فاعل خير مجهول

إحترتُ كثيرًا بالرسائل التي صارَت ترِدُ إلى هاتفي، فمَن يا تُرى يتسلّى بتوسيخ سمُعة زوجتي، وكيف لهم أن يتخيّلوا أنّني سأصدّقُ هذا الهراء، فعبير كانت الزوجة والأم المثاليّة ولَم أشتكِ منها يومًا. بالطبع لَم أُخبِرها عن تلك الرسائل كي لا أُزعجُها وقرّرتُ تجاهل الموضوع. للحقيقة، فقد كنتُ رجلا ًسعيدًا في حياتي، خاصّة بعد طفولة صعبة وحزينة بسبب مشاكل أبويّ الزوجيّة التي انتهَت بطلاقهما. كنتُ إبنًا وحيدًا فعانَيتُ مِن بُعدي عن أبي الذي سرعان ما نسيَني، ليركض وراء النساء وينتهي به المطاف مُتزوّجًا مِن إحداهنّ. أمّي في المُقابل، ركّزَت إهتمامها كلّه عليّ مُحاولةً التعويض لي عمّا حصَلَ لعائلتنا الصغيرة. لكنّ عناءها كلّه ولأكثر مِن عشر سنوات، تكّلَل بتعرّفها إلى رجل طيّب وصالح وثريّ. أيّ أنّها ربحَت الجائزة الكبرى وكذلك أنا. فذلك الرجل إعتبرَني بمثابة إبنه، وأعطاني الحبّ والحنان وكلّ ما ينقصُني لأصير إنسانًا مُتوازنًا ومُتعلّمًا. بعد سنوات، بدأتُ أعمَل في شركته الناجحة وأعيش حياة أكثر مِن مُريحة.

لقائي بعبير حصَلَ باكرًا، أي عندما كنتُ لا أزال في الجامعة، وهي انتظرَتني بصبر حتى تمكّنتُ مِن تأسيس بيت ومُستقبل آمن لها ولأولادنا المُستقبلين. بكلمة، أعطَتني الحياة ما يطلبه كلّ شخص، وكنتُ ممنونًا لربّي على كرَمه. فمَن أرادَ تعكير صفو حياتي الهادئة؟ لَم يكن لدَيّ أعداء، إذ لم يحصل أن أذيتُ أحدًا يومًا. هل كان نجاحي هو سبب غيرة أحدهم؟ هل كان المُرسِل مِن زملائي في العمَل أم جار أو جارة إستاءوا مِن هنائي؟ كَم أنّ الناس سيّئون أحيانًا!

حاولتُ معرفة صاحب الرقم المجهول الذي كانت تُبعثُ منه تلك الكلمات المؤذية، لكنّ ذلك الخط كان مؤقّتًا، أي أنّني لا أعلَم اسم الذي يبخُّ سمّه بشكل شبه يوميّ في هاتفي. قرّرتُ حظر الرقم، فلَم يعُد يُهمّني صرف وقتي أو طاقتي على هكذا أمر.

بعد يومَين، عادَت ترِدُني الرسائل لكن مِن رقم مجهول ثانٍ، الأمر الذي أثارَ غضبي إلى أقصى درجة. عندها قرّرتُ أخيرًا الرد عليه كتابةً:

 

ـ مَن تكون؟ وما هذا الكلام التافه عن زوجتي؟ هل تُريدُ تدمير زواج ناجح؟ إن كانت تلك نيّتَكَ، فأنتَ تُضيع وقتكَ يا عزيزي. جِد لنفسكَ مُغفّلاً يُصدّقُ تفاهتكَ.

 

لَم يجِب المُرسِل على الفور بل بعد حوالي الساعة:

 


ـ هي ليست تفاهات بل العكس، إنّها حقائق. زوجتكَ ماكرة وخائنة. ولدَيّ دلائل على كلامي، إلا أنّني لا أعلَم إن كنتَ مُستعدًّا لمعرفتها. فأنا لا. أُريدُ إيذاءكَ.

