كان كريم قد ردَّدَ عاليًا ومرارًا أنّه سيُّحبُني لِشخصي وكياني، وأنّه لن يُحاول تغيير شيء فيّ، لأنّني كنتُ، حسب قوله، رائعة كما أنا. لكنّ هذه الشعارات الجميلة لَم تصمُد أشهرًا قليلة، فحالما ألبسَني خاتم الخطوبة بدأ يُظهرُ وجهه الحقيقيّ.
لِحسن حظّي لَم أكن مِن اللواتي تتقبّلنَ أيّ شيء خوفًا مِن كلام الناس، لِذا فسختُ خطوبتي قبل فوات الأوان. فذلك الشاب صارَ إنسانًا لا يُطاق، يحرمُني مِن رؤية صديقاتي وحتى قريباتي، ويُخطّطُ لإقناعي بِترك عملي وبَيع سيّارتي بعد الزواج. أيّ أنّه أرادَ تغيير كلّ شيء فيّ... وسَجني معه. علِمتُ باكرًا أنّ كريم مريض نفسيّ، فالذي يُريدُ استملاك شخص آخر ليس طبيعيًّا. وكانت أيضًا هناك تلك النظرة المُخيفة التي كانت تظهرُ على وجهه كلّما عاندتُه.
فيوم تركتُه كان يومًا مُباركًا... لكن أيضًا يومًا ملعونًا. فما لَم أكن أعلمُه بعد، هو أن تَرك إنسان مريض أمر صعب للغاية ومُكلف.
عندما قلتُ لكريم إنّني لَم أعُد أريدُه، لَم يُبدِ استياءً كبيرًا، بل بقيَ هادئًا وحاوَلَ معرفة ما الذي يدفعُني إلى تركه. عندها شرحتُ له أنّني لستُ مستعدّة للعَيش كما هو يُريد، بعدما غيَّرَ كلّ مبادءه وقراراته، وباتَ ينوي سجني حتى آخر أيّامي. فأنا لَم أقضِ سنوات طويلة في الجامعة لأرمي جانبًا شهادتي القيّمة، وأجلسُ في البيت طوال النهار مِن دون وسيلة تنقّل أو رفقة صديقاتي. أضَفتُ أنّ فتيات كثيرات تروق لهنّ هذه الحياة، أمّا أنا فلا. إنتظرتُ منه أن يقول لي إنّه سيعمل على تقبّلي وملاقاتي في وسط الطريق، إلا أنّه اكتفى بالنظر إليّ بتمعّن ومِن ثمّ تَمتمَ: "ستغيّرين رأيكِ". لَم أعلّق على جملته هذه التي اعتبرَتُها سخيفة بعد كلّ الذي شرحتُه له.
ثمّ استعدَّيتُ لبدء حياتي مِن جديد، أي مِن دون كريم، ولَم تكن الفكرة تُزعجُني، فقد كان لدَيّ الكثير لأفعلُه بعد أن أعطَيتُ مُعظم وقتي لرجل أنانيّ وعنيد. وقد شعرتُ بحريّة لا توصف وكأنّ أحدًا فتَحَ باب قفصٍ كان قد ضاق عليّ، وانكبَبتُ على عمَلي لأنّه كان ضمانتي الوحيدة لمستقبل مُريح. خلال الفترة الأولى، لَم يُحاول كريم قط الإتصال بي للتأثير على قراري أو حتى الإطمئنان عليّ، فردَدتُ الأمر إلى زعله مِن تركي له وأملتُ أن يزول غضبه لأربحه كصديق.
بقيَ كريم صامتًا ومُختفيًا عن الأنظار أكثر مِن سنة، أي إلى حين بدأتُ أواعد شابًّا وسيمًا وخلوقًا ونويتُ الإرتباط به رسميًّا. كيف علِمَ خطيبي السّابق بمشاريعي؟ لستُ أدري، إلا أنّه بعَثَ لي رسالة على هاتفي تقول: "إيّاكِ أن تتزوّجي من غيري فأنتِ لي. وإن فعلتِ، ستمسين أرملة بعد يوم واحد على زفافكِ." ومع أنّ رقم المُرسِل كان مجهولاً، علِمتُ فورًا أنّه كريم.
خفتُ قليلاً، لكن ليس مِن محتوى الرسالة بل مِن لهجتها، وخوفي هذا لَم يكن مِمّا بإمكان كريم فعله بل مِن الذي كان سيفعله بي لو لَم أتركه. فذلك الرّجل كان مُختلاً، ومَن يدري ربّما كان خطرًا.
