طلبَ منّي أن أساعد طفله المريض

فور ركوبي تلك السيّارة، شعرتُ أنّ شيئاً لم يكن على ما يرام. كنتُ قد حاولتُ من أمام مكان عملي، الإتصال بمكتب التاكسي ولكنّ جميع الخطوط كانت مشغولة، فلم يبقى لي خياراً سوى إيقاف سيّارة أجرة عن الطريق. جلستُ في الخلف كما تجري العادة وأقلعَ بي. وبعد بضعة دقائق، نظرَ السائق إليّ من خلال مرآته وقال لي:

 

- فتاة جميلة مثلكِ لا يجب عليها أن تنتظر هكذا على الطريق...

 

- لديّ سيّارة ولكنّها معطّلة.

 

سكت الرجل ثمّ عاودَ التحدّث معي:

 

- عليّ التوقّف عند صديق لِجلب شيئاً... هل يزعجكِ الأمر؟ لن يستغرق الأمر أكثر من دقيقتين.

 

- أفضّل أن توصلني إلى البيت أوّلاً فأنا في عجلة من أمري.

 

- حسناً...

 

بانَت على وجهه علامات الإستياء ولكنّني تجاهلتُه، لأنّني كنتُ تعبة بعد نهار طويل في العمل وأنتظر بفارغ الصبر الوصول إلى البيت لأرتاح. ولكنّ السائق إبتعدَ عن الطريق التي عليه أخذها وعندما سألتُه لماذا فعلَ ذلك أجابني:

 

- إنّه طريق مختصر... أتجنّب الزحمة الموجودة على الجهّة الأخرى... سنصل بأقل وقت... سترين...

 

وفي تلك اللحظة بدأ قلبي يدقّ بسرعة. كان قد هبطَ الليل وأصبحنا في منطقة خالية من المنازل والسيّارات ولم أكن أعلم أين ينوي أخذي. وضعتُ يدي على مقبض الباب لأحضّر نفسي للقفز في حال إحتجتُ إلى الهروب. مرَّت دقائق طويلة خلتُ أنّها لن تنتهي، ثمّ وصلنا إلى بيت في وسط حقل صغير. أوقفَ السائق السيّارة وترجّلَ ودخلَ البيت. وقبلَ أن أقرّر إن كان عليّ الخروج والبدء بالركض كان قد عادَ قائلاً:

 

- أرأيتِ... لم تنتظري أكثر من دقيقة.

 

لم أجبه من كثرة خوفي وكل ما أردتُه في تلك اللحظة هو أن يقودني بعيداً عن ذلك المكان. وعندما وصلنا إلى منطقة مأهولة قلتُ له بغضب:

 

- سألتَني إن كان لديّ مانع أن نتوقّف عند صديقكَ وأجبتُكَ أنّني أريد الذهاب فوراً إلى البيت ولكنّكَ تجاهلتَ إرادتي. هذا أمر غير مقبول!

 

- عذراً... ولكنّ الأمر ملحّ...

 

وبعد دقائق أوقفني أمام منزلي وخرجتُ بسرعة دون أن أنظر خلفي. كنتُ مستاءة جداً لما حصل، لأنّني خفتُ كثيراً ووعدتُ نفسي ألّا أتنقّل مع سائق لا ينتمي إلى مكتب رسميّ. ولكن في اليوم التالي وفي لحظة خروجي من العمل وجدتُ ذلك السائق واقفاً على الرصيف وكأنّه ينتظرني. ركضَ إليّ وقال:

 

- أتتذكرينني؟ أنا سائق التاكسي الذي ركبتِ معه البارحة.

 

- أجل... وكيف أنساك؟ ماذا تريد؟ لقد دفعتُ لكَ أجرتكَ أليس كذلك؟

 

- أجل لقد دفعتِ لي ولكن... أنا بحاجة إلى مساعدتكِ... ذلك الصديق الذي قصدتُه في الأمس...كان سيعطيني مالاً لإبني... ولكنّه لم يفعل.

 

- لا تكمل! أنا لستُ غبيّة! تحاول أخذ مالاً منّي؟

 

- دعيني أتكلّم... أرجوكِ...

 

- بسرعة فأنا أنتظر سيّارة لأعود إلى البيت.

 

- حسناً... لديّ إبن صغير وهو الآن في المستشفى... ولِدَ بعد سبعة أشهر وقلبه لم يكتمل كليّاً... علينا وضعه في جهاز التحضين لمدّة شهرين على الأقل والتكاليف باهظة جداً... ليس لديّ أي تغطية طبيّة وقد يموت...

 

- أنا آسفة ولكنّني لا أصدّقكَ.

 

- كنتُ أعلم أنّكِ ستقولين هذا... أقسم لكِ...

 

- هذا لن يفيدكِ...دعني وشأني من فضلكَ.

 

- ما عليّ فعله لكي تصدّقيني؟ أرجوكِ... إن مات طفلي...

 

- لن يموت أحد! هل أبدو غبيّة إلى هذا الحد؟ إذهب من هنا قبل أن أنادي الشرطة! هيّا!

 

نظرَ إليّ السائق بحزن وقال لي:

 

- ليسامحكِ الله... سيموت ولدي...

 

ثمّ رحل ووصلَت السيّارة التي طلبتُها وصعدتُ بها وعدتُ إلى البيت. ولكن في تلك الليلة لم أنم جيّداً. ساورتني الشكوك، فماذا لو كان يقول الحقيقة؟ هل يُعقل أن أكون قد ظلمتُه؟ لستُ غنيّة ولكنّني أستطيع إعطاءه مبلغاً صغيراً يكفيه ريثما يجمع الباقي. ثمّ طردتُ تلك الأفكار من رأسي لأنّني لم أكن أريد أن أقع ضحيّة نصّاب. ولكن في الصباح تفاجأتُ برؤية السائق ينتظرني أمام منزلي. وجدتُ هذا التصرّف غير مقبولاً فَصرختُ به:

 

- ألَن تدعني وشأني؟ كيف تتجرّأ وتأتي إلى هنا؟ قلتُ لكَ أنّني لن أعطيكَ شيئاً!

