قلب أمي الأسود

حتى عمر الثانية، بقيتُ أعتقد أنّ خالتي سامية هي أمّي، ربّما لأنّني لمَستُ منها العاطفة التي افتقَدتُها عند والدتي. صحّحوا لي خطئي، لكنّني حفَظتُ في قلبي ذلك الشعور، وصِرتُ أنتظرُ بفارغ الصّبر قدوم سامية إلينا. وكنتُ أتسلّقُ الكنبة وأجلسُ في حضنها ولا أبارحه إلى أن ترحل.

أمّي، التي كانت تبتسم عند رؤية ذلك المشهد، باتَت تنزعج مِن سَلب مركزها مِن قِبَل أختها، ولم تعد تحبّ رؤيتي بجانبها وصارَت تخترع شتّى الأعذار لفصلي، على الأقل جسديًّا، عن خالتي.

لكنّ مخطّطات والدتي لم تنجَح، وبقيتُ أحبّ سامية بشكل عظيم وهي لم تكفّ عن مبادلَتي هذا الحبّ.

وأنا متأكّدة مِن أنّ محاولات والدتي لتزويج أختها، كان هدفها الأوحد التخلّص منها وليس، كما ادعَت آنذاك، الإطمئنان على مستقبلها. إلا أنّ سامية لم تحبّ أيًّا مِن العرسان الذين تقدّموا لها، الأمر الذي زادَ مِن غضب والدتي تجاهها، معتبرةً ذلك تحدّيًا لسلطتها كونَها الأكبر والمتزوّجة بينهما. للحقيقة، لم يكن أحد ينزعج مِن تصرّفات خالتي أو يرى في الأمر شيئًا غير اعتياديّ، فمِن المعلوم أن تهتمّ الخالات هكذا بأولاد أخواتهنّ، وأذكر أنّ أبي حاوَلَ في احدى المرّات التخفيف مِن حدّة غضب أمّي حيال الموضوع، وقد سمعتُها تقول له بانفعال:

 

ـ هذه الفاجرة تحاول خطف ابنتي منّي... أعرفُها جيّدًا، فلطالما أحبَّت أن يلتَفّ الكلّ حولها، إلا أنّني لن أدعُها تفلِتُ منّي هذه المرّة!

 

ـ أنتِ تبالغين! عليكِ أن تفرحي بأن تكون أختكِ مهتمّة هكذا بابنتنا. إلى جانب ذلك، وجودها مع صغيرتنا يُتيح لكِ المجال للإهتمام بأشياء أخرى. أقدّر سامية كثيرًا و...

 

ـ أنتَ أيضًا؟!؟

 

ـ لا تُسيئي فهمي، أرجوكِ! أقصد أنّ تلك الصبيّة إنسانة خلوقة وتتميّز بفرح دائم... يا ليتكِ تتمثلين بها وتبتسمين أكثر.

 


كانت تلك الجملة الأخيرة بمثابة حافز جديد لأمّي لكره خالتي أكثر، وشعرتُ بأنّ الآتي سيكون قبيحًا، كقلب والدتي. فالجدير بالذكّر أنّ أمّي لم تكن إنسانة مُحبّة، بل تحملُ في داخلها خوفًا إنقلَبَ إلى كره وغيرة وعدَم الثقة بنفسها. فبالنسبة إليها، الكلّ كان يتآمر ضدّها للحطّ مِن شأنها. ولو كنتُ أكبر سنًّا آنذاك، لنصحتُها برؤية طبيب نفسيّ لترتاح وتُريح مَن حولها. لكنّني كنتُ طفلة لم تتجاوز الخامسة، أي عاجزة عن التدخّل في الأحداث التي تلَت.

بعد فترة ليست بطويلة، علِمنا بذعر أنّ سامية ذهبَت "خطيفة" مع شاب مِن القرية المجاورة. الكلّ تفاجأ لأنّ خالتي لم تكن على علاقة بأحد، ولَم يرَها أحد تكلِّم شابًا قط. البعض اتّهمَها بالخبث، بمَن فيهم أمّي التي قالَت إنّ أختها لطالما كانت إنسانة غامضة تخطّط سرًّا لنَيل مبتغاها. أبي لم يُصدّق الخبر، لِذا أخَذَ خالي وقصدا منزل "العريس". عندما وصلا، لم يجدا أحدًا فراحا إلى بيت أهله حيث وجدوا خالتي باكية وشاكية مِن أنّ أناسًا خطفوها وقالوا لها إنّها ستتزوّج مِن شخص لم ترَه في حياتها. كان مِن الواضح أنّها تقول الحقيقة، إلا أنّ التقاليد آنذاك كانت صارمة على المرأة، وكان مِن شبه المستحيل إعادتها إلى بيتها، خاصّة بعدما أكَّدَ لهما أهل الشاب أنّ سامية قضَت ليلة بكاملها معه. فبالرّغم مِن توسّلات سامية لأخيها وأبي، عادَ الرّجلان حزينَين، لأنّهما علِما في قرارة نفسَيهما أنّ المسكينة كانت صادقة.

