قصّة خالي العجيبة

كنتُ في العاشرة مِن عمري يوم عادَ خالي عماد مِن إفريقيا، وركضتُ وأمّي لاستقباله، فهو كان بالنسبة لي بمثابة أسطورة لكثرة الأخبار التي وصلَتني عن مُغامراته في تلك القارّة. فالسفَر آنذاك كان صعبًا، خاصّة إلى الأماكن البعيدة والغامضة حيث طريقة العيش والتقاليد غريبة للغاية بالنسبة إلينا. هناك إستقرَّ خالي، وبعد عناء شديد تمكَّنَ مِن تأسيس عمَل تحوَّلَ إلى مصدر ثروة، وصارَ يبعثُ لنا المال والفواكه الغريبة العجيبة وتماثيل وأقنعة مصنوعة مِن الخشَب والعاج. وأذكرُ بالتحديد إحدى تلك الأقنعة الملّونة التي علّقَتها أمّي على حائط الصالون، والتي تسبَّبَت لي بكوابيس عديدة إذ أنّني تصوّرتُها، لصغر سنّي، أنّها تنظرُ إليّ كيفما مرَرتُ مِن أمامها.

جلَسنا في بيت جدّي واستمَعنا لأحاديث خالي العديدة، وحدّقتُ فيه جيّدًا إذ أنّني لَم أرَه شخصيًّا مِن قَبل بل فقط مِن خلال الصوَر. إلا أنّني لاحظتُ عليه كلامه السريع وتوقّفه المُفاجئ عن الكلام بين الحين والآخر مِن دون سبَب. عندها كان يسودُ سكوت غريب أربكَني. ردَّت والدتي الأمر عند عودتنا إلى الارهاق بسبب السفَر ونسيتُ الأمر بسرعة.

وبما أنّ خالي عماد كان قد عادَ إلى البلَد بصورة دائمة ومعه ثروة تكفيه مدى عمره، إنتقَلَ مِن بيت أهله الفارغ إلى منزل ضخم إشتراه بعدما عاشَ فيه كبار الأغنياء عبر السنوات. كنتُ أعرفُ ذلك المنزل الشبيه بالقصر، إذ كنتُ أقفُ أمامه كلّما مرَرتُ بالقرب منه، وأتصوّر نفسي أميرة جميلة أتمشّى في حديقته وأشمّ رائحة وروده الزكيّة. فتصوّروا فرحتي حين رحنا نزورُ خالي في مسكنه الجديد!

فتَحَ لنا الباب رجل أفريقيّ إسمه "بكاري"، كان قد جاء وعائلته مع خالي ليخدمه بعد أن قضى سنوات عديدة إلى جانبه. دخَلنا البيت الجميل حيث علّقَ خالي زينة أفريقيّة وأثاثًا خشبيًّا مُميّزًا. كان مِن الواضح أنّه أرادَ البقاء في الأجواء نفسها، وكان ذلك مفهومًا.

وجدَت أمّي أخاها شاحب اللون وقليل الحركة، فسألَته إن كان بخير فأجابَها بأنّه لَم يشعر بأفضل حال. ثمّ جاءَت إمرأة إفريقيّة وقدّمَت لنا القهوة والفواكه اللذيذة الملوّنة بألف لون... وسادَ السكوت. كان الأمر مُزعجًا للغاية، ومرَّت دقائق طويلة حين قال عماد وهو يُحدّق في إحدى الأقنعة المُعلّقة على الحائط:

 

ـ إنّهما مِن دمي... إبقَ بعيدًا عنهما.