 

- تعالي معي إلى المستشفى وستتأكّدين من صدقي .

 

فكّرتُ قليلاً ثمّ قلتُ:

 

- حسناً ولكنّني لن أركب سيّارتكَ... سأطلب تاكسي... أعطني إسم المستشفى ... سأوافيكَ إلى هناك.

 

طلبتُ سيّارة أجرة من المكتب وذهبتُ إلى ذلك المستشفى ووجدتُ الرجل واقفاً أمام الباب. ترجّلتُ وتبعتُه إلى الداخل وصعدنا إلى غرفة الحضانة في قسم الولادات. هناك أراني من وراء الزجاج طفلاً صغيراً جدّاً موضوع في حاضنة تحيط به أسلاكاً عديدة. إمتلأت عينيّ بالدموع عند رؤية هذا المشهد ولكنّني إستطعتُ أن أقول:

 

- ماذا يثبت لي أنّ هذا الولد هو لكَ؟

 

هزّ الرجل رأسه بأسف ثمّ أجاب:

 

- إنتظريني هنا... سأعود فوراً.

 

وبعد بضعة دقائق، عادَ ومعه ممرّضة وطلبَ منها أن تشرح لي الوضع. فقالت لي:

 

- إبن هذا الرجل في حالة دقيقة جدّاً... ولِدَ قبل وقته وبالكاد إكتملَت أعضائه... قلبه ضعيف جدّاً وعلينا إبقاءه في الحاضنة وتحت المراقبة الدائمة وإلّا مات... ولكن المستشفى ستنزع عنه الأسلاك إن لم يتمّ دفع التكاليف... هذه ليست مؤسّسة خيريّة...

 

شكرَها السائق وعادَت إلى عملها. إستدارَ نحوي وقال لي:

 

- أتصدّقينني الآن؟

 

- نعم... ولكن ليس لديّ المال الكافي لتسديد التكاليف...

 

- أحتاج إلى دفعة لأسكت المستشفى... سأقبل بأيّ مبلغ...

 

أخذتُه إلى أقرب مصرف آلي وبواسطة بطاقتي سحبتُ مبلغ 300 دولاراً أميريكيّاً وأعطيتُه إيّاه. طارَ المسكين من الفرح وحاول تقبيل يدي وقال لي وصوته يرتجف:

 

- أنتِ ملاك! أنقذتِ مخلوقاً صغيراً من الموت...

 

وغادرَ وقلبه مليئاً بالفرح. أنا أيضاً كنتُ سعيدة جداً وشكرتُ نفسي على ما فعلتُه. وبعد يومين قررتُ أن أمرّ على المستشفى لأرى كيف أصبحَت حالة الطفل ووقفتُ أمام زجاج غرفة الحضانة ولكنّني لم أرَ الولد. إنشغلَ بالي كثيراً لأنّني إعتقدتُ أنّه كان قد مات، فركضتُ إلى غرفة الممرّضات لأسأل عنه. قالوا لي أنّ الطفل الذي كان موجوداً هو بنت وليس ولداً وأنّ أهله أتوا ليأخذوه إلى البيت. إستغربتُ كثيراً:

 

- كيف؟ ظننتُ أنّه صبيّ وأنّ قلبه مريض؟

 

- لا... إنّها فتاة وأصيبَت بمرض اليرقان الشائع عند المولود الجديد. جاءَ أهلها اليوم وأخذوها.

 

- والدها سائق أجرة أليس كذلك؟

 

- لا... بل أستاذ جامعة... أناس لطيفين جداً...

 

عندها أخبرتهنّ قصّتي وبعدما إنتهيتُ قالَت لي إحداهنّ:

 

- غريب... وتلك الممرّضة التي قابلتيها... هل هي إحدانا؟

 

- لا... ليست هنا.

 

- من الواضح أنّكِ وقعتِ ضحيّة نصّابين... أظنّ أنّ عليكِ الإتصال بالشرطة.

 

جلستُ على كرسي وأتوا لي بكوب من الماء وبعد أن هدئتُ قليلاً، أخذتُ هاتفي وطلبتُ الشرطة. إستدعوني إلى القسم وهناك أخبرتُهم بالقصّة من أوّلها وبعد أن إستمع لي المحقّق قال:

 

- آنستي... لقد وقعتِ ضحيّة أناس متمرّسين في النصب... فالعمليّة مدبّرة ومحكمة وذلك الرجل لديه شريكة أي تلك المرأة التي إدّعت أنّها ممرّضة. وأمام هكذا أشخاص لم يكن بمقدوركِ سوى الوقوع بالفخ. هما متمرّسين بالإحتيال وكان لا بدّ لكِ أن تعطيهما مالاً. فمَن يستطيع رفض مساعدة طفل رضيع يصارع الموت؟ سنبحث عنهما ولكن من الصعب القبض على هكذا أناس فسرعان ما سيغيّران أسلوبهما ويجدان قصّة مختلفة. إن حصلنا على معلومات جديدة سنتصّل بكِ.

 

ولكن حتى الآن لم يعثروا على الثنائي وكلّما مرَّت من قربي سيّارة أجرة أنظر بإمعان إلى وجه السائق لأرى إن كان هو وأسأل نفسي كم مِن ضحيّة وقعَت مِن بعدي وهل سيوقفهما أحد يوماً ما.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button