في الوقت المُناسب...

كان عليَّ رفض الزواج مِن مُعين لأنّني بكلّ بساطة لَم أكن أحبّه، لكنّ عائلتي أجبرَتني على ذلك. فهم كانوا ينتظرون منّي أن أردّ الجميل لهم، جميل جَلبي إلى الدنيا وإطعامي وتعليمي، وكأنّني مَن طلَبَ منهم ذلك. أرادوا أن يُزوّجوني لرجُل يُغيّر مصيرهم، ويرفعُ مِن شأنهم ويفتخرون به مِن خلالي. أمّا بالنسبة لي، فأرَدتُ أن أجِد الحبّ بشخص رجُل صالح وحنون، مهما كان وضعه. للحقيقة، أرَدتُ ذلك الشاب الذي سَرقَ انتباهي وتفكيري وقلبي، لكنّه كان فقيرًا وعلِمتُ مُسبقًا أنّه سيُرفَض مِن قِبَل عائلتي. لِذا لَم أُبادِله الكلام ولو مرّة، مع أنّني كنتُ أراه يوميًّا تقريبًا وأنا ذاهبة إلى الجامعة وأمرُّ قرب المحلّ الذي يعمَل فيه. كان جاد يقفُ عند الباب في الوقت الذي يوافِق مروري وينظرُ إليّ بإمعان. مئة مرّة هو ألقى عليّ التحيّة، إلا أنّني كنتُ أكتفي بالنظر ناحيته وأكمِل طريقي، لأنّني سألتُ عنه وقيلَ لي إنّه يعيشُ في شقّة صغيرة مع أمّه المريضة وبالكاد كان راتبه يكفيه. علِمتُ أيضًا أنّه لا يملكُ شهادة جامعيّة، لأنّه اضطرّ أن يوقِف دراسته بسبب حالة والدته الصحّيّة التي تتطلّب مصاريف كبيرة. هو كان بنظَري الشاب المثاليّ، لكنّ رأيي لَم يكن يهمّ بقدر رأي أهلي. ألَم يُنجبوني ويملكوني؟!؟

أمّا بالنسبة لمُعين عريسي، فهو كان أكبر منّي سنًّا بأكثر مِن عشرين سنة وورِثَ مصنعًا للبلاط ضخمًا، فكانت أعماله ناجِحة للغاية. هو لَم يكن وسيمًا بالمعنى التقليديّ، بل لدَيه كاريزما واضحة ويعرفُ كيف يجذبُ الناس إليه بنظراته وكلامه المعسول. لكنّه لَم ينجَح باستمالة قلبي له، بالرغم مِن مُحاولاته العديدة. أرادَني مُعين فقط لأنّني جميلة وشابّة وفقيرة، فهكذا كان بإمكانه السيطرة عليّ لأنّه، كما اتّضَحَ لي لاحقًا، كان يخاف مِن النساء الناجِحات والمُنحدِرات مِن عائلات ثريّة. رجُل ضعيف مِن الداخل يفعلُ جهده للتعويض عن ذلك بإظهار قوّة وسيطرة مِن الخارج.

حفل زفافنا كان ضخمًا وحضَرَه الكثير مِن الناس، وفعلتُ جهدي لأبدو سعيدة بعدما هدّدَتني أمّي، وصوّرَت لي أيّامًا سوداء لو أفشَلتُ تلك الزيجة. أمّا بالنسبة لأبي، فكان يتركُ هذه الأمور لزوجته، ويكتفي بتذكيري كَم هو صرَف عليّ منذ ولادتي. إخوَتي كانوا مُتحمّسين لزواجي مِن مُعين، بعد أن وعدَتهم أمّي بأنّ زوجي سيُغطّيهم بالمال، فبدأوا يحلمون بتحقيق أمنياتهم لحظة قلتُ "نعم" لمُعين. أيّ انّهم جميعًا تاجَروا بي... ليسامحهم الله!

ليلة زفافي كانت خيبة أمَل كبيرة بالنسبة لي. فعريسي اكتفى بإشباع رغباته في غضون دقائق قليلة، وشعرتُ أنّه لَم يَعِ لوجودي معه، بل اعتبرَني مُجرّد وسيلة لِلذّته. تكرَّرَ الأمر نفسه خلال زواجنا بأكمله.

