عائلتي الحقيقيّة

حتى سنّ السادسة، كنتُ أعتقد فعلاً أنّ عمّتي هي أمّي وأنّ والدَيَّ الحقيقيّن هما أقارب لي. ثمّ، ذات يوم أخَذَتني منيرة جانبًا وقالت لي:

 

ـ حبيبتي... ما سأقوله لكِ بغاية الجدّيّة، ولو عادَ الأمر لي، لما قرَّرتُ إجراء هذا الحديث معكِ... هل تدركين كم أحبّكِ؟

 

ـ أجل، يا ماما.

 

ـ ستدخلين المدرسة بعد أشهر، وستكتشفين ربّما أنّ أسماء أناس تعرفينهم جيّدًا سيردون على أوراقكِ في المدرسة... يا إلهي، لا أدري مِن أين أبدأ...

 

ـ ما الأمر، يا ماما؟

 

ـ إسمعي... حين وُلِدتِ نظرتُ إليكِ وأنتِ تبكين كسائر الأولاد، وشعَرتُ بحنان لم أعرفه مِن قبل، فطلبتُ مِن أخي، أي أبيكِ، أن يسمح لي بتربيتكِ.

 

ـ أبي هو أخوكِ؟

 

ـ أجل... لا أقصد أنّني تزوّجتُ مِن أخي يا صغيرتي، بل أنّكِ إبنة أخي وزوجته... تعرفينهما... خليل وسهى.

 

ـ ماذا تقولين؟!؟

 

ـ لم أتزوّج يومًا وقلبي كان يتوق لوجود طفل في حياتي. وبما أنّ أخي كان لدَيه خمسة أولاد، أخذتُكِ منه.

 

ـ يعني ذلك أنّ أبي لم يمت بعد أشهر قليلة مِن ولادتي؟

 

ـ لا... إنّها قصّة اختلقتُها لأبّرر عدم وجود زوج في البيت معنا.

 


ـ أنا لا أصدّقكِ! أنتِ كاذبة! لم تعودي تحبّيني وتريدين التخلّص منّي! أنا أكرهكِ!

 

ركضتُ أختبئ في غرفتي وبكيتُ كثيرًا، فقد كان الخبر أخطر مِن أن تستوعبه فتاة بسنّي. إلى جانب ذلك، كانت منيرة عالمي بأسره وأولئك الناس غرباء لا أستلطفهم حتى. ناهيك عن الأولاد الذين كلّما جاؤا لزيارتنا، يتصرّفون بوقاحة وغلاظة. وها أنا أكتشف أنّني ابنة استُعيرت مِن عائلة لا أطيق التواجد معها. ماذا سيحصل لي بعدما كُشِفَ السرّ؟

بقيتُ في غرفتي يومَين كاملَين لا أخرج منها إلا لدقائق قليلة. لم أكن أريد رؤية المرأة التي كذبَت عليّ مدّة ستّة أعوام ولم أعد واثقة مِن حبّها لي.

في اليوم الثالث، جاءَت عائلتي الحقيقيّة لرؤيتي بعدما أخبرَتهم منيرة أنّها باحَت لي بالحقيقة. حاولَت سهى أخذي بين ذراعَيها، لكنّني لم أسمح لها بذلك، ونظَرَ إليّ خليل بمزيج مِن الخوف والخزيّ. أمّا بالنسبة لأولادهم الذين كانوا حتى ذلك الحين يجهلون الحقيقة، فأخذوا يُحدّقون بي وكأنّني مخلوقة قادمة مِن عالم آخر.

وعَدَتني منيرة بأنّها لن تجبرني على العودة إلى عائلتي بصورة نهائيّة، لكنّها قالَت إنّ عليّ محاولة استيعاب الواقع. وكي أتمكّن مِن ذلك، نصحَتني بقضاء بعض الوقت مع هؤلاء القَوم، أي خلال الفرصة الصيفيّة.

