وقفتُ مندهشة أمام تلك المرأة النائمة على أريكة الصالون، وسألتُ نفسي مَن تكون إذ لم أرَها يومًا مِن قبل. كان سنّها يُناهز سنّي وكانت تعانق حقيبة صغيرة. ثمّ دخَلَ فادي إبني وأومأ لي بألا أوقظ المرأة، ثمّ سحبَني بيَدي إلى المطبخ. هناك قال لي:
ـ عذرًا يا أمّي، كان يجدر بي أن أخبركِ أنّني جلبتُ ضيفة إلى البيت، لكنّ الوقت كان متأخّرًا جدًّا وكنتِ غارقة في النوم.
ـ لا بأس... لكن قل لي مَن تكون.
ـ للحقيقة لستُ أعلم... أقصد أنّني أعرف عنها ما قالَته لي، أي أنّ أولادها يُسيئون معاملتها إلى أقصى درجة، وأنّها قرَّرَت أخيرًا الهروب مِن المنزل. ركبَت الباص الذي أقودُه ولم تنزل منه حتى عندما انتهى دوامي، أي في ساعات الليل المتقدّمة. جلسنا نتحدّث، وعرضتُ عليها قضاء الليل عندنا لأنّ المسكينة لم يكن لدَيها مكان تذهب إليه. أعدُكِ بأن ترحل بأسرع وقت.
ـ المسكينة... سأحضّر لها إفطارًا شهيًّا... أنا فخورة بكَ يا بنيّ.
قبّلتُ فادي وبدأتُ بتحضير الأكل. أمّا ابني، فعادَ إلى النوم كي يستطيع مزاولة عمله في المساء. كان فادي إبني الوحيد، ولم يكن متزوجًّا بالرغم مِن أنّ سنّه ناهز الأربعين. لماذا بقيَ عازبًا؟ لستُ أدري، فهو قد يكون ينتظر العروس التي تناسبه ولم يجدها بعد.
بعد حوالي الساعَتين، إستَيقَظَت ضيفتنا واستطعتُ إلقاء التحيّة عليها والترحيب بها كما يجب، فلطالما عُرِفَ بيتنا وبيت أهلي بالكرم وحسن الضيافة. تلبّكَت المرأة كثيرًا، واعتذَرَت لوجودها هكذا في صالوني، لكنّني طمأنتُها وأخذتُها إلى المطبخ لتأكل. وبعدما أكلَت بشهيّة واضحة بدأَت بالكلام:
ـ إسمي نجوى وأنا إبنة أناس طيّبين و... أثرياء. تربَّيتُ على محبّة الآخرين وتقبّلهم على اختلافهم، الأمر الذي ورّطَني بمشاكل كثيرة. فطيبة قلبي أوصلَتني إلى أريكتكِ ويا لَيتني كنتُ أتحلّى بالدهاء أو حتى الترّيث، لكنتُ الآن بألف خير.
بدأَت نجوى بالبكاء، ولم أعد أعلم ماذا أقول لها أو أفعل لأخفّف مِن حزنها. سكَتَت المرأة بضع دقائق ومِن ثمّ تابعَت:
ـ تعرّفتُ إلى زوجي وأنا في السادسة عشرة مِن عمري، وهو عرفَ كيف يتملّك قلبي لخبرته بالنساء. وبعد سنتَين تزوّجنا. لم يُعارض أهلي زواجنا لأنّ المحتال كان ادّعى أنّه ثريّ وأنّه سيُعاملني كالأميرة، إلا أنّه كان يسعى وراء مالي. في البدء، أقنعَني أن آخذ ما يلزمه مِن أبي بحجّة أنّ ماله الخاص موظّف بمشاريع ضخمة، ولكن بدأَت الحقيقة تظهر واكتشفتُ أنّه لا يملك شيئًا. لكنّني وجدتُ نفسي حبلى ففضّلتُ السكوت ومتابعة حياتي، مع إنسان لا يُفكّر سوى بنفسه وباليوم الذي سيموت فيه أبي كي أرث حصّتي فيضع يده عليها. إلا أنّ صحّة والدي كانت ممتازة، الأمر الذي خلَقَ في قلب زوجي غضبًا لا يوصف وبدأ يُعنّفني لأتفه سبب. أنجبتُ إبني الثاني ومِن ثمّ الثالث ولم يتغيّر شيء. أمِلتُ أن يكبر أولادي الثلاثة وأن يُصبحوا قادرين على حمايتي مِن ذلك الوحش، لكنّني لم أحسب حساب تأثير أبيهم عليهم.
