فقدَت زوجتي عقلها

إبتسَمتُ حين بدَت على حبيبتي أولى علامات الغيرة، فذلك كان يعني أنّها تُحبّني وتخافُ أن تخسرَني. إلا أنّني لَم أكن أعلَم أنّ تلك الغيرة كانت مرَضيّة وأنّ حياتي ستنقلبُ رأسًا على عقَب بعد زواجي.

فنوال كانت تُعاني مِن مشاكل نفسيّة لَم أعلَم بها، لأنّ الناس لا يُفصحون عن هكذا أمور أو أنّهم لا يعرفون أنّهم مُصابون بها. ولو اكتشَفتُ مِن البداية مشكلة نوال، أقسمُ أنّني لَم أكن لأترُكها وأكمل حياتي مِن دونها، بل لسارعتُ بعرضها على طبيب نفسيّ وانتظرتُ حتى تتحسّن حالتها. فلقد كنتُ أحبّ تلك الصبيّة إلى أقصى درجة، هذا قبل أن ينقلبَ حبّي لها إلى يأس وحيرة.

عمِلتُ جهدي لتطمئنّ نوال إلى أنّني لا أريدُ سواها، فلَم أعُد أُجيبُ على رسائل صديقاتي مع أنّني لَم أكن أفعل أي سوء بالتحدّث معهنّ، خاصّة هويدا التي كنتُ أعرفُها منذ أكثر مِن عشرين سنة. إضطرِرت لأن أشرحَ لهذه الأخيرة أنّ حبيبتي لا تعرفُها كفاية لتعلم أنّ ما يجمعُنا هو صداقة بحتة وبريئة، ووعدتُها بأنّنا سنواصل تلك الصداقة بعدما تتّضِح الأمور كليًّا. تفهّمَت هويدا الوضع على الفور، فهي كانت إنسانة عاقلة جدًّا، ودعَت لي بالتوفيق مع التي سرقَت قلبي.

إلّا أنّ نوال لم تَطمئنّ لي كليًّا، بل بقيَت تشكّ بأنّني لستُ فقط على علاقة حميمة مع هويدا بل مع كلّ امرأة أخرى. هي لَم تقُل لي شيئًا لسبب واحد، وهو أنّها لَم ترِد فضح ما يدور في عقلها لتتمكّن مِن إيجاد الدلائل على خيانتي لها.

تزوّجنا وتحضّرتُ للعَيش بهناء وإطلاق العنان لحبّي الكبير، إلا أنّني لَم أذِق طعم السعادة إلا لفترة وجيزة. فحتّى خلال سفرنا إلى الخارج لقضاء شهر العسل، كانت زوجتي تُراقب تحرّكاتي وكلّ مَن هو مِن حولي عن كثَب. ظنَنتُ أنّ نوال مُنزعجة مِن الفندق الذي اخترتُه أو حتى مِن البلد نفسها، فاعتزَمتُ أن أدعَها هي تختار في المرّة المُقبلة. لكنّ نوال قرَّرَت أنّنا لن نُسافر بعد ذلك لأنّها، وحسب قولها، تفضّل أن نقضي إجازاتنا في بلدنا لنتعرّف إليه أكثر ولنُساهم في الإقتصاد المحلّيّ. إفتخَرتُ بزوجتي وبتفكيرها الوطنيّ، في حين كانت هي تريدُ حصري في مكان واحد مألوف لديها. وكنتُ سأكتشفُ لاحقًا أنّنا لن نذهب لأيّ مكان لا في الخارج ولا في الدّاخل، وأنّنا سنُلازم بيتنا بصورة دائمة. ففي عقل نوال المريض، كان الناس والأماكن تُشكّلُ خطرًا على زواجنا.

 


وصارَت نوال تختلقُ الأعذار كلّما توجَّبَ علينا الخروج لحضور مناسبات إجتماعيّة، وتعترض لذهابي لوحدي قائلة إنّ "تركها لوحدها في المساء يُخيفُها". لِذا صِرنا، يومًا بعد يوم، أَسرى حيطان مسكننا.

سلوَتي الوحيدة كانت صديقتي هويدا التي كنتُ أتبادل معها الرسائل الهاتفيّة سرًّا كي لا تغار زوجتي. وخلال تلك الدقائق، كنتُ أستعيدُ فرَحي القديم. لكن كل ذلك لم يُخفّف مِن حبّي لنوال إذ كان بلا حدود، وعملتُ جهدي لتفهّم قلقها الدّائم عليّ، وفسَّرتُه بأنّه تعبير فائق القوّة لتعلّقها بي.