عندما رجَع أبي إلى البيت ورأى كيف كانت أمّي فرحة للأمر، علِمَ على الفور أنّ لها دخلاً بما جرى لأختها، وسمعتُهما يتشاجران بقوّة.

بعد ذلك اليوم، تغيّرَت نظرة والدي إلى زوجته وانكسَرَ شيء بينهما إلى الأبد.

لكنّ والدتي لم تبالِ، فقد انتصَرت على أختها، حتى لو كان ذلك يعني تدمير حياتها، وقرّرَت الإنجاب مجدّدًا كتتويج لمكانتها كأمّ تحافظ على صغارها. لكنّ أبي رفَضَ قطعيًّا وأظنّ أنّه لم يعد قادرًا على معاشرتها لكثرة اشمئزازه منها.

كانت تصلُنا أخبار مِن سامية مفادها أنّها ليست سعيدة، وكنتُ بغاية الحزن مِن أجلها. تصوّروا حالتي بين أمّ شرّيرة وأبٍ بالكاد يُكلّمُها وخالة سجينة زواج لم تُرِده! كانت لياليّ مليئة بالأحلام المُزعجة، وبتُّ أخاف مِن زعل والدتي منّي كي لا تُرسلني بعيدًا بحجّة ما.

ماتَت جدّتي، والدة أمّي، وأظنّ أنّ الذي سرَّعَ بموتها كان حزنها على سامية، لكنّها، على ما أعتقد، لم تعلَم أنّ ابنتها البكر هي وراء تلك المصيبة. تزوّجَ خالي بدوره وراحَ يسكن بعيدًا... عن أخته الشرّيرة. لكن فقدان كلّ عائلتها لم يُؤثّر بأمّي، بل أعطاها سلطة أكبر عليّ وعلى أبي.

بعد سنتَين، إستطَعتُ الحصول على رقم هاتف سامية التي لم تكفّ عن محاولة التكلّم معي. فكلّما اتّصلَت بالبيت، كانت أمّي تقول لها إنّني إمّا نائمة أو خارج البيت. لِذا قصدتُ منزل صديقة لي ومِن هناك تمكّنتُ أخيرًا مِن سماع صوت خالتي والإطمئنان عليها. بقيتُ أفعل ذلك لسنوات مِن دون أن تدري والدتي بما يجري، وإلا لكانت وجَدَت طريقة لمَنعي مِن التواصل مع أختها. وحتى اليوم، لا يسَعُني أن أفهم كليًّا حجم كره والدتي لإنسانة لَم تفعل لها شيئًا غير أنّها أحبَّت ابنتها.

تابعتُ أخبار سامية مع أنّها لم تكن تعطيني تفاصيل كثيرة عن ظروف حياتها، كي لا تُحزِن قلب فتاة في سنّي. لكنّني كنتُ أدركُ مدى تعاستها، خاصّة بعدما أنجَبت مِن زوجها، الأمر الذي قضى على فرصتها بالرّحيل.

مِن جهّته، كان أبي يُحاول هو الآخر، الرّحيل بعيدًا عن زوجة شرّيرة لا تحبّ سوى نفسها. لِذا أخَذَني جانبًا وقال لي:

 


ـ حبيبتي... لدى الكبار مشاكل قد لا يفهمُها الصغار... لم أعد قادرًا على العَيش مع أمّكِ، لكنّني لن أترككِ لوحدكِ معها لأنّني أعلم ما بمقدورها أن تفعل بكِ للإنتقام منّي. أريدكِ أن تأتي معي لأنّكِ تستحقين أن تعيشي طفولة طبيعيّة ومراهقة سليمة. سأهتمّ بكِ كما يجب، أي بعيدًا عن تدخّلات إمرأة غير متّزنة. ما رأيكِ؟

 

أظنّ أنّ ما سمعتُه مِن أبي كان أجمل خبَر على الإطلاق. بالطبع كنتُ موافقة على "الهروب" معه، لأنّني لم أعد أحتمل الجوّ الثقيل والمزعج الذي كان سائدًا في البيت بسبب طباع أمّي البشعة.

