عندما يفقد الإنسان عقله

مِن المُحزن أن يُصاب المرء في عقله، ويعيش في عالم خياليّ خاص به لا يمتّ بالواقع بأيّة صّلة. فحينها يُصبح مِن الصعب التعامل معه، فكيف لنا أن نميّز بين الحقيقة والخيال؟ فالذي حصَلَ لصديقتي نجوى مؤسف للغاية، خاصّة أنّها كانت لا تزال بمُستهلّ عمرها وأنّها فقدَت الصّلة التي تربطُنا بالعالم الذي يُحيط بنا.

كانت نجوى فتاة مرحة تحبّ الحياة، وقد قضَينا سويًّا فترة الدّراسة والمراهقة. كنتُ أعتبرُها أختًّا لي وتبادلنا أسرارنا وطموحاتنا.

وقبل دخولنا الجامعة بأسابيع، قرَّرَ أهلها الإنتقال إلى الخارج بسبب عمل أبيها، وودّعتُها والدّمع ملءعينَي. وعَدنا بعضنا بالتراسل باستمرار، لكنّ البُعد والمشاغل الحياتيّة كانتا كافيتَين لنسيان وعدنا.

تخرّجتُ مِن الجامعة وتزوّجتُ، وصارَت نجوى ذكرى بعيدة، إلى أن جمعَنا القدر مِن جديد. فقد التَقيتُ بها صدفة أثناء شراء حاجيّاتي مِن السوبر ماركت. كانت نجوى واقفة أمام مُنتجات الأطفال تختارُ حفّاضات. صرختُ مِن كثرة فرَحي وركضتُ أعانقُها بقوّة:

 

ـ يا إلهي! نجوى! أنتِ في البلد؟ متى عدتِ؟ وما أخباركِ؟ لدَيكِ أطفال؟

 

نظَرت إليّ صديقتي باندهاش، أوّلاً لرؤيتي أمامها بعد سنين طويلة وأيضًا لكثرة أسئلتي. ثمّ قالَت:

 

ـ اخفتي صوتكِ... لا أريدُ أن يعرف أحد بوجودي هنا.

 

ـ حسنًا، لكن ما...

 

ـ هذا رقم هاتفي، إتّصلي بي في المساء.

 


ثمّ اختفَت نجوى بعد أن تأكّدَت مِن أنّ أحدًا لَم يرَها.

إنتظَرتُ حلول المساء بفارغ الصبر، وخابَرتُ صديقتي التي أجابَتني بفرَح ممزوج بجدّية إستغربتُها:

 

ـ مرحبًا، سُعدتُ بكِ اليوم، لكنّني لَم أكن قادرة على مواصلة حديثنا. فذلك المكان غير آمن.

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ لاحقًا، لاحقًا. كيف أحوالكِ؟

 

ـ أصبحَت لي عائلة وأنا سعيدة للغاية. وماذا عنكِ؟ رأيتُكِ تشترين الحفّاضات، أصبحتِ أمًّا؟ لديكِ إبن أم ابنة؟

 

ـ أنا حامل وكنتُ أتفرّج على الحفّاضات لأرى أسعارها وأصنافها.

 

ـ ألف مبروك يا حبيبتي! مَن تزوّجتِ؟ هل هو من بلدنا؟

 

ـ يا ليتكِ تكفّين عن الأسئلة! ستعرفين كلّ شيء بأوانه.

 

ـ معكِ حقّ! ما بالي؟ لدَينا المتّسع مِن الوقت لنتبادل أخبارنا. تعالي زوريني في البيت غدًا. هذا هو عنواني.

 

أخبرتُ زوجي عن لقائي بنجوى وهو فرِحَ لي لأنّني وجدتُ مِن جديد "صديقتي الضائعة". وفي اليوم التالي، جاءَت نجوى لزيارتي وجلَسنا سويًّا وقدّمتُ لها القهوة والحلويّات. ومِن ثمّ بدأَت هي بالكلام:

 

ـ أعذريني لأنّني تضايقتُ مِن أسئلتكِ البارحة، لكنّكِ تعرفين كمَ أنّ مرحلة الحمل صعبة، فهي تغيّر المزاج.

 

ـ هـ هـ هـ... بالطبع أعرفُ ذلك، فلقد عانى زوجي كثيرًا مِن تقلبّات هورموناتي! سأدعُكِ تروين لي ما شئتِ وأعدُكِ بعدم سؤالكِ شيئًا.. أو تقريبًا.

 

ـ حسنًا... عشتُ في الغربة سنين طويلة، حيث تعلّمتُ وتخرّجتُ ومِن بعدها عدتُ إلى البلد للعمل. أنا اليوم محاسبة في شركة كبيرة. وهناك، تعرّفتُ إلى شاب ممتاز وتزوّجنا، وها أنا أحمل ولدًا منه. أنا في شهري الثالث.