رفضتُ بقوّة مِن كثرة خوفي مِن أن يُبقوني عندهم، وبدأتُ بالبكاء والصراخ. عندها أخَذَتني منيرة إلى غرفتي وقالت لي:

 

ـ حبيبتي... أبواكِ مشتاقَين إليكِ كثيرًا ويُريدان التمتّع بوجودكِ بالقرب منهما قليلاً... صحيح أنّني لم ألدكِ، إلا أنّكِ ابنتي ولن يُغيّر أحد أو شيء هذه الحقيقة... إذهبي معهم، فقد تمضين وقتًا جميلاً برفقتهم... سأزوركِ يوميًّا، أعدكِ بذلك.

 

إقتنَعتُ بكلام عمّتي، وحضّرتُ حقيبة صغيرة، ورافقتُ الذين أعطوني لمنيرة مِن دون جدال أو نَدَم.

كان منزل خليل وسهى صغيرًا للغاية ومليئًا بالأولاد، وشعَرتُ عند دخوله بصعوبة بالتنفّس. قدّموا لي ما آكله بينما بقيَ إخوتي وأخواتي ينظرون إليّ بإمعان. ثمّ قادوني إلى الغرفة التي كنتُ سأتقاسمها مع اثنَين مِن اخوَتي، فوضعتُ أمتعَتي بقسم مِن الخزانة وجلستُ على السرير أسأل نفسي لماذا تلك الأشياء تحصل لي.

كان مِن الواضح أنّ والدَيَّ لم يكونا مِن الأثرياء بل العكس. في بيتهم لم أجد وسائل الراحة التي كانت عند منيرة، بل تهافت مخيف على الأكل عند كل وجبة. ولأنّني كنتُ أشعر أنّني غريبة وسطهم، لم يتسنَّ لي أن آكل شبَعي. فهناك كان الأسرع يأكل قبل غيره.

فهمتُ إسراع والديّ بإعطائي لمنيرة، إذ كنتُ عبئًا إضافيًّا على كاهل أناس لم يفهموا أنّ الانجاب بكثرة يجلب الفقر، لكنّني لم أسامحهما على الذي اعتبَرتُه تخلٍّ محض.

 


حاوَلَ المسكينَان التقرّب منّي إلأ أنّني بقيتُ أتصرّف وكأنّهما أقارب فقط. أمّا الأولاد، فكانوا يتجنّبوني قدر المستطاع، وكأنّني أحمل مرضًا معديًّا. والذي كان يُساعدني على اجتياز تلك الفترة العصيبة، كان أملي بالعودة إلى "أمّي".

لكنّ تلك العودة لم تحصل، ليس لأنّ منيرة لم تعد تريدني، بل لأنّها ماتَت. ماتَت حين كنتُ بأمسّ الحاجة إليها. ماتَت وانهارَ عالمي مِن حولي. لاحقًّا، عندما كبرتُ قليلاً، إستوعَبتُ أنّ عمتّي لم تقصد التخلّي عنّي بل رحَلَت بالرغم عنها بعدما توقّف قلبها فجأة عن الخفقان. وأنا متأكّدة اليوم مِن أنّني كنتُ آخر ما فكّرَت به قبل أن تُغمِض عَينَيها إلى الأبد.

بعد مراسم الدّفن أخذَني أهلي إلى بيت منيرة لأجلب باقي أغراضي وأعيش بصورة دائمة معهم. فكّرتُ بالهرب بعيدًا، إلا أنّني لم أجد مكانًا ألجأ إليه. ولحسن حظّي كان قد حان الوقت للعودة إلى المدرسة لأقضي معظم نهاري بعيدة عن أهلي.

أخبرتُ زملائي في المدرسة عمّا حصل لي في حياتي، الأمر الذي جَلَبَ لي تعاطفهم واهتمامهم، وكنتُ سعيدة لأنّني مميّزة. حتى المدرّسة عاملَتني بطريقة خاصّة لأنّها أدركَت كم أنّ وضعي دقيق. ومنذ تلك اللحظة بالذات، وضعتُ لنفسي هدفًا واحدًا: أن أجتهد قدر المستطاع لأترك يومًا ما أسمَيتُها "القبيلة" ويكفّ الناس عن الشفقة عليّ.

