توجّهتُ باكية إلى قسم الشرطة للتبليغ عن سرقة حقيبة يدي. فعندما كنتُ أتسوّق، هاجمَني لصّ بسرعة فائقة، وانتشلَ منّي الحقيبة التي تحتوي على أوراقي الثبوتيّة ومالاً وهاتفي المحمول.
حاولتُ مُقاومته مُتمسّكة بأغلى ما لدَيّ، لكنّ الشاب ركلَني ورماني أرضًا قبل أن يختفي في أحد أزقة العاصمة. إجتمع حولي الناس مواسين، واستعَنتُ بهاتف أحدهم للإتصال بالمصرف وإيقاف العمل ببطاقتي الإئتمانيّة قبل أن يستعملها اللص.
دخلتُ القسم وانتظرتُ دوري إلى حين أخَذَ أحد المحقّقين إفادتي لكنّه قال لي آسفًا: "لا أعدُكِ بأنّنا سنُمسِكُ بالفاعل يا آنستي، فإيجاد هؤلاء النشّالين صعب للغاية. لكن في معظم الأحيان يجدُ مواطن صالح الأوراق الثبوتيّة مرميّة في مستوعب للقمامة ويُعيدُها إلينا. أمّا بالنسبة للمال والهاتف، فمِن الأفضل أن تنسي أمرهما."
تأثرتُ كثيرًا بالذي حصَلَ لي مِن ضرَر معنويّ وجسديّ، وتعبتُ لإصدار أوراق ثبوتيّة جديدة وادّخار المال اللازم لشراء هاتف جديد، أي أنّني عانَيتُ مِن جشع إنسان كسول يريدُ العيش مِن تعَب غيره. لكنّني لَم أدرك حينها أنّ لهذه الحادثة أبعاد خطيرة. فالشاب الذي نشَلَ منّي حقيبتي فتَحَ هاتفي وتفرّجَ على صوَري كلّها... وصمَّمَ على الحصول عليَّ! كان الأمر سهلاً بالنسبة إليه، فقد كان بحوزته كلّ المعلومات التي تلزمه للحصول على عنوان سكني، ناهيكَ عن كلّ التفاصيل المُتعلّقة بي مِن خلال اللقطات المصوّرة مع أهلي وأقربائي في البيت والأماكن التي أتردّدُ إليها معهم. وعلى مرّ الأيّام، باتَ اللص مهووسًا بي ولا يُفكّرُ بشيء أو بأحد غيري. مِن جهتي، كنت قد تابعتُ حياتي واضعة ورائي ما حدَث.
سألتُ نفسي لاحقًا عمّا إذا كان لي دخلٌ في كل ذلك، فحياتي كلّها كانت مُسجّلة على هاتفي، ولأنّني كنتُ بحاجة، كمعظم الناس، إلى إبقاء تذكار دائم لكلّ لحظة مِن حياتي. لِما هذه الصوَر؟ فأنا لَم أتصفّحها بعد التقاطها ولكن لَم أمحُها. لماذا أمضي أيّامي حاملة معي ذكريات كانت موجودة في رأسي ولا تعني لي الكثير؟ هل وصَلَ الأمر بنا إلى أن نفلش أدقّ تفاصيل حياتنا هكذا؟ أهلي لَم يفعلوا ذلك حين كان الهاتف مُخصّصًا للتواصل فقط، وكانوا يلتقطون الصوَر بواسطة كاميرات يُرسلون أفلامها إلى التظهير ويحفظونها في البيت في ألبومات يتصفّحونها عندما يجتمع الأهل والأصدقاء.
بدأ السارق يتبعُني أينما ذهبتُ مِن دون أن أُلاحظه، فلَم أرَ وجهه عندما نشلَني لكثرة مهارته وتمرّسه بالنشل والقّبعة التي كان يرتديها. علِمتُ لاحقًا أنّه أمضى ليالي تحت نافذة غرفتي وهو يتصوّرُ نفسه في داخلها معي. وعندما أفكّرُ بذلك يقشعرّ بدني مِن كثرة خوفي واشمئزازي، وأشكرُ ربّي لأنّني لا أزال حيّة وقادرة على رواية قصّتي كي يتّعظ غيري ويحترس، أكانوا أناثًا أم ذكورًا.
