فكّرتُ بالانتحار بِسبب وزني الزائد

عندما ولدتُ نلتُ اعجاب الجميع بسبب بنيَتي القويّة وخدودي الكبيرة وأصبَحتُ الطفلة المفضّلة في العائلة. ولكن مع مرور السنين بدأَت تتغيّر نظرة الناس حيالي. ففي المدرسة وأينما ذهبتُ كنتُ أسمع مِن قِبَل الأولاد تعليقات مؤذية كَ"عليكِ التخفيف مِن الأكل وإلاّ انفجَرتِ" أو"لا أريد الجلوس إلى جانبها فهي تأخذ محلَّين." وكنتُ أتألّم بِصمت وأحبس نفسي في غرفتي لأبكي على سجيّتي. وأصبح الذهاب إلى المدرسة مشقّة لأنّني كنتُ أعرف ما ينتظرني طوال النهار. واختَرتُ أن أجلس في آخر الصف كي لا يلاحظني أحد أو أسمع الهمسات التي كانت تدور حولي. وكانت علاماتي تشبه حالتي النفسيّة أي متدنيّة وكنتُ أنتقِل بِصعوبة مِن مرحلة إلى مرحلة.

وعندما بلغتُ سنّ المراهقة وبسبب الهرمونات، زادَ وزني وامتلأَ وجهي بِحَب الشباب وكأنّني أعاقب على شيء لم أفعلَه.

وبالطبع حاولتُ حميات عديدة ولكنّني لم أنجح في تنزيل ولو كيلو واحد لأنّني كنتُ قد ورثتُ سمنَتي مِن جدّتي رحمها الله. كانت هي الأخرى ضخمة جدّاً ولكنّها كانت تعيش في عصر مختلف حيث السمنة كانت تُعتبَر ميزة يبحث عنها الرجال. ولكنّ الأيّام وللأسف تغيّرَت وباتَت النساء النحيفات يحظَيَنَ بالرهجة كلّها.

كان لدَيّ صديقات قليلات ولكنّني لم أعد أراهنّ كثيراً لانشغالهنّ بالشبّان كما يحصل غالباً في هذا السن. حاولَت أحداهنّ أن تقنعني بِمرافقتها إلى سهراتها أو مشاويرها ولكنّ مشكلتي الأساسيّة كانت إيجاد الملابس المناسبة. وحتى لو وقعتُ على مقاسي كانت كلّها قِطع باهتة لا تساعد في اظهار المحاسن إن كانت موجودة. فالمجلات والإعلانات كانت مليئة بالملابس الجميلة ولكنّها كانت جميعها معروضة على فتيات رشيقات وجميلات على عكسي.

وبقيتُ لِوحدي أو بالأحرى مع جسدي الثقيل الذي لم يعد يكتفي بِكميّة الأكل العاديّة بل بدأ يطلب المزيد وكأنّه يبحث عن سبيل لِغَرسي في وحدة قاتلة. فكّرتُ فعلاً بالموت ربما لأنّني كنتُ مراهقة وفي تلك المرحلة الصعبة تأخذ الأمور أحجاماً ضخمة. وبينما كنتُ أبحث عن سبيل لِترك حياتي البائسة آملة في الذهاب إلى مكان أفضل نظرتُ مِن حولي ورأيتُ بشاعة غرفتي التي كانت تشبه نفسيّتي أي حزينة ومعتمة.

 

وخطَرَ على بالي وكَهديّة وداع لأهلي أن أقلبها إلى مكان جميل ليأتوا ويبكوا عليّ فيها ويقولا عنّي:"كم كانت صاحبة ذوق رفيع!"

وطلبتُ مِن أبي المال لِشراء حاجات الديكور وفرِحَ الجميع أنّني أخيراً أبدَيتُ اهتماماً بِشيء. وذهبتُ مع أمّي لاختيار أقمشة الستائر والشراشف والدهانات للجدران.