عشتُ غريبة بين ذويّ لسنين طويلة، ولكن على مرّ الأيّام تعلّمتُ كيف أعتاد على هؤلاء الناس وأمثّل دور الفتاة السعيدة. هم عملوا جهدهم لحملي على نسيان ما فعلوه بي وصرتُ الإبنة المدلّلة مِن قِبَل الجميع. ولكن مهما عملوا، كنتُ أحمل في قلبي حزنًا وحقدًا لا مثيل لهما.

بدأ إخوَتي بالعمل، الأمر الذي جلَبَ لنا الراحة الماديّة، ولم نعد نتعارك حول الطعام أو الملْبس وخفّ الشجار في البيت. وأنا كنتُ قد أصبحتُ صبيّة جميلة وفالحة، أحصد في المدرسة علامات مشرّفة حتى أنّني نلتُ منحة لدخول جامعة مرموقة في العاصمة. كنتُ، وبفضل إصراري وتصميمي، قد وصلتُ إلى هدف وضعتُه لنفسي قبل اثنتَي عشر سنة.

حضّرتُ حقيبتي بسرعة فائقة، الأمر الذي لم يغب طبعًا عن نظر والدَيَّ، وأدركا أنّني لم أكن أطيق المكوث معهم كلّهم، وأنّني لم أكن يومًا ابنتهما. أخَذَني خليل جانبًا وقال لي والدمع يملأ عينَيه:

 

ـ سترحلين مِن هنا غدًا وأعلم أنّكِ لن تعودي. أريد منكِ أن تصغي إليّ جيّدًا... يوم طلبَت منّي منيرة أن تحتفظ بكِ وأن تربّيكِ بعيدة عنّا، شعرتُ وكأنّ قسمًا منّي يُسلَخ عنّي... صحيح أنّنا كنّا قد أنجبنا خمسة أولاد قبلكِ، ولكن كل واحد منكم مميّز وله مكانة خاصة في قلبنا... والسبب الوحيد الذي حمَلَني على الموافقة على طلَب أختي، هو يقيني مِن أنّكِ ستحظين بحياة أفضل... صحيح أنّنا كنّا فقراء، إلا أنّني عملتُ جهدي لتأمين لقمة العيش لعائلتي... صحيح أنّنا لم نكن نملك شيئًا، لكنّنا بقينا ملتحمين خلال فترة العوز... هذا هو معنى العائلة وهذا ما أرَدنا أن تشعري به عند قدومكِ إلينا... لكنّ غضبكِ منعكِ مِن رؤية السعادة التي هي موجودة في هذا البيت الصغير، وهذا مؤسف للغاية، فالمشاعر السلبيّة تمنع صاحبها مِن الاستمتاع بالحياة ورؤية جمالها، وأرجو أن يعرف قلبكِ يومًا الطمأنينة وأن تحبّينا ولو قليلاً."

تأثّرتُ بكلام أبي ولكن ليس لدرجة تغيير مسار مخطّطي. قبّلتُ الجميع ورحلتُ مِن دون أن أنظر خلفي.

حياتي في الجامعة كانت سعيدة جدًّا، ونسيتُ أمر والدَيَّ واخوَتي إلى حين تعرّفتُ إلى شاب أُغرِمتُ به وهو كذلك. صمَّمنا على ربط حياتَينا، ومرّة أخرى أصبح لي هدف أعمل لأجله. أخبرتُه طبعًا قصّتي مضيفة أنّ الأمر صارَ ورائي.

وحين أعرَبَ حبيبي عن نيّته بالتعرّف إلى ذويّ وطلَب يدي منهم، شعرتُ بتردّد كبير، إلا أنّني لم أكن قادرة على رفض طلبه فأعلَمتُ أبي أنّني وعريسي المستقبليّ قادمَان لزيارتهم.

حين وصَلنا أمام باب أهلي، بدأ قلبي بالخفقان بسرعة فائقة، ولو استطعتُ لعدتُ أدراجي.

لكن عندما فَتَحَ أبي الباب ورأيتُ الجميع واقفًا لاستقبالنا والبسمة على وجوههم، إمتلأ قلبي بدفء لم أشعر به يومًا.

إستدرتُ نحو حبيبي وقلتُ له:

 

ـ هذه عائلتي التي أفتخر بها".

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button