يوم قرّرَ ذلك المهووس البدء بخطّته، كنتُ خارجة مِن الجامعة برفقة زميلاتي، ووصَلَ لاحداهنّ إلى هاتفها رسالة مكتوبة جاء فيها: "لقد وجدتُ حقيبة يد مُلقاة قرب مستوعب للقمامة وبداخلها أوراق ثبوتيّة لصبيّة إسمها هنادي وهاتف وجدتُ رقمكِ فيه. هل تعرفينها؟". صرخَت صديقتي مِن الفرح وزفَّت لي الخبر السار. إلا أنّني لَم أفرَح كثيرًا، فكما قلتُ سابقًا كنتُ قد استبدلتُ أوراقي وهاتفي، لكنّني قلتُ لنفسي أنّ لا ضرر مِن أن أسترجع ما هو لي، خاصّة تلك الحقيبة التي كنتُ أحبُّها كثيرًا. ردَّت صديقتي على الرسالة بأخرى تسألُ فيها المرسِل عن إمكانيّة الحصول على الأغراض. أعطاها الشاب موعدًا شرط أن تأتي صاحبة المسروقات إليه شخصيًّا كي يتأكّد مِن أنّني نفسها التي تظهر صورتها على بطاقة الهويّة. سألتُ نفسي لماذا لَم يأخذ السارق الهاتف الذي كان مِن طراز حديث، لكنّني نسيتُ تساؤلاتي سريعًا، فمَن يعرفُ كيف يُفكّر اللصوص؟
لَم أذهب لوحدي إلى الموعد بل اصطحبتُ تلك الصديقة التي كانت بغاية الحماس... والرومانسيّة، فهي قالَت لي بسذاجة: "مَن يدري، قد يكون ذلك الشاب، إلى جانب نزاهته، وسيمًا أيضًا... ربمّا أرسله الله إليكِ كهديّة ترضية". ضحكتُ لهذه الفكرة التي وجدتُها سخيفة لكنّها أعجبَتني أيضًا. وصلنا المكان المذكور ووجدنا شابًا واقفًا وبيَده حقيبتي. ولكثرة فرَحي، لَم أُلاحظ تحديقه فيّ بإمعان. لكنّ صديقتي همسَت لي: "أنظري إلى عَينيَه... يا إلهي إنّه مُخيف!". أجبتُها: "لا بل يريدُ معرفة إذا كنتُ صاحبة الحقيبة الحقيقيّة فهذه مسؤوليّة كبيرة عليه".
لكنّه بقيَ ينظرُ إليّ بطريقة مُريبة حتى بعدما سلّمَني أغراضي. ثمّ عرّفَ عن نفسه قائلاً إنّ إسمه مروان وإنّه يعمل نائب مُدير في شركة تجاريّة كبيرة. إستغربتُ الأمر لِصغر سنّه لكنّني لَم أتعمّق في الموضوع، فما شأني؟ يكفي أنّه كان نزيهًا وله حسّ بالمسؤوليّة. عرضتُ عليه مكافأة ماليّة مُتواضعة إلا أنّه قال لي:
ـ لا! هذه إهانة لي!
ـ أنا آسفة... سامحني أرجوكَ.
ـ حسنًا، لكن عليكِ التعويض لي عن الاساءة.
ـ ماذا تقصد؟
ـ أعني أن تقبلي دعوتي إلى العشاء.
ـ لا... لا تغضب منّي لكنّني لا أقبل هكذا دعوات.
ـ حسنًا، ما رأيكِ بفنجان قهوة في وضح النهار؟ فأنتِ مُدينة لي!
شعرتُ بالذنب فقد أهنتُه بعدما أعادَ لي ممتلكاتي، وقبلتُ دعوته شرط أن نذهب إلى مقهى إخترتُه بنفسي يقع قرب منزلي. عندما غادَرَ مروان أنّبَتني صديقتي لقبول دعوته، لكنّني أسرَعتُ بتذكيرها بنظريّتها بشأن هديّة الترضية التي بعثها لي الله. ولإسكاتها، إتّفقتُ معها أن تأتي إلى المقهى هي الأخرى وتجلس إلى طاولة بعيدة عن النظر ليطمئنّ قلبها. وأضفتُ: "ما الذي يُمكن أن يحصل لي في مكان عام خلال النهار وقرب البيت؟
لكنّني كنتُ قد استهَنتُ بعقل مروان المريض وسيرة حياته المُخزية.
في اليوم المذكور ذهبتُ وصديقتي باكرًا إلى ذلك المقهى، وهي جلسَت بعيدًا خلف أحد الأعمدة وانتظرنا قدوم مروان. كنتُ قد قرّرتُ أن أنهي الجلسة باكرًا بعذر الدراسة ولَم يكن بالي مشغولاً بتاتًا. وصَلَ الشاب حاملاً وردة حمراء أعطاني إيّاها قائلاً: "وردة لأجمل وردة. أنا متأكّد مِن أنّكِ تحبّين الورد الأحمر". كان كلامه صحيحًا وهو علِمَ ذلك مِن صوَري إلا أنّني لَم أعرف ذلك طبعًا. جلسنا نتكلّم عن الذي حدَثَ معي فقال الشاب:
ـ عليّ أن أشكر ذلك اللص فلولاه لمَا كنتُ جالسًا معكِ الآن.