 


وكم كانت دهشتي كبيرة عندما انتهَيتُ مِن العمل ووجدتُ النتيجة أكثر مِن مُرضية. عندها علِمتُ أنّني وُلِدتُ للديكور فكان لدَيّ ذوقاً رفيعاً ومعرفة بالألوان والأحجام بالفطرة. ونسيتُ أمر الموت والانتحار لأنّه أصبحَ لي هدفاً وهو دراسة الديكور. لِذا أنهيتُ بِحماس ما تبقّى لي مِن سنين المدرسة وتوجّهتُ إلى الجامعة لأختار اختصاص الهندسة الداخليّة.

وفي تلك المرحلة لم أعد أكترث لِنظرات الناس لي أو لِما سيقولون عنّي عندما أمرّ بِقربهم. لم يعد يؤثّر بي شيء سوى متابعة الدروس واجراء الأبحاث في مكتبة الجامعة.

وكان لَدَينا أفضل الأساتذة وكانوا فخورين بي وأصبحتُ مثلاً لكل طالب أو طالبة. ولكن كل هذا الحماس وكل هذه العلامات العالية لم تساعدني على الاختلاط بِرفاقي لا لأنّهم ابتعدوا عنّي بل لأنّني كنتُ التي لم تكن تريدهم وكأنّني كنتُ أعلم مسبقاً بأنّ الأمر لن يجدي.

وتخرّجتُ بِامتياز وكانت فرحَتي لا توصف لأنّني أنجزتُ أخيراً شيئاً مهمّاً وتخطّيتُ كل المصاعب التي واجهَتني منذ صغري. ولكن كان لِنجاحي ثمناً دفعَته صحّتي. فلِكثرة العمل على مشروع آخر سنة وسهر الليالي أصبتُ بإرهاق حاد ظهَرَت عوارضه بعد التخرّج. ولم أعد قادرة على فتح عيوني أو حتى التحرّك وبدأ وزني يخف.

في البدء كنتُ سعيدة أن أرى عقرب الميزان ينخفض يوم بعد يوم ولم أقل شيئاً لِعائلتي خوفاً مِن أن يدفعوني لرؤية طبيب. وركضتُ أشتري لِنفسي ثياباً جديدة ووقفتُ أمام المرآة بِفخر واعتزاز لأنّني كنتُ وحسب اعتقادي قد نجحتُ دراسيّاً وجسديّاً. ولكنّ فرحتي كانت قصيرة لأنّ التعب وسوء التغذية سببّا لي الاغماء. وحصَلَ ذلك عندما كنتُ أمشي في الطريق ولولا مساعدة المارّة لكانت دهَسَتني السيّارات. وأُخِذتُ إلى المستشفى وأجروا لي الفحوصات وركضَ أهلي. وقال لنا الطبيب أن جسمي لم يتحمّل الارهاق وعدم التغذية السلمية وأعطاني انذاراً بتصليح الأمر قبل فوات الأوان.

ورغم أدراكي بِخطورة وضعي لم أكن مستعدّة لاسترجاع الوزن الذي خسرتُه. ولكن مكوثي في المستشفى ساعدَني على تقوية صحتّي لأنّني كنتُ مُراقَبة ليلاً نهاراً. وأثناء تواجدي هناك ورفضي لاستعادة وزني أدركتُ أنّني لم أتخلّص مِن عقدتي تجاه جسدي كما كنتُ قد اعتقَدتُ خلال سنيني الجامعيّة بل كانت مسرحيّة لعبتُها على نفسي لأستطيع المواصلة وبلوغ هدَفي. وحين قال لي الطبيب قبل خروجي بيوم واحد أنّ حياتي ستكون بِخطر إن استمرَّ وزني بالانخفاض قرّرتُ طبعاً أنّ العافية أهم مِن كل شيء. فما نفع حياتي أن كانت ستقصَّر مِن أجل شكلي؟

واجتزتُ تلك الفترة العصيبة بِمساعدة أهلي طبعاً الذين لم يتركوني ثانية واحدة. وبعد أشهر قليلة عادت إليّ الصحّة واستطعتُ متابعة حياتي والتخطيط لِمستقبلي. وعندها فقط قبِلتُ نفسي. وهذا القبول أنعكسَ على تعاملي مع ذاتي ومع الآخرين. أصبحتُ قادرة على إيجاد الملابس التي تظهر أنوثتي لأنّني عرِفتُ ماذا أريد وأين أبحث. ولم أعد أعتبر الناس أعداءً لي ولم أعد أخجل مِن شكلي أمامهم. تحرّرتُ كليّاً مِن عقدتي ووضعتُها ورائي نهائيّاً.

