عشت حياة أختي التوأم

استرخيتُ في أريكتي المفضّلة بعدما تناولتُ وجبة طعامٍ وفيرة مع أبناء أختي وعائلاتهم. ففي عمري بات استقبال الناس أمراً متعباً. جاءت واحدة من حفيدات أختي وجلست معي فيما كان باقي الأولاد يلعبون في الصالون. ولمّا أمرتهم بالكفّ عن إحداث الضجة، سألتني حفيدة أختي:

- خالتي سلوى، ألم تنجبي الأطفال لأنّك لا تحبّينهم؟
- لا يا عزيزتي بل لأنّني لم أتزوّج قطّ. لكن لديّ أباك وأختاه وأنتم. وأنا أحبّكم جميعاً.
- ولمَ لم تتزوّجي؟
هذا السؤال العنيف البريء أعادني إلى ماضٍ كنت أفضّل نسيانه.
- اذهبي والعبي مع الأولاد.
لم أشأ أن ترى دموعي ولا أن تعرف السبب الذي دفعني لأضحّي بحياتي.

كانت لي أختٌ توأم اسمها نجوى. ولدتُ قبلها ببضع دقائق، ما دفعني لأشعر على الدوام بأنّني الولد الأكبر الذي يحمي الأصغر. وبديهياً، كنّا لا نفترق أبداً.

لاحقاً، أغرمت أختي بجنون بشابٍ لا يستحق الاحترام فلاحظت على الفور أنّ سامر رجلٌ بغيض ورحت أحاول أن أنصح نجوى وأن أفتح عينَيها. ولكن عبثاً حاولت. تزوّجا! ولم يطل الأمر حتّى بدأت المشاكل تظهر. كان سامر رجلاً سافلاً سكّيراً يخونها ويضايقها جسدياً ونفسياً. حتى بلغت به الوقاحة حدّ التقرّب منّي إلاّ أنّي لم أذكر الأمر أمام نجوى لأنّ ذلك لن يغيّر شيئاً، فكنت لا أزورها إلاّ عندما يكون غائباً عن المنزل حتى أتفادى تلميحاته ونظراته المنحرِفة. كانت تعيش في جحيمٍ حقيقي غير أنّ الطلاق كان غير واردٍ وخصوصاً مع ثلاثة أطفال، فتاتين وصبي، هم أيضاً مستاؤون من والدٍ قاسي القلب. تحمّلت نجوى كل معاناتها بصمتٍ مخفيةً عن الجميع الكدمات والذل والعار إلى أن ماتت بسرعة جرّاء مرض السرطان، لحسن حظّها!! لكن قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة طلبت منّي راجيةً أن أعتني بأولادها.

ما إن دُفنت نجوى حتى راح سامر يبحث عن زوجةٍ جديدة. لكني ما كنت لأسمح بذلك، فمن يدري كيف كانت ستعامل تلك الغريبة أولاد أختي، وهم أصلاً ضحية والدهم؟ ثمّ علمتُ أنّه يخطّط لإرسالهم إلى مدرسة داخلية. أولئك الأطفال هم كل ما بقي لي من شقيقتي الغالية، من نصفي الثاني الذي أشتاق إليه كثيراً، لذا وجب عليّ أن أتصرّف لأمنعه من فعل ذلك.

