عندما يتدخّل الشيطان

عملتُ كمدبّرة منزل عند السيّد عمّار حوالي العشرين سنة، وواكبتُ أحداث حياته العائليّة والمهنيّة، ولم أتصوّر أن يحصل هذا حصل له. وحتى اليوم أسأل نفسي كيف لإنسان مثله أن يُدمّر كلّ ما بناه ولماذا.

كان السيّد عمّار يعمل بمجال التجميل، وبفضل مهارته وذوقه الرّفيع، إستطاع بلوغ شهرة تخطَّت حدود البلاد.

وصلتُ إلى بيته فور زواجه مِن رنده التي كانت تصغره بحوالي العشرين سنة. وكانت تلك المرأة جميلة طبعًا وتحبّ كلّ ما يلمع، ووجَدَت بزوجها مصدراً لإشباع كلّ ما ترغب به مِن مجوهرات وثياب وسفرات. ولأنّه كان رجل كريم، لم يرفض لها طلبًا.

 

والجدير بالذكر أنّ السيّد عمّار كان يتحلّى بإيمان عميق، ولم يفوّت يومًا فروض الصّلاة، الأمر الذي كان يُدهش الكثيرين بسبب مهنته التي كانت تفرض عليه الإختلاط الدائم بالنساء. ولكنّه لم يكن مِن الذين يخونون نساءهم، خاصّة أنّه كان يُحبّ زوجته بشكل كبير.

 

هل كانت تحبّه بالقدر نفسه؟ لا أظنّ ذلك، فتلك المرأة لم تحبّ إلا ذاتها، فحتى عندما أنجبَت ولدها رمَته على المربيّة لتتمكّن مِن متابعة رحلات التسوّق والزيارات إلى سيّدات المجتمع.

 

كنتُ أذهب مرارًا إلى المحلّ مع السيّد عمّار لأساعده، وسمعتُ الكلام الذي كان يُتداول عن رنده وعن جشعها. ورأيتُها أكثر مِن مرّة تدخل مِن دون أن تحيّي أحدًا، وتفتح صندوق المحل وتأخذ منه الغلّة كلّها لأنّها "رأت عقدًا جميلاً في المجلة وتريد شراءه". أمّا هو فكان يبتسم ويُبارك لها بالمشتريات الجديدة.

 


ومع مرور السّنوات، بدأ السيّد عمّار يشعر بوحدة عميقة بسبب إهمال زوجته له ولا مبالاة إبنه. فذلك الولد كبر ليصير معدوم الشفقة، لأنّه لم يحصل على عاطفة أمّه أو انتباه أبيه الذي كان يعمل على مدار الساعة. ورأيتُ بعَيني عائلة تغرق في بحر الإنقسام ومِن بعده الضياع.

أعتقد أنّ لعودة أخ رنده مِن المهجر دورًا مهمًّا على باقي الأحداث.

فقد كان عماد شابًا وسيمًا جرّب حظّه لبضع سنوات في الخارج ليعود إلى بلده مطلّقًا ومفلسًا وفي رأسه شيء واحد: تمضية وقت ممتع وجمع المال في آن واحد. ووجَدَ في السيّد عمّار الرفيق أو الضحيّة المناسبة.

وبات يأخذه معه إلى سهرات الميسر مرّة في الأسبوع ومِن ثم بشكل شبه يوميٍّ. لماذا قَبِلَ السيّد أن يُرافقه بالرّغم مِن أخلاقه العالية ومعرفته أنّ الميسر حرام؟ لملء فراغ تغلغل في نفسه.

 

وبعد تفكير عميق، أستطيع القول إنّه وقَعَ فعليًّا بين مخالب الشيطان الذي كان يختبئ في عماد.

ومنذ ذلك الوقت، بدأ انهيار رجل وزوجته وولده وبيته ومهنته. فبات السيّد عمّار هو الذي يُفرغ صندوق محلّه ولا يترك شيئًا لزوجته. وتراكمَت الدّيون عليه، لأنّه وبكلّ بساطة لم يكن يُحسن لعب الميسر. فكيف لرجل عاش حياته بخوف الله أن يتغلّب على مكر مَن قضى عمره على طاولات الورق والروليت والباكارا؟

 

وبعد أن باعَ معدّات المحل ومحتوياته، قرَّرَ بيع المحلّ مرَّتَين كي يكسب مبالغ أكبر. ودخَلَ دوّامة الملاحقات القانونيّة، وأنا أتفرّج على انهياره عاجزة عن مساعدته. وقد كنتُ أكنّ للسيّد عمّار إحترامًا كبيرًا ومعزّة عميقة بعد أن عاملَني بلطف واحترام. فلم يكن مِن الذين يحتقرون الخدم، بل يُقدّر ظروفهم ويقول باستمرار: "إذا أنعم الله عليّ فذلك لأساعد الآخرين في محنتهم".

هكذا كان، على الأقل قبل مجيء عماد.