 

ـ أخبار رائعة! هذا يعني أنّ بامكاننا الخروج سويًّا كما في السابق، ومع زوجَينا إن شئنا ذلك.

 

ـ لا! بل لوحدنا، فزوجي مسافر الآن ولن يعود قبل أشهر.

 

ـ ليكن ذلك إذًا.

 

بعد تلك الزيارة، صرتُ أرى نجوى مِن وقت لآخر، لكنّها لم تدعُني إلى بيتها يومًا وأنا لَم أطلب منها ذلك خوفًا مِن مُضايقتها. فاكتفَينا بالجلوس إمّا عندي في البيت أو في مقهى كنتُ معتادة أن أقصده.

 


لَم أعرف الكثير عن فترة غياب صديقتي عنّي، واستنتجتُ أنّ الحديث عن هذا الموضوع يُضايقُها، لكنّني علِمتُ منها أنّ أباها توفّي في الغربة وأمّها لحقَت به بعد فترة قصيرة هنا في البلد، وأنّ صديقتي تعيشُ لوحدها في بيت أهلها. أسفتُ جدًّا لسماع ذلك، خاصّة أنّ نجوى كانت إبنة وحيدة ولَم يعُد لدَيها أحد. لِذا قرّرتُ أن أُرافقها أثناء فترة حملها وبعد الولادة، لأنّني صديقتها ولأنّني أعرفُ الكثير عن الحمَل والإعتناء بالرّضّع بعد أن أنجبتُ ثلاثة أولاد.

كان زوجي ينزعجُ مِن أخبار نجوى مع أنّه لم يلتقِ بها ابدًا، وكان يُردّدُ لي دائمًا: "لا أعرفُ لماذا، لكنّني لا أحبّ تلك المرأة الملفوفة بالغموض". وكنتُ أدافعُ عنها في كلّ مرّة، شارحة له أنّ ابتعادها عن البلد ومكوثها في الخارج قد أثّرا بها بشكل مِن الأشكال. فكما هو معلوم، الأجانب لهم طرقهم الخاصّة بالتعبير عن مشاعرهم.

لكن على مرّ الأسابيع والأشهر، لَم يكبر بطن نجوى، ولَفَتُّ انتباهها إلى الأمر خوفًا مِن أن يكون سَير حملها في خطر. إلا أنّها أجابَت أنّها والجنين بخير وأقفلَت الموضوع.

ولأنّني كنتُ أخافُ كثيرًا على صديقتي، ولأنّ تصرّفاتها كانت تُثيرُ فضولي إلى أقصى درجة، إعتزَمتُ الإطمئنان عليها بطريقتي الخاصّة. فبعد أحد لقاءاتنا في المقهى، قرّرتُ اللحاق بها. تركتُها تبتعد قليلاً، ثمّ مشيتُ وراءها.

دخلَت نجوى حيًّا شعبيًّا ومِن ثمّ مبنىً قديمًا، واختفَت فيه. إنتظرتُ حتى يخرج أحد منه لأسألُه عنها، لكنّني بقيتُ واقفة في الطريق سدىً. عُدتُ إلى البيت، واعدة نفسي بتكرار التجربة مرّة أخرى.

إلتقَينا مُجدّدًا وعاودتُ ملاحقتها إلى المبنى نفسه. لكن في تلك المرّة صعدتُ وراءها السّلالم بتأنٍّ كي لا تنتبه لوجودي. علِمتُ في أيّ طابق وأيّة شقّة هي تعيش، وقرَعتُ بابها بعد دقائق لأسألها لماذا تسكنُ في مكان كهذا بعد أن قالَت لي إنّها تعيشُ في بيت أهلها وإنّ أحوالها وزوجها ممتازة جدًّا.

فتحَت لي نجوى، وتفاجأَت بي واستاءَت كثيرًا لأنّني كشفتُ سرّها. أجبرتُها على إدخالي الشقّة التي وجدتُها صغيرة جدًّا وقذرة. لم يكن هناك غرفة نوم بل سرير واحد صغير في زاوية الصالون. جلستُ على الأريكة وطلبتُ منها تفسيرًا. وهذا ما قالَته لي صديقتي:

 

ـ ها أنتِ قد دخلتِ بيتي وهو ليس بجمال بيتكِ، فأنا بانتظار قدوم زوجي مِن السفر للإنتقال إلى الفيلا التي نبنيها سويًّا. لَم أستطع البقاء في بيت والدَيَّ الذي كان يُذكّرني بهما باستمرار، فاختَرتُ هذا المكان بالذات لأنّ تكاليف الفيلا باهظة ولا داعٍ لصرف المال سدىً.

 

ـ لكنّ المكان... قذر وهذا يُضرّ بكِ في حالتكِ.

 

ـ لا عليكِ، سيعود زوجي بعد فترة قصيرة وسيولَد الطفل في مكان جميل للغاية.