بعد زواجنا بشهر واحد، سافَرَ مُعين إلى الخارج لإنشاء معمل آخَر، وبقيَ هناك لستّة أشهر. للحقيقة لَم أشتَق إليه، بل ارتَحتُ مِن وجوده، وتذوّقتُ أوقاتًا هنيئة لوحدي أو مع عائلتي وأصدقائي. أعترفُ أنّني مرَرتُ بالقرب مِن المحَلّ الذي يعمَل فيه جاد، إلا أنّني لَم أرَه خارجه أو داخله، فشعرتُ بالحزن. لَم أكن أنوي التحدّث إليه، بل فقط رؤيته، وكأنّني عدتُ إلى فترة ما قَبل الزواج. فكنتُ أعلَم أنّ حياتي تغيّرَت إلى الأبد وأنّني لن أكون سعيدة.

عادَ مُعين أخيرًا وفعَلَ جهده لأحمَل منه... قَبل أن يعود ثانيًا إلى الخارج. لماذا أرادَ ولَدًا منّي إن هو لَم يكن مُهتمًّا بي كفاية لتوكيل أحَد غيره للقيام بأعماله في المصنع الجديد أو أخذي معه حيث هو؟ ما نفع زواجه منّي؟

إنتهى المطاف بي حامِلاً طبعًا، وشعرتُ بأنّني لَم أعُد وحيدة في ذلك البيت الكبير. بل واساني الجنين الذي كان في بطني، وأعطاني أمَلاً في غَد أفضل. عادَ زوجي قَبل موعد الولادة بأيّام قليلة، أيّ بعد أن كبَّرتُ جنينه لوحدي ومرَرتُ أيضًا لوحدي بكلّ مراحل الحَمل المُزعجة. أتى ليقطُف ثمرة مُعاشرتي لبضع ليالٍ، فقبَّلَ ابنه الرضيع وعادَ أدراجه. عندها فهمتُ أنّ حياته لَم تكن معنا أو لنا، بل لعائلة أخرى هو حتمًا أسّسَها في الخارج. لَم تكن لي دلائل على ذلك، إلا أنّ الأمر كان واضحًا تمامًا. واسَتني أمّي قائلة: "وما الخطب في ذلك؟ أليس يبعثُ زوجكِ لكِ ولابنكِ المال الوفير؟ ألَم يترك لكِ هذا البيت الجميل؟". فهي لَم تفهَم أنّني بحاجة إلى زوج ورفيق وابني إلى أب، بل كان همُّها الوحيد المال الذي أتقاسمه معهم جميعًا. ولَمّا فكّرتُ بطلَب الطلاق، إجتمَعَ أهلي وقرّروا أنّهم سيمحوني مِن حياتهم إلى الأبد لو أقدَمتُ على مشروعي. فضّلتُ التراجع، فخسارتي لهم كانت مؤلمة.

بقيَ مُعين يأتي ويذهب مرّة أو اثنتَين في السنة، ويجلب لي ولابنه هدايا باهِظة لَم نكن بحاجة إليها حقًّا. وكبرَ ابني وانا أيضًا وكان قلبي مليئًا بحزن لا مثيل له. تزوّجَ كلّ أخوَتي بعد أن ساهَمتُ بشكل كبير بزيجاتهم وأنجَبوا وسعِدوا في حياتهم.

بعد عشر سنوات على زواجي مِنه، توفَّي مُعين في الغربة، وتبيّنَ أنّه بالفعل كان مُتزوّجًا هناك ولدَيه عائلة. تقاسَمنا الميراث وحصلتُ على المصنع هنا في البلد والمنزل والمال الموجود في حسابه المصرفيّ، أيّ أنّني صرتُ ثريّة. تكاثَرَ الأحبّاء والأصدقاء مِن حوَلي، حتّى الذين نسيتُ وجودهم، فأبعدتُهم الواحد تلوَ الآخَر، فمالي كان أيضًا مال ابني الذي سيحتاجه لدراسته، ولاحقًا لتثبيت نفسه في عالم الأعمال. ولن أدَع أحدًا يحرمه منه، لا أحَد!

بعد أن هدأَت أحوالي قليلاً، بعثتُ مبلغًا مِن المال إلى جاد وأمّه مِن دون أن يعلَما هوّيتي. فعلتُ ذلك لأنّهم فقراء وبحاجة إلى المال لعلاج العجوز... ولأنّني لَم أنسَ ذلك الشاب اللطيف والوسيم. علِمتُ أنّه رفَضَ في البدء أخذ المال إن لَم يعرِف اسم المُرسِل، لكنّه اقتنَعَ أخيرًا بأنّه بحاجة ماسّة له. وبقيتُ أبعَث له المال بصورة شهريّة وبالسرّيّة التامّة.

