صداقة حقيقية

مِن المعلوم أنّ الصّداقة بين الرّجال أقوى مِن التي توجد بين النساء، ربّما لأنّ المنافسة تكون أقلّ ومِن نوع آخر. ولقد مرّ في حياتي أصدقاء كثر، ولكنّ واحدًا فقط اجتاز امتحان الزّمَن وبقيَ إلى جانبي سنوات لا تُحصى.

كان ربيع مِن سنّي، وكنّا نجلس جنبًا إلى جنب على مقاعد الدراسة ومِن ثم الجامعة، وعندما تزوّجتُ كان هو الذي ساعَدني بكلّ ما يلزم وباركَ لي والدّمع في عَينَيه. ووصَلَت صداقتنا إلى حدّ الالتحام، فبتنا شخصًا واحدًا، ولو تطلّبَ الأمر لقدّمتُ حياتي له مِن دون تردّد.

ولكنّ سَوسَن زوجتي لم تكن تحبّذ هذا التقرّب غير المشروط، وطلَبت منّي مرارًا أن أبقي مسافة بيني وبين ربيع، خاصّة أنّها لم تكن مستعدّة لمشاركة صديقي أخبارنا الزوجيّة.

كانت على حقّ، ولكنّني لم أكن قادرًا على إبعاد صديقي عنّا، فكيف لي أن أقول له أن يتراجع بعد كلّ الذي مرَرنا به؟

لِذا بدأتُ أكذب على زوجتي باخفاء الكثير عنها، ليس بدافع الغش بل لأحافظ على ربيع وسَوسَن في آن واحد.

أنجَبنا ولدًا ومِن ثمّ الثاني والثالث، ولم تسمح لي زوجتي بإعطاء إسم ربيع لأيّ منهم، الأمر الذي أزعجَني إلى أقصى حدّ، فقد كان الأمر وكأنّ لا كلمة لي في ما يخصّ عائلتي.

ولكثرة حبّه لي، حاوَلَ ربيع إيجاد أعذار عديدة لسَوسَن، ونصحَني بأن أنسى الموضوع برّمته وأركّز على ما هو مهمّ.

لم يتزوّج ربيع، ربّما لأنّه كان يُحبّ صرف ماله على ملذّاته، أي النساء والسيّارات وأحيانًا المَيسر، وذلك بالرّغم مِن تحذيراتي العديدة له:

 

ـ سينتهي الأمر بكَ وحيدًا يا صديقي.

 

ـ ذلك صحيح ولكنّني سأعيش حياة مليئة بالإثارة... على خلاف غيري!

 


ـ ومَن قال لكَ إنّ الحياة الزوجيّة والعائليّة تخلو مِن الإثارة؟

 

ـ يكفي أن أنظر إليكَ لأعرف ذلك! ها ها ها!

 

ـ غريبة هي صداقتنا... إجتازَت كلّ تلك السنوات مِن دون أن تضعف ولو للحظة، بالرّغم مِن اختلافنا في أمور عديدة!

 

ـ لأنّ جوهرنا واحد يا صديقي.

 

ولكن غالبًا ما تدلّ تصرّفات المرء على ما في داخله. وبعد الذي حصَلَ لي لاحقًا، سألتُ نفسي مرارًا كم يلزم للانسان مِن وقت لمعرفة الآخر على حقيقته، عام أو خمسة أعوام أو دهر ربّما؟

كان قد مضى على زواجنا أكثر مِن عشر سنوات، حين جاءَتنا الموافقة على طلَب هجرة إلى كندا كنتُ قد قدّمتُه منذ فترة طويلة، وتفاجأتُ بأمر كنتُ قد نسيتُه لأنّ حماسي كان قد خفّ كثيرًا ولم أعد أرى منفعة مِن الرحيل، خاصّة بعدما حصَلتُ على ترقية وباتَت حياتنا أكثر مِن مريحة.

ولكنّ سَوسَن لم تكن كعادتها مِن رأيي، لأنّها بَنَت خلال تلك السنوات أحلامًا كنديّة، ولم تكن مستعدّة للتراجع بعد أن تمَّت الموافقة على هجرتنا. حاولتُ تغيير رأيها بشتّى الطرق مِن دون جدوى:

 

ـ ما الذي يُزعجكِ في حياتنا هنا؟ لدَينا كلّ ما نتمنّاه.