 

بعد ذلك اليوم، صرتُ أزور نجوى في بيتها وأجلبُ لها الأكل والشرب، لأنّني شعرتُ أنّها لا تتغذّى جيّدًا، ممّا قد يُفسّر عدم كبر بطنها.

لكنّ بطن نجوى لَم يكبر أبدًا، ويوم حان موعد الولادة أحسَّت صديقتي بآلام شديدة فأخذتُها إلى المشفى. هناك قالوا لي إنّ نجوى ليست بحامل، الأمر الذي فاجأني ولكن ليس كثيرًا. فطوال أشهر، كنتُ أشكّ في هذا الحمل الغريب، لكنّني بقيتُ أقنعُ نفسي بأنّ نجوى قد تكون مِن النساء القليلات اللواتي لا تظهر عليهنّ علامات الحبَل.

طلبتُ لنجوى طبيبًا نفسيًّا، بعدما شرحتُ للقيّمين أنّ صديقتي تعتقدُ أنّها فعلًا حامل وأنّها ستُصاب بصدمة كبيرة عندما تعرفُ أنّ لا جنين في بطنها. وبعد ذلك، أخذتُ أواسيها واقوّل لها إنّ الولادة متأخّرة بعض الشيء.

جاء الطبيب المُختصّ، وأخَذَ منّي المعلومات اللازمة وطلَبَ منّي الاتّصال بذويها. كنتُ على وشك الردّ بأنّ أبوَيها متوفّان، إلا أنّ شيئًا في داخلي قال لي إنّ عليّ التأكّد بنفسي مِن ذلك، فكلّ الذي قالَته لي نجوى كان مِن نسج خيالها.

قصدتُ منزل أهل نجوى القديم، وقرعتُ الباب على أمل أن يُجيب أحد. وبعد ثوانٍ، فتحَت لي أمّها ولحِقَ بها أبوها وأدخلاني بسرعة بعدما قلتُ لهما إنّ ابنتهما في المشفى. وبعد أن طمأنتُهما على أنّها بخير، وقلتُ لهما إنّ سبب وجودها في المشفى هو حمل وهميّ، هزّ أبوها برأسه وقال لي:

 

ـ المسكينة... يا لَيتنا لَم نُسافر... كلّ متاعبنا جاءَت مِن ذلك الشاب الأجنبيّ... فعندما كانت نجوى في الجامعة هناك، أحبَّت زميل لها وبدآ بالخروج سويًّا. ثمّ قرّرا الزواج إلا أنّ العريس تركَها بعد أن حمِلَت منه. أخذناها إلى عيادة طبيب نسائيّ قامَ بإجهاضها كي لا ندمّر مستقبلها. وكانت تلك بداية غوص إبنتنا في الجنون. فهي لم تتقبّل ترك حبيبها لها بعد أن حبلَت منه ورفَضَ الإعتراف بأبوّته والزواج منها، بل صارَت تتخايل أنّ الجنين لا يزال في بطنها وأنّ ذلك الوغد سيعود ليتزوّجها. وعندما لم تنفَع معها جلسات الطبّ النفسيّ، عُدنا بها إلى البلد كي تشعر بأنّها في مكان مألوف عاشَت فيه قبل مصيبتها، وكي يتّسنى لها البدء مِن جديد. لكن بعد أقلّ مِن سنة، غادَرَت نجوى بيتنا واختفَت. لم تقل لنا عن مكان سكنها، لكنّها بقيَت تهاتفنا بين الحين والآخر. فتّشنا عنها كثيرًا فلَم نجدها واكتفَينا بمكالماتها القليلة. ثمّ علِمنا منها أنّها حامل وأنّها تنتظر قدوم زوجها مِن السّفر، وهو أمر لم تكفّ عن تخيّله. نحمد الله على أنّكِ وجدتِها أخيرًا، وسنحاول جهدنا لعدَم تركها تهرب مِن جديد.

 

رافَقَني والدا نجوى إلى المشفى حيث رأيا أخيرًا إبنتهما، وعلِما مِن الطبيب أنّ عليها دخول قسم الأمراض النفسيّة.

بكيتُ كثيرًا على صديقة عمري، لأنّني كنتُ أعلَم أنّ شفاءها صعب وطويل الأمد، لكنّ عزائي أنّ الطبّ النفسيّ أحرَزَ تقدّمًا ملحوظًا وقد تستعيد نجوى يومًا رشدها وتعود الإنسانة الفرِحة التي كنتُ أعرفُها.

لقد مضى على دخول نجوى قسم الأمراض النفسيّة ثلاث سنوات، ويقول الأطبّاء إنّها بحالة أفضل، لكنّها ليست جاهزة بعد لمواجهة الواقع. أزورُها باستمرار، ومِن وقت لآخر تضع نجوى يدها على بطنها وتبتسم!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button