أوكَلتُ إدارة المصنع إلى الذي كان يُديره أثناء غياب زوجي، فلَم أكن قادرة على ذلك طبعًا، وصمَّمتُ على أن يأخذَ ابني الشعلة منه حين يكبر، إن أرادَ ذلك. ثمّ خطَرَت ببالي فكرة... أرسلتُ الشخص نفسه الذي كان يُسلِّم المال لجاد شهريًّا ليقول له إن وظيفة جيّدة شاغِرة في مصنع البلاط، مِن دون أن يعلَم جاد طبعًا أنّني صاحبته. أوصَيتُ المُرسِل بأن يُقنعه بأن يُقدِّم ترشيحه، وألا يعود إليّ مِن دون أخبار إيجابيّة. لماذا فعلتُ ذلك؟ ربّما لأُغذّي حُلم قصّة حبّ لَم تولَد لتنتهي، وأُساعِد في آنٍ واحد شابًّا طيّبًا على تركيز مُستقبله. لَم تكن في نيّتي أن يعرفَ جاد أنّني وراء المال والوظيفة، فإقامة علاقة معه لَم تخطُر ببالي على الاطلاق. للحقيقة، كان مُعين قد جعلَني أكرَه الرجال والزواج مِن جرّاء مُعاملته لي، وكلّ ما همّني كان ابني الحبيب.

قَبِلَ جاد بتقديم ترشيحه في المصنع، وبتوصية منّي للمُدير تمّ قبوله كعامِل عاديّ، بوعد أن يحصل على ترقيّة في حال كان أداؤه جيّدًا. حصَلَ الشاب على راتب جيّد يُساعده على الاستغناء عن مُساعدتي الشهريّة إن هو شاء ذلك.

ثمّ قرَّرَ أهلي أنّ عليّ إيجاد زوج آخَر، لكن هذه المرّة وقفتُ في وجههم، فكان لدَيّ ما أساوِم به: المال! تريدون ازعالي أو التحكم بي أو التدخّل بشؤوني... حسنًا، سأقطعُ المال عنكم! هدأوا جميعًا ونسوا الموضوع. على كلّ الأحوال، لَم أكن أبدًا مُستعدّة لتدمير حياتي مرّة أخرى مِن أجل أهلي أو الناس. فكنتُ قد صِرتُ سيّدة قويّة ذات عزيمة صلبة وأمًّا شرِسة! إبقوا بعيدًا عنّي وولدَي وإلا...!

ذهبتُ إلى المصنع بانتظام لأرى جاد عن بُعد وهو يعمَل، وكان قلبي يمتلئ فخرًا كلّما قال لي المُدير إنّه شاب رصين ويعمَل بجدّيّة وتفانٍ. وفي إحدى المرّات، علِمتُ أنّ والدته المسكينة توفّيَت. حزِنتُ كثيرًا فكان مِن الواضح أنّه يُحبّها للغاية وشعرتُ، عن بُعد، بالذي يمرّ به. بعد ذلك بقليل، رفَضَ جاد أخذ المال الذي كان يصلُه مِن قِبَلي، فهو قال للذي يحملُ له المبلغ: "لا داعٍ لذلك بعد الآن، فلقد ماتَت أمّي ولدَيّ عمَل جيّد. أُشكُر فاعل ذلك الخير كثيرًا، فلولاه لفقَدتُ والدتي منذ زمَن... وكلّ يوم إضافيّ قضَيتُه معها كان هبة مِن الله". ذرفتُ الدموع لدى سماعي ذلك، وفرِحتُ لأنّني لَم أُخطئ الاختيار بمُساعدته. بعد فترة، حصَلَ جاد على ترقية في المصنع وصارَ مسؤولاً عن مجموعة مِن العمّال، لكن كلّ شيء تغيّر حين رآني في المصنع صدفة. ركَضَ إليّ بسرعة مُبتسِمًا وسائلاً: "أنتِ أيضًا تعملين هنا؟!؟". إضطرِرتُ للكذِب عليه فأجبتُه أنّني أعمَل في قسم المُحاسبة.