 

ـ لا تُريدُ إيذائي؟!؟ ماذا تُسمّي إذًا اتّهاماتكَ؟

 

ـ علامة محبّة.

 

لَم أعرِف كيف أُجيبُ، فأضفتُ:

 

ـ سأحظرُكَ مُجدّدًا.

 

ـ وسأشتري خطًّا جديدًا وأُتابعُ تحذيراتي لكَ... حتى تُصدّقني أخيرًا.

 

ـ أليس لدَيكَ ضمير؟!؟

 

ـ إسأل زوجتكَ أين كانت يوم عيد ميلاد إبنكَ البكر... حين وصلَت مُتأخّرة إلى المطعم.

 

ـ ماذا؟!؟ كيف تعلَم بعيد إبننا؟!؟ هل تُراقبُنا؟!؟ سأتّصلُ بالشرطة!

 

ـ إفعَل! وستجلبُ لنفسكَ الفضيحة، فالزِنى أمر يُعاقبُ عليه القانون. إسألها أين كانت وحسب.

 

إنتهَت المُراسلات عند ذلك، وارتأيتُ أنّ لا ضرَر مِن أن أسألَ عبير هذا السؤال، فذلك قد يضَع حدًّا لممارسات الرجل الغامض.

تفاجأَت زوجتي بسؤالي لِدرجة أنّها لَم تُحسِن الإجابة، فطمأنتُها قائلاً إنّ دافعي هو بِدافع الفضول، فقالَت إنّها كانت لدى صديقتها مهى ولَم تشعر بالوقت يمرّ، فأسرعَت باللحاق بنا إلى المطعم حيث كنّا نُقيم حفل عيد ميلاد ولدنا بحضور رفاقه.

أخذتُ هاتفي وكتبتُ أجابة عبير وأرسلتُها إلى ذلك المجهول، فأجابَ على الفور: "كاذبة". عندها طفَحَ كَيلي وبدأتُ أشتمه، الأمر الذي لَم يؤثِّر به، بل كتَبَ: "إنّها كاذبة، فليس هناك مِن صديقة إسمها مهى. كلّ ما عليكَ فعله هو فتح هاتفها والتأكّد مِن كلامي. إنّه إسم مُستعار لعشيقها. أُطلُب رقم تلك الصديقة وسيُجيب عليكَ رجل". للحقيقة، إحترتُ بأمري. ماذا لو كان المجهول على حقّ؟ لا! لن أدخُلَ تلك اللعبة اللعينة! لكن... ما الضرَر لو حاولتُ؟

إنتهى بي المطاف بمَدّ يدي كاللصّ إلى حقيبة يدَ زوجتي وهي في الحمّام، والضغط على الرمز السرّي الذي رأيتُها تنقرُه كلّما أرادَت استعمال هاتفها. وجدتُ رقم مهى وبدأَت ترتجفُ أصابعي. كنتُ قادرًا على التراجع وإقفال الهاتف ووضعه مكانه، فكانت لي ثقة عمياء في زوجتي. لكن... ضغطة صغيرة كانت كافية لإنهاء قلَقي.

طلبتُ رقم مهى وانتظرتُ بهمّ شديد أن يُجيب أحد، أيّ أحد. وعندما سمعتُ صوت رجل يقول: "حبيبتي..."، أسرَعتُ بالإقفال لشدّة إرتباكي. وبدأَ قلبي يخفقُ بسرعة لِدرجة أنّني خلتُه سيخرجُ مِن صدري. كان المجهول على حقّ، عبير تخونُني وتُخفي خيانتها جيّدًا. أعدتُ الهاتف إلى مكانه وجلستُ على أريكة الصالون أُفكّرُ بالذي عليّ فعله. أخذتُ هاتفي وبعثتُ للمجهول رسالة:

 

ـ حسنًا، كنتَ على حقّ! هل أنتَ سعيد الآن؟!؟ لقد دمَّرت زواجي!