وفي أحد الأيّام، مرّ أبي بالمدرسة حيث كنتُ أنتظرُه، وانطلَقنا سويًّا وعلى وجهنا ابتسامة ارتسَمَت على وجه كلّ سجين فرّ مِن سجنه بعد أن أشتاق إلى حرّيّته.

أستطيع تخيّل وجه والدتي حين اتّصَلَ بها أبي ليقول لها إنّني برفقته وإنّنا لن نعود أبدًا. بدأَت حتمًا تغلي غضبًا، لأنّنا تفوّقنا عليها بعد أن خالَت أنّها الأذكى، وأنّها تستطيع إدارة حياة مَن حولها على هواها. لكنّها لم تسأله إن كنتُ بخير، بل كيف ستعيش هي مِن دون مدخول. طمأنَها أبي بأنّه لن يُطلّقها وبأنّه سيُرسل لها المال شهريًّا وبأنّها ستبقى تسكنُ في البيت حتى مماتها. هي اكتفَت بذلك، واقفلَت الخط مِن دون أن تطلب حتى التحدّث معي.

لم يخذلني أبي يومًا بل عمِلَ جهده لإسعادي. سكنّا في شقّة صغيرة غير بعيدة عن مسكننا القديم كي أستطيع الذهاب إلى المدرسة نفسها حيث هم أصدقائي. وأوّل شيء فعلناه هو زيارة خالتي التي قبّلَتني ألف قبلة وبكَت مِن الفرح. وبقينا نزورُها باستمرار، وألاعبُ أولادها الذين اعتبَرتُهم أخوَتي.

بعد حوالي السنتَين، عرّفَني والدي إلى سيّدة جميلة وهادئة وقال لي إنّها ستكون زوجته الجديدة، هذا إن كان ذلك يُناسبني. أحبَبتُ تلك السيّدة التي عاملَتني بلطف ومحبّة، خاصّة أنّها كانت تعلم قصّتي وكم أنّ أبي متعلّق بي ويُصرّ على أن أكون مرتاحة وسعيدة.

عشتُ سنوات جميلة، وكِدتُ أنسى أمّي التي لم تحاول معرفة شيء عن مصيري، حتى ذلك اليوم حين أخبرَني أبي أنّها مريضة جدًّا ومِن المُستحسَن أن أزورَها في المشفى. كنتُ في السّادسة عشرة مِن عمري، وأصبحتُ أفهم بالناس وبالحياة أكثر مِن قَبل، لِذا قصدتُ المشفى على أمل أن أجد عند والدتي بعض الحنان الذي حَرَمَتني منه.

لكنّ والدتي لم تتغيّر ولم يُؤثّر بها المرض أو معرفتها بأنّها لن تعيش طويلاً. وبدلاً مِن ملاقاتي بفرح ومحبّة، بدأَت تعاتبُني وتُلقي عليّ اللوم على ما حصل، أي إبعاد خالتي ورحيل أبي.

مدَدتُ يدي للأخذ بيدها، لكنّها سحَبَتها منّي ونظَرَت إليّ بغضب لَم أتصوّره ممكنًا. خرجتُ مِن المشفى باكية، لأنّني أدركَتُ أنّ التي جاءَت بي إلى الدّنيا لم تكن تحبّني، وأنّ الموت الذي يُداهمها لم يُليّن قلبها المتحجّر.

ماتَت والدتي بعد أسبوعَين، وأقَمنا لها مأتمًا كبيرًا كي لا تشمت بنا الناس، ومِن ثمّ عُدنا إلى حياتنا التي كانت بالفعل أفضل مِن دونها.

لم تُنجب زوجة أبي، واعتَبرَتني ابنتها بكلّ ما للكلمة مِن معنى، وأنا عاملتُها وكأنّها أمّي، وكان أبي أسعد الرجال بين امرأتَين عرفتا كيف تكون العائلة الحقيقيّة. يا لَيت أمّي فهَمت ذلك، لَما حصَلَت كلّ تلك المصائب، إلا أنّ النفس البشريّة سوداء أحيانًا وتغطّي باسودادها قلب حاملها وكلّ مَن يُحيط به. ويلزم الكثير مِن الحبّ لإضافة شيء مِن الأمل على غد أكلَه الحقد والكره.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button