لكنّ هويدا كانت تُنبّهُني مِن الذي يحصل، ولكثرة عمايَ، بدأتُ أتضايق مِن هذه الصديقة التي، بنظري، تحاولُ إبعادي عن حبيبتي، بقلبي ضدّها. ومع الوقت، صِرتُ جافًّا مع هويدا التي حزِنَت للغاية، لكن بقيَت تسأل عنّي وتُخبرُني الأخبار المُضحكة والسارّة.

ذات يوم طلَبَت منّي نوال أن أطردَ سكرتيرتي الخاصّة. تفاجأتُ لهذا الطّلَب الغريب والمُفاجئ، فهي لم تكن تعرفُها شخصيًّا ولَم تأتِ على ذكرها يومًا. سألتُها عن سبب هذا الطّلَب فأجابَت:

 

ـ لا أحبُّها... كلّما اتصلتُ بكَ في المكتب، تنزعجُ تلك الغليظة منّي!

 

ـ أبدًا يا حبيبتي... فقد تكون تلك الفتاة قد تعِبَت بعض الشيء مِن اتّصالاتكِ المتكرّرة خلال النهار... فأنتِ تتّصلين كل ساعة وأحيانًا أكثر.

 

ـ وأنتَ تنزعج منّي؟!؟

 

ـ لا! لا! أحاولُ إيجاد تفسير فقط.

 

ـ ما الذي يدورُ بينكما؟ أنتما الإثنَان مُنزعجان منّي! أُطردها! أريدُكَ أن تطردها!!!

 

وانتابَ زوجتي نوبة غضب غير مسبوقة، فوعدتُها بطرد السكرتيرة كي تهدأ. وعندما غرِقَت نوال في النوم، إحترتُ لكيفيّة التصرّف مع إمرأة قلقة طوال الوقت.

إلتجأتُ إلى هويدا وأخبرتُها بما حصَلَ، وهي نصحَتني بأن أدّعي بأنّني طردتُ الموظّفة وأوكل شخصًا آخر للردّ على المُكالمات، على أن يكون رجلاً.

أعجبَتني الفكرة ورحتُ أطبّقها في الصباح.

فرِحَت زوجتي كثيرًا عند سماع صوت رجل يردّ عليها في المكتب، وعادَت ضحكتُها واطمأنّ قلبي. واستغنَمتُ الفرصة لأفتح معها موضوع الإنجاب، فلكثرة حبّي لها كنتُ أريد ولدًا أو بنتًا بعد أن طال انتظاري. فقد كان مضى على زواجنا أكثر مِن سنة. لكنّها قالَت:

 

ـ حسنًا لكن فقط إن كان صبيًّا.

 

ـ ماذا تقصدين؟ وإذا كانت بنتًا ماذا نفعلُ بها؟

 

ـ حين أذهب إلى لطبيب لإجراء الصورة الصوتيّة، سنعرفُ جنس الجنين. وإن كانت بنتًا فسأطلبُ منه أن يُجهضني.

 

ـ ماذا؟!؟ هل فقدتِ عقلكِ؟ في أيّ عصر تعيشين؟ ما بال البنات؟ على كلّ حال لن أقبل بالإجهاض فهو جريمة.

 


- حسنًا، لن أحبَلَ إذًا.

 

وانتهى الحديث. وجلَست في الصالون أفكّر بالحوار الذي دار بيننا للتوّ، غير مصدّق لِما سمعتُه. هل يُعقل أن تنوي زوجتي التخلّص مِن الجنين إن كان بنتًا؟ أخبرتُ هويدا بالأمر وهي الأخرى لَم تصدّق الخبر لفظاعته.

عُدتُ على الفور إلى غرفة النوم وصرَختُ بنوال:

 

ـ ولماذا لا تُريدين بنتًا؟

 

ـ لماذا؟!؟ لأنّها أنثى! ولأنّها ستأخذ مكاني في قلبكَ! وإن فعَلَت، فسأقتُلها!