 

ـ بل زوجتكَ هي التي فعلَت. كان يجدرُ بكَ أن تعلَم بالذي يحصل، أو أنّكَ تُفضّل لو بقيتَ الزوج المغدور الذي هو آخر مَن يعلَم؟

 


ـ لكن ما هي دوافعكَ؟ لماذا أخبرتَني بالذي يجري؟ أتُريد أذيّتي وإحزاني؟ هل معرفة أنّني أتألّم تجلبُ لكَ السعادة؟ هل أنتَ ساديّ؟!؟

 

ـ بالعكس... بالعكس. ما فعلتُه هو بدافع حبّي لكَ.

 

ـ يا إلهي! أنتَ تهوى الرجال؟!؟ أنتَ مثليّ لذلك فضحتَ زوجتي؟!؟ إسمع، أنا رجل طبيعيّ و...

 

ـ لستُ رجلاً. أنتَ افترضتَ ذلك لوحدكَ.

 

ـ إذًا "أنتِ" إمرأة تكنُّ لي حبًّا سرّيًّا... ودمّرتِ زواجي لتأخذي مكان زوجتي. إنّه أذىً شئتِ أم أبيتِ. هل نعملُ سويًّا في الشركة أمّ أنّكِ إحدى جاراتنا؟

 

ـ لا هذه ولا تلك.

 

ـ لا بّد أنّكِ قريبة منّا فأنتِ تعلمين أمورًا خاصّة عن عائلتي. على كلّ الأحوال، أنتِ مريضة وعليكِ أن تتعالجي.

 

ـ زوجتكَ هي عشيقة زوجي.

 

سكتُّ مطوّلاً بعد أن فهمتُ أخيرًا دوافع المُرسلِة المجهولة. حزنتُ مِن أجلها، فكَم أنّها تتألّم لتبحث عن رقمي وتبعثُ لي كلّ تلك الرسائل. لكن كيف حصلَت على رقمي؟ سألتُها ذلك السؤال فأجابَتني:

 

ـ سأتّصلُ بكَ صوتيًّا الآن وستعرف الجواب.

 

رنَّ الهاتف بين يدَيّ وخفتُ أن أُجيب، فالأحداث كانت تتسارع بوتيرة مُخيفة. ضغطُّ على الزرّ الأخضَر أخيرًا وقلتُ:

 

ـ نعم؟

 

ـ هذا أنا.

 

ـ ماما؟!؟ هذا أنتِ؟!؟

 

في تلك اللحظة بالذات دخلَت عبير الصالون ولَم أعُد أعلَم ماذا أفعَل أو أقول، فمِن جهّة كنتُ على الخطّ مع أمّي التي كانت المُرسِلة المجهولة، ومِن ناحية أخرى كانت زوجتي واقفة أمامي، هي نفسها التي لدَيها عشيق تُخفيه تحت إسم مهى. شعرتُ بطنين في أذنَيّ وخلتُ أنّه سيُغمى عليّ، لكنّني تماسكتُ وأجَبتُ عبير التي سألَتني مع مَن أتكلّم: "أتكلّم مع أمّي... فهي لدَيها الكثير لتقوله لي... سأكون معكِ بعد دقائق". غابَت عبير عن نظري، فالتقطُّ أنفاسي وتابعَتُ حديثي مع والدتي:

 

ـ عبير تخونُني مع زوجكِ؟!؟ هو نفسه الذي ربّاني وأعطاني كلّ شيء؟!؟ حين سمعتُ صوت ذلك الرجل عبر الهاتف خلتُ للحظة أنّني سمعتُه مِن قبل، لكنّني أقفلتُ الخطّ بسرعة!

 

ـ وها هو يستردُّ حقّه، أو هكذا يظنّ.

