضّلتُ الإستسلام أمام مُغريات حياة سهلة لا تتطلّب منّي التضحيات. ماتَت حبيبتي وكنتُ قد ساهمتُ في موتها. فلو علِمتُ بوضعها، لتزوّجتُها بالحال. لكن... هل كنتُ لأفعل ذلك حقًّا أو أنّني كنت قد هربتُ أيضًا بعيدًا؟ هل كنتُ جبانًا مدلّلاً لا يُفكّر إلا براحته؟
طلبتُ تفسيرًا مِن والديَّ اللذين اعترفا بأنّهما حالا دون وصول رسالتي إلى وفاء، لكنّهما أقسما لي أنّهما لم يكونا يعرفان أنّ وفاء حامل. لم أصدّقهما، وتدهورَت علاقتي بهما فذهبتُ أعيش لوحدي في إحدى شققنا. كانت ظروف الحرب قاسية ولكنّني استطعتُ العمل بمجال اختصاصي لأنّ ألم الأسنان لا ينتظر.
كنتُ في الخامسة والعشرين لكنّ حياتي كانت قد انتهَت، فما جرى بعد ذلك لَم يكن سوى أحداث لا طعم لها. قلبي ماتَ مع حبيبتي وجنينها واكتشافي لشخصيّتي التي صِرتُ أكرهُها.
حاولتُ أن أبنيَ عائلة لكنّني لم أستطع، فصرتُ أركّز على عملي ومساعدة الناس، ربمّا للتكفير عن ذنبي. قد تقولون إنّ شابًّا في الثامنة عشرة لا يعي أمورًا كثيرة وقد تكونون على حق، إلا أنّ خطئي كان مميتًا ولم أستطع مسامحة نفسي.
مع الوقت، ماتَ والدايَ ولم يعد أحد يجد نفسه مُجبرًا على الاهتمام بي، فأخواتي تزوّجنَ، وأصدقائي صاروا بعيدين بسبب أشغالهم وعدَم حبّهم لي. لم آسف على أحد بعد أن تعوّدتُ أن أعيش لوحدي مع ذكرياتي. لسنين، أمسَيتُ أكلّم وفاء وكأنّها موجودة معي، وأتصوّر أنّ لنا ابنة جميلة ألاطفُها وألاعبُها. لكنّني تداركتُ الأمر كي لا أغرق في الجنون.
بعد ذلك، صارَت أيّامي متشابهة ولم أعد أبالي بشيء.
جمعتُ الكثير مِن المال خلال حياتي، بفضل عملي الذي ازدهَرَ بشكل كبير، الأمر الذي ساعدَني على اختيار هذا الدار لأكمل فيه ما تبقّى مِن حياتي. أعلم أنّ الناس هنا سيعتنون بي جيّدًا، ربّما لأنّهم لا يعلمون ما فعلتُه. على كلّ حال، لا أنوي إخبارُهم بالأمر. كلّ ما أريده، هو أن أقضي ولو لفترة قصيرة مِن دون أن أفكّر بوفاء وبطفلتنا، أن أعيش كسائر الناس حتى مِن على هذا الكرسيّ المتحرّك. هل أستحقّ أن أعاقَب هكذا؟ أو بالأحرى أن أعاقِب نفسي خمسة وسبعين عامًا؟
حتى أخطر المجرمين يحقّ لهم أن يحصلوا على محامٍ ومحاكمة عادلة. أمّا بما يخصّني، فقد كنتُ المُتّهَم والقاضي والجلاد. هل كنتُ قاسيًا على نفسي؟ هل كان يحقّ لي طيّ صفحة الماضي والبدء مِن جديد، أم أنّ نسياني لوفاء كان بمثابة قتلها مِن جديد؟
حاورته بولا جهشان