 

ـ صحيح... ولكن في كندا لن يكون هناك إنسان إسمه ربيع!

 

ـ ماذا؟ تريدين ترك كلّ شيء لتبتعدي عن صديقي؟ بما يُزعجكِ؟ فأنا بالكاد أراه.

 

ـ وتظنّ أنّني صدّقتُ تمثيليّتكَ هذه؟ أعرفكَ عن ظهر قلب!

 

ـ وأنا لم أعد أعرفكِ.

 

عندما أخبَرتُ ربيع أنّنا قد ننتقل للعيش في ذلك المكان البعيد، حزِنَ كثيرًا ورأيتُ دموعًا في عَينَيه:

 

ـ ستكون أوّل مرّة نفترق فيها... يا إلهي... لم أتصوّر أن يحدث ذلك يومًا.

 

ـ ولا أنا... ولكن تعرف كيف هي زوجتي... عنيدة وأنانيّة.

 

ـ لا تقل ذلك، هي زوجة وأمّ ممتازة... لدَيّ فكرة مجنونة! لِما لا أسافر أنا أيضًا إلى كندا؟!؟ لدَيّ ابن عمّ هناك، الأمر الذي سيُسهّل عليّ الرّحيل.

 

كيف أقول لربيع مِن دون أن أخدش شعوره إنّ دافع زوجتي الأوّل للسفر هو الابتعاد عنه قدر المستطاع؟ وفضّلتُ السكوت والابتسام على أمل ان تتعثّر أموره ولا يقدر على اللحاق بنا.

ولكنّ ربيع لمَّحَ أمام سَوسَن عن نيتّه بالذهاب إلى كندا، فجنّ جنونها وهدَّدَتني بالطلاق:

 

ـ سأترككَ... سأترككَ وآخذ الأولاد معي إلى الخارج!

 

ـ أقسم لكِ أنّ لا دخل لي بقرار صديقي!

 

ـ إفعل اللازم وإلا...

 


كنتُ في ورطة كبيرة، وتمنَّيتُ لو تُمّحى مشاكلي بلحظة لأستعيد راحة بالي وحياتي الهنيئة. لماذا لم تتّفق سَوسَن مع ربيع؟ لكانت الأمور مثاليّة! صلّيتُ أن يحصل شيء يُغيّر مجرى الأمور، وسَمِعَ منّي الله ولكن ليس بالشكل الذي كنتُ أنتظره.

فذات ليلة عندما عدنا مِن حفل عائليّ إكتشَفنا أنّ أحدًا سَرَق البيت. وقفنا مسمّرين ننظر إلى الأدراج المفتوحة والأثاث المقلوب، وأسَرعتُ بطلب الشرطة بعدما بعَثتُ بسَوسَن والأولاد عند الجيران. جاءَ المفتّش وفريقه ورفعوا البصمات، وأخَذَ الرّجل يسألني لمَن أعطَيتُ مفتاح البيت لأنّ الباب لم يُخلَع بل فُتِحَ بشكل طبيعيّ. عندها أجَبتُ مِن دون تفكير:

 

ـ إلى صديقي ربيع.

 

كنتُ قد أعطَيتُه المفتاح ليُبقيه معه في حال أضعتُه أو اضطرِرتُ لأن أطلَب منه أن يأتي لي بشيء. حَدَثَ ذلك قبل زواجي ولو لم يسألني المفتّش لكنتُ نسيتُ الأمر برّمته.

ولكن حين أدرَكتُ أنّني أورّط صديقي بمسألة السرقة، كان قد فات الأوان لأنّهم استدعوه للاستجواب.

كنتُ متأكّدًا مِن أنّ لا دخل له بما حصَلَ، فلا يُمكن بتاتًا أن يسرقني صديقي العزيز. ولِما يفعل؟ عندها أخبَرني المفتّش أنّ على ربيع ديونًا عديدة مِن جرّاء صرفه المفرط للمال ولعب المَيسر. وبالرّغم مِن ذلك بقيتُ مصرًّا على أنّه لم يكن ليُؤذيني بأيّة طريقة.