 

ـ ولماذا كلّ هذا التستّر، أعني شراء الخطوط الهاتفيّة وارسال الاتّهامات سريًّا؟ كان بامكانكِ قول الحقيقة لي وجهًا لوجه.

 

ـ وهل كنتَ ستصدّقني؟ بالطبع لا. كنتَ ستغضبُ منّي ولَخسِرتُكَ. ألا يكفيني أنّني خسِرتُ زوجَين حتى الآن؟

 

ـ وكيف علمتِ بالخيانة؟

 

ـ زوجتكَ ليست أوّل إمرأة يخونُني معها زوجي. سكتُّ طوال سنوات مِن أجلكَ يا بُنيَ، لأنّني أدركتُ كَم أنّكَ مُتعلّق بالذي رأيتَ فيه صورة الأب. وهو عاملكَ مُعاملة حسنة وعلّمكَ في أفضل مدرسة وجامعة وأعطاكَ مركزًا في شركته. لكن أن تصل وقاحته لسرقة زوجتكَ منكَ وإذلالكَ هكذا، فألف لا! علِمتُ بقصّة "مهى" عندما كنّا مُجتمعين جميعًا في إحدى المرّات، ورأيتُ عبير تتّصلُ بِـ "مهى" وفي اللحظة نفسها أجابَ زوجي، ولاحظتُ كيف يتبادلان النظرات الساخرة وهما على هاتفهما. كنتُ جالسة ليس بعيدًا عنهما وكذلك أنتَ، فشعرتُ بالغثيان وكان بودّي أن أصرَخ فيهما عاليًا كم أنّهما قليلا الأخلاق! لكنّني سكتُّ، فلَم أعتَد على مواجهة مَن يؤذيني.

 

ـ سآخذُ لكِ حقّكِ يا ماما. لَم يعُد يهمّني خيانة زوجتي لي بقدر وجعَكِ أنتِ، فلطالما فعلتِ جهدكِ لإسعاد مَن حولكِ.

 

ـ ماذا ستفعل؟

 

ـ سآخذُكِ وأولادي بعيدًا عن هذَين الماكرَين ونُتابعُ حياتنا كما يجب. أنا رجل مُتعلّم ولا يُخيفني العمَل، فسأتركُ شركة زوجكِ الذي ستطلّقينَه طبعًا. سأعتبرُ، كما فعَلَ هو، أنّه استعادَ فضله عليّ بمعاشرة زوجتي. نحن مُتعادلان الآن. يا إلهي... مِن كلّ النساء، كان عليه اختيار زوجتي أنا! وهي... خلتُها سعيدة معي فلَم أُنقِص عليها شيئًا... لِما اختارَت الذي كان بمثابة أبي والذي هو بسنّ أبيها؟

 

ـ لا يسَعُنا فَهم عقول مَن ليس لدَيهم أخلاق يا بنيّ... لا تُتعِب نفسكَ كثيرًا. سامحني إن كنتُ قد أحزنتُ قلبكَ، لكنّ الحزن يُمّحى مع الوقت على عكس إهانة الكرامات، ولَم أكن لأقبَل بأيّ ثمَن أن يُهينكَ أحد.

 

ـ خيرًا فعلتِ يا ماما. سنكون سعيدَين، سترَين. سنُساعد بعضنا على النسيان وسنستعيدُ ضحكتنا. أعدُكِ بذلك.

 

اليوم أعيشُ مع والدتي وأولادي ونحن فعلاً سعداء بعد أن طلّقنا اللذَين سخرا منّا وخانا ثقتنا بهما. حاولَت عبير إكمال علاقتها بزوج أمّي السابق والزواج منه، إلا أنّه رماها بسرعة بعد أن زال عنصر التشويق لدَيه. هو صارَ رجلاً مُسنًّا ومريضًا، وهي تكتفي بزيارة أولادها بين الحين والآخر. وهذا مصير كلّ خائن وخائنة!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button