 

أمّا رنده، فساءَت حالتها المعنويّة والجسديّة بعدما أدرَكَت أنّها لن تعيش كما في السابق، وأنّها خَسِرَت زوجها المحبّ والكريم. فهو لم يعد يُنفق عليها بل باعَ مجوهراتها وقسماً مِن الأثاث ولم يعد قادرًا طبعًا على دفع راتبي. وبالرّغم مِن ذلك بقيتُ معهم، لأنّهم كانوا عائلتي ومِن واجبي تحمّل مصائبهم.

 

وما قضى على صحّة رنده كان رهن السيّد للبيت الذي كانت تعيش فيه. حينها، علِمَت أنّ كلّ شيء إنتهى وأنّ الأمر سينتهي بهم في الشارع. وقضَت وقتها في المشفى ليكتشف الأطبّاء في جسمها أخيرًا ورمًا خبيثًا لا يرحم.

 


وحينها فقط أدركَ السيّد عمّار ما إرتكبَه. ولكن كان الأوان قد فات. ورأيتُه ينام كلّ ليلة على الأرض قرب سرير زوجته المحتضرة، وكنتُ أبكي مِن الحزن. أمّا ابنهما، فلم يكترث لما كان يجري وخاصة لأمّه. فهي كانت بالنسبة إليه إمرأة سكنَت معه في البيت ذاته فقط.

آخر أيّام رنده كانت مؤلمة لها وللسيّد الذي كان يبكي كالطفل وهو يُمسك بيدها، ويهمس لها بكلمات لم أستطع سماعها أو فهمها، ولكنّني متأكّدة أنّها كانت كلمات اعتذار ونَدَم.

وماتَت رنده، وبعد دفنها بأيّام قليلة قال لي السيّد:

 

ـ أشكركِ يا سميرة على ما فعلتِه لنا مذ جئتِ إلى البيت... لم نشتكِ منكِ ولو مرّة، ولَم تزعجي أحدًا بل كنتِ خفيفة ومحبّة... أخجل منكِ لأنّني أعلم كم كنتِ تحترميني قبل أن...

 

ـ ولا أزال، يا سيّدي.

 

ـ لا... فأنا لم أعد أحترم نفسي بل أمقت الرّجل الذي صرتُه... لم أعد أملك شيئًا وتركَني الجميع... ذهَبَ الأصدقاء وماتَت زوجتي وراحَ إبني يعيش عند خالته...

 

ـ لم أترككَ، يا سيّدي.

 

ـ أعلم ذلك يا سميرة، ولكنّني أنا الذي سيترككِ... أنا مسافر... لدَيَّ أقارب خارج البلاد وقبلوا أن يأووني لبعض الوقت... لا أستطيع البقاء هنا، فأنا مدين للكثير مِن الناس والبنوك، وسيأتون لوضع اليد على البيت بعد أيّام...

 

ـ أتفهّم وضعكَ، سيّدي.

 

ـ أين ستذهبين؟ ماذا ستفعلين؟

 

ـ لا تخَف عليّ... إهتم بنفسكَ جيّدًا، يا سيّدي، فأنتَ تبدو لي تعبًا للغاية... عليكَ رؤية طبيب.

 

ـ لا أريد أطبّاء! لا أريد شيئًا سوى أن أرحل مِن هنا بعيدًا عن الذكريات... أريد أن أنسى ما فعلتُه، فهنا كلّ شيء يُذكّرني بِرنده وإبني وعملي... عملي... كنتُ الأفضل! كانت تأتي النساء مِن كلّ أنحاء البلاد والعالم بحثًا عن الجمال... كيف وصَلَ بي الأمر إلى هذا الإنحطاط، يا سميرة؟ كيف؟

 

وسافَرَ السيّد عمّار، وعدتُ إلى بيت أهلي الذي أشتاق إليّ. وانقطَعت أخباره نهائيًّا. حاولتُ معرفة المزيد مِن إبنه، ولكنّه لم يسأل عنه ولم يكن يُريد ذلك.

تابعتُ حياتي بعد أن وجدتُ عملاً في أحد المنازل، ولكنّ السيّد عمّار بقيَ في بالي طوال السّنوات.

ولم أعرف شيئًا عن مصيره إلى أن سمعتُ حديث أحد ضيوف أرباب عملي الجدد:

 

ـ المسكين... كانت زوجتي تقصده في كلّ مناسبة... كان الأفضل... رحمه الله.

 

عندها ركضتُ أختبئ وراء باب الصالون لِسماع ما يُقال.

وتابعَ الرجل:

 

ـ مات فقيرًا... بعدما كان قد بلَغَ الثراء... سمعتُ أنّه قضى آخر أيّامه في غرفة صغيرة مِن دون أيّ مدخول... ومِن كثرة حسرته وقلّة المال، إنتكسَت صحّته ومات... كيف لرجل مثله أن ينتهي هكذا؟

 

إمتلأت عَيناي بالدّموع وقلتُ بصوت خافِت:

ـ رحمكَ الله، يا سيّدي... وجازى مَن كان السبب... أرجو أن تكون نفسكَ قد وجَدَت الرّاحة أخيرًا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button