كان زوجي قد ربّاهم على كرهي لأنّني، حسب قوله، كنتُ العائق الوحيد بينهم وبين حياة مريحة، خاصّة بعدما قرَّرَ أبي التوقّف عن مدّنا بالمال بعد أن اكتشَفَ لعبة صهره. وأصبحتُ ضحيّة أفراد عائلتي الصغيرة، وتحمّلتُ كلّ ذلك بصمت لأنّ قلب الأم لا يعرف الكراهية.
ـ أفهم ما تقولينَه...
ـ مرَّت السنوات وتوفّي أبي تاركًا لي ثروة كبيرة جدًّا، لكنّ زوجي لم يستطع صرف قرش منها إذ أنّه ماتَ بحادث سيّارة بعد أيّام قليلة. يا لسخرية القدر! أعترفُ أنّني ارتحتُ كثيرًا عند مماته ولم أذرف دمعة واحدة عليه، ولماذا أفعل؟ فلقد دمَّرَ حياتي ولم أذق معه يومًا طعم السعادة بل العكس. بعد الدفن مباشرة، أخَذَ أولادي مكان أبيهم في أذيّتي، في البدء نفسيًّا، لاجباري على التنازل عمّا أملكُ، لكنّني لم أخضع لهم فقد كان قد طفَحَ كيلي. المحزن بالأمر، هو أنّ أولادي، ولكثرة تركيزهم على ميراثي، لم يتكبّدوا عناء تأسيس شيء خاص بهم، بل قضوا حياتهم يرسبون في المدرسة ومِن ثمّ في أشغالهم. لِذا وجدوا نفسهم مجبرين على تجريدي مِن كلّ شيء ليتمكنّوا مِن متابعة حياتهم. وأسوأ ما في الأمر، أنّهم تزوّجوا كلّهم وسكنوا معي وكنتُ مُلزَمة على الصّرف عليهم كلّهم وإلا...
ـ ماذا تقصدين؟
ـ بدأوا يمدّون يدهم عليّ لإخافتي... تصوّري يا سيّدتي... أولاد يضربون أمّهم... غرقتُ في كآبة لا مثيل لها وتمنَّيتُ لو أموت، إلا أنّني لم أقبل أن أتنازل عن ثروتي لأنّ ذلك كان سيعني هلاكي. لكن في إحدى الأمسيات، سمعتُهم كلّهم يتكلّمون عن موتي وكيف أنّ الأمر سيُريحهم، وشعرتُ بأنّهم قادرون على ارتكاب أبشع الفظائع. لِذا أخذتُ أوراقي ومجوهراتي وهربتُ مِن البيت.
ـ لماذا لم تتّصلي بالشرطة؟
ـ لأنّ أولادي سيدّعون أنّني مجنونة، وسيرموني في مصحّة عقليّة حتى آخر أيّامي... ومَن ستصدّق الشرطة؟ أنا أم ثلاثة أولاد وزوجاتهم؟
ـ صحيح ذلك... وما الذي تنوين فعله الآن؟
ـ سأجد مكانًا بعيدًا أسكن فيه... سأرحل بعد قليل.
ـ يُمكنكِ البقاء عندنا قدر ما تشائين، لن يجدكِ أحد هنا، فمَن سيظّن أنّكِ تسكنين في منزل سائق باص؟
مكثَت نجوى معنا حوالي الشهر. وفي أحد الأيّام إختفَت. كانت قد تركَت لي رسالة كتبَت فيها: "لن أشكركما كفاية، لكنّني أطلتُ البقاء عندكما... الوداع". حزنتُ على رحيلها وأوكلتُ فادي بمهام البحث عنها للإطمئنان عليها.