بكَت سَوسَن على مجوهراتها المسروقة وعلى المبلغ الذي كنتُ قد خبَّأته في أحد الأدراج، وتساءَلَت كيف لنا أن نسافر مِن دون مال:

 

ـ اللعين سَرَقنا ليمنعنا مِن السفر ولكنّني لن أرضَخ له! سنبيع البيت والأثاث والسيّارة ونرحل بعيدًا! أتمنّى أن يبقى مسجونًا طوال حياته!

 

ـ لا تقولي ذلك! لم تثبت الإدانة عليه... ربيع لن يفعل ذلك أبدًا.

 

ـ كم أنّكَ غبيّ يا زوجي!

 

بعنا كلّ شيء وحزمنا حقائبنا، ورحتُ إلى السجن لأودّع ربيع وأقول له إنّني أسامحه. عندها قال لي: "أقسم لكَ على صداقتنا أنّني لم أسرقكَ... صحيح أنّ لدَيَّ مفتاحًا لبيتكَ، ولكنّني لستُ الوحيد... فكّر بالأمر.

حين غادَرتُ السّجن كنتُ مرتبكًا كثيرًا، هل يعقَل أنّ سَوسَن هي التي دَبَّرت الأمر ليبدو وكأنّه فعل صديقي وذلك فقط لتتخلّص منه؟ وتذكَّرتُ فجأة أنّني كنتُ قد قلتُ لزوجتي في أحد الأيّام أنّ ربيع يملك مفتاحًا، ولكنّ ذلك كان مِن عشر سنوات...

دخَلتُ البيت وأخَذتُ أفتح الحقائب كالمجنون. بدأَت زوجتي تصرخ بي وتحاول منعي مِن ذلك ولكنّني لم أردّ عليها. لماذا فعلتُ ذلك؟ لأنّني أعرف أنّ سَوسَن لو كانت هي وراء السرقة، لم تكن لتسافر مِن دون مجوهراتها.

ووجَدتُ العقود والخواتم التي أهدَيتُها لها والتي قالت إنّها اختفَت. نظَرتُ إلى زوجتي التي بدأَت بالبكاء قائلة:

 

ـ فعلتُ ذلك مِن أجلنا.

 

ـ مِن أجلنا أدخلتِ بريئًا السّجن؟ ما جنسكِ؟ لماذا تكرهينه إلى هذه الدرجة؟ ماذا فعل لكِ ربيع؟

 

ـ أنتَ تحبّه أكثر منّي!

 

ـ مسكينة أنتِ.

 

علِمتُ منها أنّها استعانَت بابن جيراننا الذي كان عاطلاً عن العمل ولا يتردّد عن فعل أي شيء مقابل بعض المال، وركَضتُ إلى المركز لأخبر المفتّش بالحقيقة وسألتُه عمّا سيحصل لزوجتي. قال لي إنّها قد تتفادى السجن لو أسقَطَ ربيع حقّه لأنّها جنحتها الأولى. قَبِلَ ربيع أن يُسامح زوجتي ولكنّني لم أقدر على ذلك، ليس بعد أن اكتشَفتُ إلى أيّ حدّ وصَلَ حقدها المجّاني. لم أعد قادرًا على الوثوق بها بشيء ولم أعد أحبّها. لِذا طلّقتُها وأخَذتُ الأولاد منها، لأنّني لم أقبَل أن تربّيهم على الكذب والمكر، ولكن سمحَتُ لها بأن تأتي لزيارتهم أسبوعيًّا وذلك بحضوري.

لقد مضى على تلك القصّة حوالي العشرين سنة. لم أتزوّج مجدّدًا، كي لا آتي لأولادي بزوجة أب وكي لا أخطئ الاختيار مجدّدًا.

وبقيَ ربيع صديقي حتى اليوم، أقضي وقتي كلّه معه بعدما تزوَّجَ جميع أولادي، ولم أندَم يومًا على هكذا صداقة التي تساوي مئة زوجة!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button