 


وفي هذا المناخ الإيجابيّ وكما يحصل غالباً عندما نكون بِسلام مع نفسنا وجدتُ عملاً في شركة هندسة داخليّة. وكان صاحبها يبحث عن مهندسين مثلي أي ذات رؤية فريدة وذوق غير تقليديّ. فالجدير بالذكر أنّني فجّرتُ كل السواد الذي كان يسكن في قلبي إلى ألوان باتَت علامتي الفارقة.

وهكذا بدأتُ بالعمل على مشاريع صغيرة ومِن ثم أكبر. وأصبحَ لدَيّ أصدقاء بين زملائي وبتنا نخرج سويّاً لاحتساء القهوة أو للغداء. ولكن في تلك الفترة لم أفتح قلبي لأي رجل ليس خوفاً مِن نظرته لي بل لأنّني لم أكن معتادة على الفكرة لِكثرة كبتها طوال سنين ولم يرد على بالي أنّني سأُغرَم يوماً أو حتى أتزوّج.

ومرَّت حوالي تسعة سنين على هذا النحو. ولكنّ القدرَ يهتم بِترتيب أمورنا دون أن يطلب رأينا وكان يخبّئ لي مفاجأة سارّة.

ففي أحد الأيّام قصدنا زبون يودّ فتح مطعماً غير تقليديّاً فأحالوه فوراً إليّ. استقبلتُه في مكتبي وعندما جلسَ أمامي صرَخَ:

 

ـ منى؟ منى ص.؟ نفسها التي كانت تدرس في حيّ م. في العاصمة؟

 

ـ أجل...

 

ـ لم تتغيرّي كثيراً... لا تزالين...

 

ـ سمينة... أعلم ذلك.

 

ـ بل جميلة.

 

ـ أنا جميلة؟ لا داعي للمجاملات... لم أحفظ أسمكَ سيدّي.

 

ـ زياد ق. هل تذكرينَني؟ كنتُ أجلس أمامكِ في الصف... كنتُ زميلكِ مِن الروضة إلى البكالوريا.

 

بالطبع تذكّرتُه فكان الأوسَم في المدرسة. ثم تابعَ:

 

ـ كنتِ تجلسين في آخر الصف... لم أجرؤ يوماً على التحدّث إليكِ لِكثرة جدّيتكِ.

 

ـ ولِما كنتَ تريد التحدّث إليّ؟

 

ـ لا أدري... أعني... أدري لماذا ولكنّني لا أدري إن كان عليّ التكلّم...

 

ـ قل... لا ضرَر في ذلك... أصبحَت المدرسة وراءنا منذ سنين.

 

ـ كنتُ مُغرماً بكِ.

 

نظرتُ إليه بِتعجّب وأحمّر وجهه. هل يُعقل أن أجمل شاب في المدرسة كان يشعر بانجذاب إلى أقبح فتاة؟ عندها أجبتُه:

 

ـ ولكنّني كنتُ...

 

ـ أعلم ما ستقولينه... كنتِ ولا تزالين... أعني أنّ لدَيكِ وزناً زائداً.

 

ـ أجل.

 

ـ ولكنّني أحب أن تكون المرأة هكذا! لا أطيق النحيفات والعظام البارزة... أحبّ أن أرى شابة تتمتّع بِصحّة جيّدة وتبتسم للحياة كما تفعلين الآن... في الماضي كنتِ تعيسة وهذا ما أبعَدَني عنكِ... منى... هل تقبلين دعوَتي إلى العشاء؟ لَن أضيّع هذه الفرصة فَمِن كل مهندسيّ الديكور في البلَد وقعتُ عليكِ بِالذات... ماذا قلتِ؟

 

ـ حسناً...

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button