بعد حوالي أسبوعَين، جاءَ ابني لي بخبر لا يُصدَّق: كان قد سمِعَ مِن بعض الركّاب أنّ نجوى في مصحّة للأمراض العقليّة. غضبتُ كثيرًا لأنّ أولادها نجحوا بتنفيذ مخطّطهم الدّنيء، إلا أنّ فادي أضافَ أنّ ضيفتنا كانت في الأساس في المصحّة، وأنّها هربَت منها قبل أن تصعد معه في الباص تلك الليلة. لم أصدّق الخبر، وسألتُ إبني عن اسم وعنوان المشفى لأذهب وأتأكّد بنفسي. كنتُ أنوي إنقاذ نجوى مِن مخالب الطمّاعين.
عندما وصلتُ المؤسّسة، أدخلوني إلى غرفة نجوى وتفاجأتُ بها كثيرًا. كانت نحيلة وذليلة وبالكاد تتكلّم، ربمّا لكثرة الأدوية التي كانوا يُعطونها لها. قلتُ لها إنّني لن أقبل أن تبقى في ذلك المكان المخيف، وإنّني سأوكل لها محاميًّا بارعًا حتى لو اضطرِرتُ لبيع كلّ ما أملك. شكَرَتني بحرارة، وبدأنا نخطّط للأمر حين دخلَت إمرأة مسنّة والقَت التحيّة عليّ وجلسَت على كرسيّ بالقرب منّي. سألتُها مَن تكون فأجابَتني أنّها أمّها. تفاجأتُ للأمر لأنّ نجوى لم تذكر أمّها لي ولو مرّة واحدة، وخلتُ أنّها متوفّاة. كانت تلك المرأة تبدو لي وكأنّها فقيرة ومسكينة، وقد إستنتجتُ ذلك مِن ملابسها وشعرها وأظافرها المُهملة. بعد لحظات دخَلَ رجل أيضًا مسنّ وفقير أيضًا ، قبّلَ نجوى على جبهتها ومِن ثمّ جلَسَ قرب الأم. وعلِمتُ مِن حديثهما أنّه والد نجوى. عندها طلبتُ مِن الوالدة ملاقاتي في الخارج لنتكلّم. سألتُها عن حقيقة حالة ابنتها فقالَت لي:
ـ لطالما كانت نجوى هشّة نفسيًّا، وكنّا نعلم أنّ يومًا سيأتي وتفقد عقلها تمامًا. منذ صغرها وهي تحوكُ لنفسها قصصًا لا يُصدّقها عقل وتعتقدها حقيقيّة وتعذّب نفسها والآخرين. تجنّبنا تزويجها كي لا تثير المتاعب لغيرنا. تحمّلنا جنونها لفترة طويلة، وصرَفنا عليها القليل الذي كنّا نملكه، لكنّنا في آخر المطاف إضطرِرنا لجلبها إلى هنا منذ عشر سنوات، إلا أنّها فرَّت حين كانت في نزهة ترفيهيّة مع باقي المرضى. أحمد ربّي لأنّهم وجدوها وإلا لستُ أعلم ما كان سيحدث لها.
ـ أولاد الحلال كثر.
ـ هل تعتقدين ذلك؟
ـ بل أنا متأكّدة مِن ذلك.
بقيتُ أزور نجوى لسنين طويلة، إلى أن ماتَت أثناء نومها بعد أن سبقَها والداها إلى دنيا الحق. وهي ظلَّت تظنّ نفسها امرأة ثريّة مضطهدة. لم أجادلها يومًا لأنّني كنتُ الوحيدة التي لم تقل لها إنّها مجنونة. كنتُ بالنسبة إليها جسرها الوحيد إلى عالم الأصحّاء عقليًّا.
ما هو الواقع وما هو الجنون إن كان يكفي أن نصدّق ما نعتقد به؟ أحيانًا أسأل نفسي إن كنّا حقًّا أصحّاء، أم أنّ حياتنا حلم طويل نحوكه لنملأ فراغًا رهيبًا.
حاورتها بولا جهشان