لَم أخبر خطيبي بأمر الرّسالة، فأنا لَم أرِد أن ينشغل باله مِن دون فائدة، لِذا تابعتُ تنظيم فرح كبير وجميل. كان موعد الزفاف قد اقترَبَ، وكنتُ، كسائر العرائس، طائرة مِن الفرَح، وكنتُ أريدُ أن يكون كلّ شيء كما خطَّطتُ له. إلا أنّ شيئًا غير مُنتظر حصَلَ وقلَبَ حياتي بلحظة.
فقد جاء خطيبي إليّ شارحًا أنّه غير قادر على المواصلة معي، أي أنّ علينا إلغاء زواجنا وفرحنا. خلتُه يمزح، لأنّنا كنّا مُتحابّين جدًّا ولَم يحصل بيننا أيّ شجار أو مُناكفة. وعندما سألتُه عن سبب أخذه هذا القرار الخطير، أجابَني:
ـ صحيح أنّني أحبُّكِ... لكنّني أحبّ نفسي أكثر... أنا آسف... الوداع.
عندها فهمتُ أنّ كريم هدَّدَ مُباشرةً خطيبي، لكنّني لَم أتقبّل خوف هذا الأخير وعَدم قراره المضيّ بالزواج بالرغم مِن التهديدات. إعتبرتُه جبانًا وعملتُ على نسيانه، وبسرعة.
أمّا بِما يخصّ كريم، فقد كنتُ مصمّمة على إيقافه عند حدّه، لكنّه لم يُجِب على رقمه عندما اتصلتُ به ولا على الرّقم الذي استعمله ليبعث لي برسالة التهديد. لِذا، قرّرتُ الذهاب إليه، أي إلى بيت أهله حيث يسكنُ. لكنّ والدة كريم قالَت لي إنّها لَم ترَ ابنها منذ أشهر، لأنّه إنتقل ليعمل في مدينة أخرى وهي على تواصل معه فقط هاتفيًّا. عندها طلبتُ منها رقم إبنها، لكنّها رفضَت، ربمّا لأنّها كانت مُستاءة منّي بعد انفصالي عن كريم. لكنّها عادَت وأعطَتني الرّقم لكثرة إصراري. وعندما اتصلَتُ به، لَم يتفوّه بكلمة واحدة لكثرة تفاجئه بي، الأمر الذي أعطاني الفرصة لإفهامه بأنّ عليه الإبتعاد عنّي والكفّ عن العبَث بحياتي الشخصيّة وإلا اشتكَيتُه للشرطة. كانت نبرة صوتي جدَّيّة للغاية وأقفلتُ الخط فور انتهائي مِن الكلام.
بالطبع حسبتُ أنّ كريم أدركَ أنّني جدّيّة، ولن أقبلَ منه التدخّل بشؤوني بعد ذلك، لِذا نسيتُ أمره وتابعتُ اهتماماتي كعادتي.
حياتي العاطفيّة بقيَت معدومة لِحوالي الثلاث سنوات، ليس لأنّني كنتُ خائفة مِن كريم، بل لأنّني اشمأزَّيتُ لأقصى درجة مِن تصرّف خطيبي، الأمر الذي غيّر نظرتي إلى الرجال عامّة. لكنّ الحبّ كان بانتظاري للمرّة الثالثة بشخص مهنّد، وهو رجل جدّيّ وقويّ ونزيه، أي أنّه يمتلكُ كلّ الصفات اللازمة لإذابة الجليد عن قلبي.
وبعد فترة مِن المواعدة، طلَبَ مهنّد يدي ووافقتُ. إلا أنّ رسالة جديدة مِن كريم وصَلَتني، يُهدّدني فيها كما فعَلَ في المرّة الأولى. فلَم يكن كريم ليقبل بأن أتزوّج مِن غيره يومًا.
في تلك المرّة قرّرتُ أخذ الموضوع بجدّيّة أكثر والتصرّف قبل فوات الأوان. ذهبتُ إلى قسم الشرطة وأخبرتُ المحقّق كلّ شيء وأرَيتُه الرسائل الهاتفيّة. طمأنَني الرجل ووعدَني بأنّه لن يدَع أحدًا يعبثُ بحياتي. لَم أقل شيئًا لحبيبي لكنّني طلبتُ منه عدَم رؤيتي كثيرًا، مُتحجّجة بالتقاليد التي تقول إنّ على العريس أن يشتاق لعروسته قبل الزفاف. كنتُ خائفة عليه ومِن أن يتصرّف كالذي سبَقَه ويهرب منّي. صحيح أنّ مهنّد كان رجلاً شجاعًا لكنّني لَم أعد أثق بمرؤة أحد.
مرَّت الأيّام ببطء، وخفتُ أن يكون قد نسيَني المُحقّق أو استخفّ بقضيّتي، لِذا زرتُ القسم مُجدّدًا. هناك قال لي الرّجل:
ـ لَم أنسَكِ يا آنسة، لكنّ الموضوع أكثر تعقيدًا ممّا تصوّرنا. فالحقيقة أنّ السيّد كريم قد توفّيَ منذ مدّة.