 

هربتُ مِن الغرفة متأكّدًا مِن أنّ نوال فقدَت عقلها. وكنتُ أعلَم ما يعني ذلك: جلسات عند الطبيب النفسيّ لمدّة طويلة، فمِن الواضح أنّ مشكلة زوجتي كبيرة. وكنتُ أعلم أيضًا أنّ نوال لن ترضى بسهولة الخضوع لتلك الجلسات، فستسوء حالتها وقد تستوجب أخذها إلى مؤسّسة خاصّة. وتلك الفكرة كانت غير مقبولة أبدًا منّي.

لِذا فعلتُ ما لَم يكن يجب أن أفعله: قرّرتُ الإبتعاد كليًّا وزوجتي عن الناس، لأخفي عنهم مرضًا شعرتُ بأنّه سيتفاقم مع الوقت إن لَم أحصره. حاولَت صديقتي هويدا التواصل معي بعد ذلك، إلا أنّني حظرتُها على هاتفي بعد أن طلبتُ منها نسيان أمري.

ومنذ ذلك اليوم صِرتُ آتي بعملي إلى البيت، وأبقى مع زوجتي طوال الوقت. كنتُ مُقتنعًا بالذي أفعلُه، ولَم يُزعجني المكوث مع نوال في البيت، فرؤيتها سعيدة كانت تكفيني.

إلا أنّ حالة زوجتي صارَت تسوء يومًا بعد يوم، فباتَت تقع في نوبات غضب مِن دون سبب، وتتخايل أمورًا لا وجود لها، مثل أشخاص يُراقبونها طوال الوقت ويودّون أذيّتها. وعندما أصبَحَ الوضع خطيرًا، إتّصلتُ أخيرًا بهويدا طالبًا منها النجدة. وهي بحثَت لنا عن طبيب مُختصّ وجاءَت معه إلى البيت. وهذه كانت غلطة فظيعة. فمع أنّ صديقتي بقيَت في الصالون بينما كان الطبيب يفحصُ نوال، قال أمامها ذلك الأخير إنّه مِن الجيّد أنّ "الآنسة هويدا جلَبَته إلى هنا". نظَرَت إليّ زوجتي بغضب واضح لكنّها لم تقل شيئًا. وبعد أن أصبحنا لوحدنا، حاولتُ إلهاء نوال عن موضوع هويدا، وأخذتُ أحكي لها عن حياتنا التي ستتحسّن بعد أن تأخذ أدويتها وأقصّ لها عن مشاريعنا المستقبليّة. لكنّ زوجتي لم تكن تسمعُ ما أقولُه لها لكثرة انشغالها بقضيّة هويدا.

رفضَت زوجتي أخذ أدويتها، مدّعية أنّها بخير وأنّها لا تتصوّر أشياءً ، الأمر الذي حوّلها إلى إنسانة فعلاً مجنونة. فهي طلبَت منّي، وبكل بساطة، أن أثبتَ لها حبّي بقتل هويدا. أضافَت أنّها ستقتلُها بنفسها إن لَم أفعل. وعندما قلتُ إنّ القتل يُعاقِبُ عليه القانون بالحبس المؤبّد، أجابَت نوال: "إذًا سأقتلُ عشيقتكَ ومِن ثمّ أقتلُكَ وأقتلُ نفسي". لَم أخَف على نفسي أو على هويدا، بل أن تُنهي نوال حياتها، الأمر الذي لَم أكن لأخاطر به أبدًا. لِذا، إتّصلتُ بالطبيب وطلبتُ منه إدخال زوجتي إلى قسم الأمراض العقليّة ومراقبتها عن كثب كي لا تنتحر.

بالطبع عارضَت نوال ترك البيت والذهاب إلى المشفى، وصارَت تركل وتشتم وعضَّتني في ذراعي. بكيتُ لرؤيتها هكذا، لكنّ ذلك كان الحلّ الوحيد.

اليوم نوال على حالها بفضل الأدوية والعلاجات، لكنّ شفاءها القريب مُستبعد، فهي لا تريد أن تتحسّن لأنّها تظنّ أنّني وهويدا نتآمر ضدّها. لقد قطعتُ علاقة الصداقة التي تربطني بهويدا، لأنّها باتَت تذكّرُني بمصيبتي، وأعيش الآن وحدي في حزن عميق.

أدعو الله أن يُعيد يومًا لحبيبة عمري صوابها، وأن نتمكّن مِن أن نعيش ولو قليلاً سويًّا كباقي الناس.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button