 


كان قد قالَ ذلك بهدوء تام، لِذا خلتُ أنّ المشهد لَم يحصل سوى في مُخيّلتي حتى رأيتُ وجه أمّي ونظراتها لأخيها. لَم أحلَم إذًا، كان خالي قد كلَّمَ جدّيًّا قناعًا خشبيًّا! ثمّ عادَ الرجل إلى طبيعته وأكمَلَ حديثه معنا عن إعادة هندسة الحديقة. أسرَعنا بالعودة إلى البيت، وطوال الطريق لَم تتفوّه والدتي بكلمة مع أنّ كان لدَيّ مئة سؤال لها. وحين كنّا على وشك دخولنا بيتنا قالَت أمّي:

 

ـ إيّاكِ أن تتفوّهي بكلمة عمّا حصَلَ... خاصّة لأبيكِ فهو يغارُ مِن نجاح عماد وثروته وينتظرُ أقلّ فرصة ليشمتَ به.

 

ـ لكن... ما بال خالي؟

 

ـ لستُ أدري، لستُ أدري... إنسِ الموضوع نهائيًّا!

 

إنشغَلَ بالي لأيّام طويلة، إلى حين دعانا خالي كلّنا لتناول وجبة العشاء في قصره. حاولَت والدتي التملّص مِن تلك الدعوى لأسباب باتَت معروفة لدَيّ، إلا أنّ أخاها بقيَ مُصرًّا. وهكذا رحنا إليه.

كان المكان مُظلمًا ومُضاءً بالشموع والشعلات، ربمّا لخَلق أجواء إفريقيّة، وكانت هناك موسيقى غريبة شبيهة بقرع طبول خفيفة. بكلمة، خلتُ نفسي حقًّا في بلد مِن بلاد القارّة السوداء لكنّ شيئًا لَم يكن مُطَمئنًا أبدًا. وحده أبي كان على سجيّته، أي يُطلقُ الدعابات ويسألُ مئة سؤال.

كان العشاء لذيذًا وغريبًا في الوقت نفسه، قدّمَته المرأة نفسها وزوجها وفتاة صغيرة إستنتجتُ أنّها إبنتهما. ثمّ انتقَلنا إلى صالون صغير وهناك حصَلَ ما لن أنساه في حياتي.

فبعد أن قُدِّمَت القهوة، سكَتَ خالي فجأة، كما حصَلَ في المرّة السابقة، وحبسَت أمّي أنفاسها ونظرَت إليّ، قبل أن يقومُ عن كرسيّه ببطء ويتوجَّهَ إلى تمثال خشبيّ كبير ويضَعَ يدَه عليه قائلاً:

 

- دَعني أبقى لدقائق بعد... فلَم يحن الوقت ولدَيّ ضيوف... أرجوكَ... دقائق قليلة.

 

ولحظة ما انتهى مِن الكلام، وقَعَ عماد أرضًا، وانتابَته تشنجّات عنيفة وبدأَ يُتمتِم كلمات بلغة غريبة. ركَضَ أبي ليُسعفه إلا أنّ أمّي بقيَت جالسة مكانها، الأمر الذي استغربتُه. وفي غضون لحظات، دخَلَ "بكاري" وزوجته وحملا خالي إلى غرفته ليرتاح وطلبا منّا الرحيل بِحَزم. حاوَلَ والدي طلَب طبيب لأخ زوجته، إلا أنّ الثنائيّ أكّدا له أنّ خالي سيكون بخير وأنّه لا يحتاج سوى لبعض الراحة.

لَم يشمُت أبي بِخالي كما تصوّرَت أمّي بل حزِنَ مِن أجله، فكان مِن الواضح أنّ الرجل يُعاني مِن خطب ما، وبدأ يستعرضُ الإحتمالات العديدة التي سبَّبَت لِعماد تلك العوارض. إحداها كان طبعًا السحر الأسود. كان الأمر قد خطَرَ ببالي، لِذا ارتجفتُ حين سمعتُ كلمة "سحر" وبدأَ قلبي يدقُّ بسرعة. عاتَبت أمّي زوجها لذكر هكذا أمور أمامي، إلا أنّ الضّرَر كان قد حلّ: صرتُ أرى كوابيس مُخيفة للغاية أثناء نومي وأستفيق صارخة. ولقد سكَنت تلك الأقنعة والتماثيل المُخيفة عقلي بصورة دائمة، ولعَنَت والدتي ساعة عودة أخيها مِن السفَر.