ـ ماذا؟ متى وكيف؟!؟
ـ منذ حوالي الأربع سنوات، في حادث سيّارة.
ـ لكنّني أتلقّى رسائل منه ولقد كلّمتُه عبر الهاتف.
ـ أي أحد يُمكنُه إرسال تهديدات، فأمر كهذا ليس بالصّعب. أمّا بالنسبة لِمَا تقولين عن مكالمتكِ معه، فهل تبادلتما الحديث فعلاً؟
ـ للحقيقة لا... فقد سارعتُ بالقول له أن يتوقّف عن تهديدي ومِن ثم أقفلتُ الخط. ولكن... لو ماتَ كريم كما تقول، لماذا لَم تُخبرني أمّه بالأمر ولماذا أعطَتني رقمه؟
ـ هذا ما أنوي اكتشافه.
ـ ما الذي عليّ فعله بانتظار اكتشافكَ الحقيقة؟ فأنا خائفة على مهنّد.
ـ حاولي الإبتعاد عنه ريثما نجدُ الفاعل. سأستدعي خطيبكِ السّابق الذي تلقّى تهديدًا حمله على تركَكِ، فقد تُساعدنا إفادته.
تركتُ القسم خائبة، وعملتُ جهدي لإبقاء مهنّد بعيدًا عنّي، وخفتُ أن يظنّ أنّني لَم أعُد أريدُه أو أنّني وجدتُ حبيبًا آخرًا.
كان موعد زفافي قد اقترَبَ ولَم أسمع أيّ خبر مُطَمِئن، فانتابني خوف شديد. هل كان مكتوبًا لي أن أبقى عزباء طوال حياتي بسبب تركي لكريم؟
لكن بعد أيّام قليلة، جاءني الفرَج أخيرًا. فذات مساء، دقّ بابنا مهنّد، مع أنّني كنتُ قد طلبتُ منه عدَم المجيء، إلا أنّه لَم يأتِ لوحده بل بصحبة المُحقّق. كانت البسمَة واضحة على وجه خطيبي حين عانقَني وقال لي بحنان:
ـ لقد انتهَت مشاكلكِ، يا حبيبتي.
ـ أنتَ على علِم بما يحصل لي؟
ـ أجل، فلقد اتّصل بي المُحقّق وطلَبَ منّي المُساعدة، إذ كان لا بدّ له أن يُمسكَ الفاعل بالجرم المشهود. فبعد أن حقّقَ مع خطيبكِ السابق، علِمَ منه أنّ رجلاً إتّصل به مُدّعيًا أنّه كريم وأعطاه موعدًا ليُخبرُه أمورًا تتعلّق بكِ قد تمنعُه مِن الزواج منكِ. راح المسكين إلى الموعد وإذ بأحد يُهاجمه ويُبرحُه ضربًا ويأمرُه بعدم الزواج منكِ أو حتى التعاطي معكِ. وهذا تمامًا ما حصَلَ لي، ولكن بفرق واحد، هو أنّ الشرطة كانت موجودة معي حين رحتُ إلى الموعد.
ـ يا إلهي! هل أنتَ بخير؟؟؟
ـ كان الرجل بانتظاري ولَم يحسب حساب وجود عناصر الشرطة الذين ألقوا القبض عليه على الفور.
ثمّ أكمَلَ المحقّق:
ـ الرجل الذي بحوزتنا الآن هو أخ كريم. فهو وأمّه لَم يتقبّلا موضوع موت كريم وفعلا ما بوسعهما لمَنعكِ مِن الزواج.
ـ لكنّه لَم يمت بسببي بل كما تقولون بحادث سيّارة.
ـ صحيح ذلك، إلا أنّ عائلة كريم رأت أنّ عليكِ دفع الثمَن والبقاء مِن دون زواج طوال حياتكِ.
ـ هم أناس مرضى!
ـ بالفعل. الرأس المدبّر هو الأم التي أقسمَت أن تقلب حياتكِ إلى جحيم، وأوكَلت إبنها الصغير بملاحقتكِ على مدار الساعة ومعرفة كلّ تحرّكاتكِ. لَم يعد هناك مِن خوف عليكِ يا آنسة ويُمكنكِ الزواج مِن هذا الشاب الشجاع!
نظرتُ إلى مهنّد وخجلتُ مِن نفسي، لأنّني شكَكتُ بشجاعته وحبّه لي.
أنا اليوم متزوّجة ولدَيّ إبن جميل، ولا يزال أخ كريم في السجن، إلا أنّه سيخرجُ بعد أقلّ مِن شهر. هل سيُعاودُ تهديدي وتخويفي؟ لا أبالي كثيرًا لأنّ زوجي سيتكفّل حتمًا بحمايتي.
حاورتها بولا جهشان