ـ لا تقل ذلك فهو إنسان بغيض يجب مُعاقبته! إنّه شخص فاشل، لا طموح لدَيه إلا أن يستفيد مِن الظروف المؤاتية للإنقضاض على النساء... جبان!
ـ ما هذا الكلام؟!؟
ـ وما شأنكَ أنتَ؟ هل تُدافع عنه؟
ـ لا، أبدًا... أعذريني. لنعد إلى حديثنا، أعنّي عن قصّتنا أنا وأنتِ.
ـ أيّة قصّة؟ ليس هناك مِن "أنا وأنتَ"، كنتَ لطيفًا لإرجاع أغراضي إليّ وحسب.
ـ يعني ذلك أنّكِ لا تُريدين رؤيتي مُجدّدًا والدّخول في علاقة حبّ جميلة؟
ـ بتاتًا! مِن أين جاءَتكَ هذه الفكرة؟ دعني أرحل الآن فلدَيَّ دروس كثيرة. شكرًا على الأغراض.
أمسكَني مروان فجأة مِن معصمي بقوّة فامتلأت عَيناي بالدموع لكثرة ألَمي، وحين كنت سأصرخ قال لي بصوت خافت:
ـ إيّاكِ! فلدَيَّ سكّينٌ في جيبي ولن أتردّد في استعماله لو لزِمَ الأمر.
ـ سكّين؟!؟ كيف ولماذا؟ هل فقدتَ عقلكَ؟
ـ أجل، فقدتُه بعدما رأيتُ صوَركِ الجميلة... أنتِ لي ولي وحدي.
ـ أنتَ أسوأ مِن ذلك اللص!
ضحِكَ مروان وقال بفخر:
ـ أيتّها البلهاء... أنا الذي سرقتُ منكِ الحقيبة! هيّا، إمشِ معي نحو الباب ولا تفكّري بلَفت الإنتباه وإلا قتلتُكِ!
كان لا يزال مروان يُمسكُ بمعصمي بقوّة فامتثلتُ لأوامره. صلّيتُ أن تكون صديقتي قد لاحظَت إرتباكي، لكن عندما نظرتُ ناحيتها لم أجدها! يا إلهي... كانت قد تركَت المكان لسبب ما! عندها فهمتُ أنّني وحيدة ووقعتُ فريسة ذلك المريض.
مشينا نحو باب المقهى بهدوء، وشعرتُ أنّ رجليّ لن تحملاني لوقت طويل مِن كثرة خوفي. كنتُ أعلم أنّ لحظة خروجنا مِن المقهى لن يستطيع أحد انقاذي. لكن مِن جهة أخرى، أيّ حركة منّي قد تعني نهايتي.
وحصلَت المُعجزة! في لحظة واحدة إلتمّ عدد مِن الشبّان حول مروان، وأخذوا منه السكين الموجود في جيبه وضربوه بقوّة حتى استسلَم. وقبل أن أستوعبَ ما حصل، ركضَتَ إليّ صديقتي وعانقَتني بقوّة. عندها صرختُ بها:
ـ لقد تركتِني لوحدي مع الوحش! لقد تركتِني!
ـ أبدً يا حبيبتي... بل رحتُ أجلبُ المساعدة!
ـ كيف علِمتِ؟
ـ رأيتُ مروان وهو يُمسكُ شيئًا في جيبه، ورأيتُ الذعر على وجهكِ ففهمتُ أنّكِ في خطر. رحتُ إلى مدير المقهى وأخبرتُه بما يجري وهو نادى بعض الشبّان.
إقتيدَ مروان إلى القسم حيث حقّقوا معه وهو اعترفَ بكلّ شيء، وخاصّة أنّه كان ينوي خطفي وحجزي في بيته في الجبل. عندها طلَبني المُحقّق ليُخبرني بما جرى وأنّ الفاعل صارَ في السجن. عندها قلتُ له: "لقد وجدنا السارق، على خلاف توقّعاتكَ، أليس كذلك؟". ضحكنا سويًّا، لكنّ ضحكتي كانت تخفي هلعًا كبيرًا مِن الذي كادَ أن يحصل لي.
الله كان فعلاً يُحبّني، فهو أرسلَ تلك الصديقة الوفيّة والذكيّة لتحميني وتُنقذني. ومنذ ذلك النهار، لَم أعد أستعمل هاتفي إلا للتكلّم، وخذفتُ صفحاتي عن مواقع التواصل الإجتماعيّ. فمَن يدري مَن قد يطّلع على سيرة حياتي... وما تراها تكون العواقب؟
حاورتها بولا جهشان