لَم يعُد يزورُ أحد خالي عماد بعد أن مَنَعَ خادمه دخول البيت لأيّ كان، وخفتُ أن يكون هو وعائلته وراء داء خالي، فقد كان هؤلاء الناس يتصرّفون بغموض تام وكأنّهم يملكون المكان ولا يعملون فيه. أبي كان مِن رأيي واقترَحَ أن نطلُب الشرطة لاقتحام المكان وإنقاذ عماد مِن مخالبهم وسحرهم. وحدها أمّي لَم تكن خائفة على ما يبدو على أخيها، ووعدَتنا بأن تذهب إلى القصر للإطمئنان عليه. كنتُ أريدُ مُرافقتها مع أنّني كنتُ خائفة جدًّا، إلا أنّ فضولي كان الأقوى. لكنّها منعَتني مِن ذلك، فقرّرتُ اللحاق بها خفيةً.

دخلَت والدتي بيت عماد، وبعد دقائق قليلة رحتُ أنقرُ على باب البيت المُخصّص لعائلة الخدَم الموجود في آخر الحديقة. فتحَت لي الفتاة الصغيرة وابتسمَت لي بعد أن تذكّرَتني جيّدًا. طلبتُ منها إدخالي البيت الكبير خلسةً، بِلغة الحركات إذ أنّها لا تُجيدُ لغتنا، وهي ضحكَت بحماس ظانةً أنّها لعبة ما. أخذَتني بيَدي إلى باب خلفيّ يؤدّي إلى مطبخ كبير ثمّ اختفَت. لحقتُ صوت أمّي لأجدها جالسة في الصالون مع خالي، فاختبأتُ خلف الحائط وسمعتُ حديثهما:

 

ـ هل تشعر بتحسّن يا أخي؟

 

ـ أجل، أجل، لا تُشغلي بالكِ.

 


ـ كيف لا أشغلُ بالي وأنتَ أخي الوحيد؟ لماذا عُدتَ؟ كان يجدرُ بكَ البقاء هناك.

 

ـ عندما بدأتُ أسمع الأصوات، خفتُ أن يعلَم أحد بما يحصل لي.

 

ـ فجئتَ إلى البلَد ليَعلَم الناس هنا ما بكَ؟!؟ تصرّف غير مسؤول يا عماد.

 

ـ أريدُ أن أكون بين أهلي، فما أمرُّ به صعب للغاية.

 

ـ وتفضَح سرّنا؟!؟ كان لدَينا إتّفاق، أنسيتَ؟

 

ـ لا أستطيع تمالك نفسي، فالأمور تفلِتُ مِن بين يدَيّ شيئًا فشيئًا. تلك الماسكات والتماثيل تُكلّمُني وتطلبُ منّي أشياءً... ولا يسعُني سوى الإنصياع إليها.

 

ـ نعلّمُ جيّدًا السبب، لِذا كان عليكَ البقاء بعيدًا. ماذا سأقولُ لعائلتي الآن؟

 

ـ لقد حبستُ نفسي في البيت لهذا السبب، أعدُكِ بأنّ لا أحد سيعلمُ شيئًا، أعدُكِ بذلك يا أختي. لكن عديني أنتِ بألا تكفّي عن زيارتي، فأنا خائف للغاية. صحيح أنّ "بكاري" وعائلته يهتمّون بي لكنّكِ أختي.

 

ـ تعلَم ما عليكَ فعله تمامًا... إيّاكَ أن تتوقّف عن أخذ "الوصفة".

 

لَم أصدِّق أذنيَّ! أمّي تتعاطى السحر الأسود؟!؟ خابَ ظنّي بها كثيرًا، وللحقيقة خفتُ منها أيضًا وسألتُ نفسي كيف لي أن أعيشَ مع تلك المرأة تحت سقف واحد.