في تلك الفترة كنت مخطوبة لشابٍ فاتن عشقني وكنّا سنتزوّج عندما ينتهي من بناء منزله، بيد أنّني اتّخذت قراراً صدم الجميع! حزمت أمتعتي، حملت حقيبتي وذهبت أقرع باب ذاك الوحش، صهري، وأطلب منه أن يسمح لي بالاعتناء بأولاده وتربيتهم تماماً كما كانت أختي ستفعل. لقد قطعت وعداً وسألتزم به مهما كان الثمن. في البداية أراد طردي لكنّي لم أكن أملك خياراً آخر سوى إقناعه. علمت أنّني لطالما أعجبته لذا قدّمت له نفسي حتى أكون بالقرب من أولاد أختي ووعدته بأن أخضع لكل رغباته وأن أطبخ وأنظّف شرط أن يسمح لي بالبقاء... وقَبِل.
من دون شك أثار هذا الأمر النميمة. ولمَ لا؟ فقد اتّهموني بقتل أختي لآخذ مكانها! كما نعتني خطيبي السابق بأبشع الصفات وراح يخبر الجميع أنّني كنت أتظاهر بالطهارة والعفة بينما لم أكن سوى ساقطة. تحمّلت الكثير وفي بالي أنّ أولاد أختي سيتفهّمونني يوماً ما. كان هذا كل ما يهمّني.

كانت تضحيتي شرّاً لا بدّ منه، فكان سامر يعود كلّ ليلة إلى البيت سكرانَ يقلب كل ما في طريقه ويشتم ويحاول التعرّض للأولاد الذين كانوا يحتمون بي. فيسيطر جوٌّ من الشتائم والهلع، لكنّه لم يجرؤ يوماً على مدّ يده عليّ إذ كنت أخجله لأنّه يدرك تماماً أنني لا أهابه ويرى في عيني نظرات الاحتقار ويحس باشمئزازي منه في الليل عندما يحاول أن يلمس جسمي بيديه الوسختين.

مرّت 15 عاماً على هذه الحال، ومع انقضاء الوقت نسي الناس قصّتي وما عادوا يهتمّون بل باتوا يشفقون عليّ. قمت بدور الزوجة المثالية على الرغم من أنّني لطالما رفضت الزواج به فكانت تقرفني فكرة أن أحمل اسمه. فليفعل ما يريد، أنا لن أتزوّجه أبداً.
ولمّا بلغ ابن أختي الصغير رشده جمعت أغراضي وانتقلت إلى منزل والدَيّ اللّذَين توفّيا في خلال تلك الفترة بسببي لكثرة ما سمعا من الناس عنّي. لكنّي ما كنت لأتراجع عن قراري لأي سبب في العالم، فإنّ أولاد أختي بحاجة إلي.
أصيب سامر بمرضٍ خطير وبات عاجزاً قبل أوانه بفعل الكحول. كان يجدر بي تركه ينطفئ وحده انتقاماً منه لكنّني أشفقت عليه كما لو كان حيواناً مريضاً متروكاً. بات عاجزاً عن الإتيان بأية حركة وتركه أولاده ليواجه المصير الذي يستحقّه. فوضّبت حقيبتي من جديد وعدت لأهتمّ به وبقيت حتى آخر لحظة من عمره أُطعمه وأغسله. قبّل يدي وهو يبكي على فراش الموت. لم ينبس ببنت شفة لكنّي قرأت الندم في عينيه ومات وهو مرتاح لأنّي سامحته.

أمضيت حياتي بجانب رجلٍ أتعسَني وأتعس أختي وأولادها وها هو الوحش يرقد بسلام في مضجعه. ذرفت الدمع وارتحت لأنّني أتممت مهمّتي وأصبح باستطاعة نجوى أن ترقد بسلام أخيراً. حتى الآن عشت حياة أختي، واليوم جاء الوقت لأعيش حياتي. لكنّ هذه الحرية المفاجئة أخافتني إذ لم أعد أملك شيئاً ولا أحداً ولا حتى أعرف كيف أفرّح نفسي. لكن على غرار القول المأثور: "ما تزرع تحصد" فإنّ "أولادي" يعتنون بي تماماً كما فعلت معهم. واليوم، على الرغم من أنّهم كبروا وأصبح لهم أولاد، ما زلت أراهم أطفالاً خائفين ليس لهم ملجأ سواي. لقد وحّدنا الألم والظلم وما من شيء على الإطلاق يمكنه أن يفسخ هذا الرابط المقّدس.

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button