ومنذ ذلك اليوم، صِرنا نلتقي يوميًّا أثناء فرصة الظهيرة ونأكل ونتكلّم سويًّا. أخبرتُه أنّني تزوّجتُ آنذاك، أي حين لَم أعُد أمرّ قرب المحل وهو فهِمَ أخيرًا سبب اختفائي. أرَيتُه صوَر ابني وهو أراني صوَر أمّه، ونمَت بيننا علاقة جميلة بقيَت ضمن جدران المصنع. فكنتُ قد فهِمتُ كيف هو عقله وتفكيره، وأدركتُ أنّه لن يقبَل بأن أكون التي ساعدَته وصاحبة مقرّ عمَله. لَم أشأ فقدانه، فسكتُّ وادّعَيتُ أنّني لا أزال مُتزوّجة. وحده مُدير المصنع لَم يكن موافقًا على ما أفعله، فهو نصحَني بإخبار جاد الحقيقة وعَيش قصّة حبّ حقيقيّة، خاصّة أنّه كان يعرفُ زوجي جيّدًا وكيف أنّه كان جافًّا وأنانيًّا، وأنّه تزوّجَ عليّ وأنجَبَ. ففي نظره كان يحقّ لي أن أكون سعيدة وبالأخصّ مع إنسان كجاد. للحقيقة، إضافة إلى الذي ذكرتُه أعلاه، كنتُ خائفة مِن السعادة، فحتّى ذلك الحين كنتُ قد تعوّدتُ على العَيش مِن دون عاطفة وحبّ رجُل لي، وكنتُ أحسبُ نفسي بخير. فلماذا أجلبُ لنفسي خَيبة أمَل جديد؟ على كلّ الأحوال، لن يقبَل جاد بي أبدًا.

... ثمّ اختفى جاد!

يا إلهي، أين هو؟!؟ سألتُ الجميع في المصنع عنه، لكن ما مِن أحَد علِمَ لماذا هو لَم يأتِ للعمَل. أرسَلتُ إليه الشخص نفسه الذي كان يوصل له المال، إلا أنّ ما مِن أحَد فتَحَ له عندما قرَع بابه. إتّصَلتُ بالمُستشفيات كلّها، فقد يكون قد حصَلَ له مكروه، لكنّه لَم يدخل أيًّا منها. بكيتُ كلّ دموعي وتوقّفتُ عن الأكل لكثرة انشغال بالي. مرَّت الأيّام والأسابيع، إلى حين اعترَفَ لي مُدير المصنع أنّه أخبَرَ جاد الحقيقة. بدأتُ أصرَخُ فيه بقوّة وفكّرتُ بطرده، إلا أنّني هدأتُ بينما قال لي الرجُل إنّه فعَلَ ذلك مِن أجلي. لكنّه لَم يتوقّع أبدًا أن يختفي جاد هكذا. هذا ما كنتُ خائفة منه تمامًا، فكبرياء جاد لَم يسمَح له بالبقاء لحظة واحدة في مصنعي، بعد أن أدركَ حتمًا أنّني مَن أرسَلَ له المال له ولأمّه بصورة مُنتظمة.

هل أنّ مصير الناس مُرتبِط ببعضه بشكل وطيد ولا ندري ذلك؟ فذات يوم، بينما كنتُ أمشي في شوارع المدينة المُجاوِرة لشراء غرَض لا يُصنَع إلا في ذلك المكان، رأيتُ جاد داخل أحَد المحّلات!!! وقفتُ مكاني وبقيتُ أنظرُ إليه إلى حين استدارَ ورآني. وقَفنا هكذا لدقائق ثمّ هو خرَجَ مِن المحلّ ووقَفَ كما كان يفعل في ما مضى، فقلتُ له وصوتي يرتجِف: "أراكَ هنا كلّما أذهبُ إلى جامعتي... ما اسمكَ؟". ضحِكَ جاد لأنّه فهِمَ أنّني أُصلِحُ الماضي، ربّما لأنّها فرصتنا الأخيرة. ثمّ أجاب: "أراكِ أيضًا مارّة مِن هنا.... للحقيقة، أنا أنتظرُكِ يوميًّا، لكنّكِ تدّعين أنّني غير موجود". أخذتُ نفَسًا عميقًا وقلتُ: "ربّما لأنّه لَم يكن مكتوبًا آنذاك أن نكون سويًّا، أمّا اليوم...". مدَدتُ له يدي وهو قبّلَها والدموع تملأ عَينَيه فسحبتُه إلى سيّارتي وقدتُ به بعيدًا.

اليوم جاد هو زوجي وأب ابنتي الصغيرة التي أنجَبناها، وأب بديل لابني، وحياتي مليئة بالحب والسعادة. أؤمِن بقوّة بتدخّل القدَر بقصّة حبّنا، وبأنّ جاد لطالما كان الرجُل المُخصَّص لي وأنا المرأة المُخصّصة له. كان التوقيتُ خطأ آنذاك، لكنّنا أعَدنا عقارب الزمَن إلى الوراء وتمكّنّا مِن بناء حبّنا في الوقت المُناسب.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button