لكنّ والدتي شعَرَت بوجودي خلف الحائط وأمسكَتني بيَدي صارخة:

 

- ماذا تفعلين هنا؟!؟ هل سمعتِ حديثنا؟

 

أفلتُّ منها وحاولتُ الركض خارجًا، إلا أنّ "بكاري" لحِقَ بي وحملَني إلى الصالون. خلتُ حقًّا أنّ هؤلاء القوم سيقضون عليّ كي لا أفضَحَ سرّهم، وبدأتُ بالبكاء والصراخ:

 

- لا تقتلوني! لن أقول شيئًا لأحد! أرجوكم!

 

إقتربَت منّي أمّي ونظرَت إليّ بتعجّب ممزوج بحزن كبير وقالَت لي:

 

ـ لن يؤذيكِ أحد يا حبيبتي... لماذا هذا الخوف الشديد؟ فأنا أمّكِ!

 

ـ أنتِ ساحرة ولقد مارستِ سحركِ على خالي المسكين!

 

ـ لا تكوني غبيّة يا حبيبتي، فليس هناك مِن شيء إسمه سحر ولستُ أبدًا ساحرة. خالكِ ليس مسحورًا بل هو مريض بالأعصاب.

 

ـ مريض؟ ولماذا الأسرار؟ ما العَيب بأن يكون الإنسان مُصابًا بداء ما؟

 

ـ كيف أقولُ لكِ ذلك... مرَض خالكِ وراثيّ... كانت أمّي، رحمها الله في الحالة نفسها ولقد مرَّرت داءها لإبنها... إنتهى بها المطاف في المصحّة إلا أنّنا أخفَينا الأمر عن الناس، أو هكذا أرادَ المرحوم أبي كي لا يخاف أحد مِن الزواج منّي. لاحقًا هو بعَثَ بِعماد بعيدًا قبل أن تظهر عليه علامات المرَض، بعد أن بدأ يشعر ببعض الاضطراب. فذلك المرض هو بطيء التطوّر. إسمعي... لا يجب أن يعلم أحد بما اكتشفتِه، فقد يظلمُكِ الناس حين تكبرين، صدّقيني.

 

ـ مّما يشكو خالي بالتحديد؟

 

ـ مِن اضطراب نفسيّ حاد، فتظهر له أمور غير واقعيّة ويُغمى عليه مِن شدّتها. إسم الداء صعب عليكِ يا حبيبتي، فاكتفي بذلك.

 

ـ قولي لي... هل سأُصابُ به أنا الأخرى؟

 

ـ لستُ أدري يا حبيبتي... لستُ أدري. للحقيقة، تردّدتُ كثيرًا قبل أن آخذ قرارًا بالإنجاب وربمّا كان عليّ الإمتناع عن ذلك، لكنّ أباكِ أصرَّ عليّ كثيرًا. قبِلتُ معه بشرط أن نأتي إلى الدنيا بطفل واحد فقط. لا تُفكّري بالموضوع بل ثقي بحكمة ربّنا.

 

مرَّت على تلك الحادثة عشرون سنة تقريبًا ولَم أفقُد عقلي، والحمد لله، لكنّني لَم أُنجِب عن قصد، خاصّة بعدما رأيتُ ما حصَلَ لخالي في آخر أيّامه. فالمسكين لَم يعُد يعي أين هو وماذا يفعل، فوُضِعَ في مؤسّسة خاصّة للأمراض العقليّة حيث مات. ورثتُ القصر بعدما تنازلَت عنه أمّي، عالمة كَم أحبُّ ذلك المكان. وأنا أعيشُ فيه مع زوجي الحبيب وإبنه. وقد إختَرتُه لدَيه ولد عن قصد، فكيف لي أن أحمَل وأُدمّر حياة مخلوق بريء؟ ولا أخفي عنكم أنّني أنتظرُ بين الحين والآخر أن أسمعَ أصواتًا وأرى أشياءً غير موجودة، وتلك الفكرة تُرعبُني كثيرًا!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button