صداقة بالقوة

كيف لي أن أتصوّر أنّ تكون هالة قد نجحَت بالحياة إلى هذه الدرجة؟ فلطالما كانت تلميذة على شفير الرّسوب، ولا يُمكنها بأيّ شكل، أن تصبح مديرة كبيرة. فلا أحد كان يعرفُها أكثر منّي، لأنّني كنتُ، لسنوات عديدة، الوحيدة التي صادقَتها مِن باقي التلامذة. فالجدير بالذكر أنّ هالة لم تكن تتمتّع بأيّة شعبيّة بسبب غلاظتها وعادتها المُزعجة بالإلحاح على الناس عندما كانت تُريد شيئًا. لماذا صادقتُها إذًا؟ لأنّني كنتُ ولا أزال أمتلكُ قلبًا مِن ذهب وأبغضُ الظلم والظالمين. لِذا وقفتُ إلى جانب هالة ودعمتُها، غير عارفة أنّني سأبدأ بكرهها بسبب تصرّفاتها معي. فبعد أن رأَت هالة أنّني الوحيدة التي كانت تحدّثُها خلال الفُسحة وتساعدُها بواجباتها، صارَت متعلّقة جدًّا بي ولَم تعد تُفارقُني. ومع الوقت، باتَ الأمر مُزعجًا للغاية إذ لَم يعد لدَيَّ وقت لنفسي أو لباقي صديقاتي. حتى بعد الدّوام، كانت هالة تتّصل بي بحجّة سؤالي عن الدروس، الأمر الذي حالَ دون قدرتي على التركيز على شيء آخر. حتى والدتي نبّهَتني مِن إعطاء هذا القدر مِن الإهتمام لتلك الفتاة، ونصحَتني بفرض مسافة بيني وبينها لمصلحتنا معًا.

لكنّ هالة لم تكن ممتنّة مِن الترتيبات الجديدة، فزادَت إصرارًا عليّ وبتُّ محتارة بين استعادة حرّيتي وبين عدَم التخلّي عن المسكينة. كنتُ صغيرة آنذاك، وكان يحقّ لي أن أعيش سنّي وعدم تحمّل مسؤوليّة شخص آخر. لِذا، أخذتُ قرار الإبتعاد نهائيًّا عن هالة، لعلّها تفهم أخيرًا أنّ عليها الإعتدال وإلا خسِرَتني إلى الأبد. لكنّها فضّلَت الإنعزال، الأمر الذي أحزَنَني كثيرًا. وبعد الفرصة الصيفيّة، لم تعدُ هالة إلى مدرستنا بل انتقلَت إلى أخرى. أسفتُ لقرارها هذا، لكنّ شيئًا بداخلي ارتاحَ كثيرًا مِن عدَم وجودها بقربي. ولَم تعد تصلَني أخبارُها.

مرَّت السنوات ونسيتُ أمر هالة نهائيًّا، إلى حين رأيتُها مجدّدًا بعد عشرين سنة، في ظروف غير إعتياديّة.

كنتُ قد تخصّصتُ بإدارة الأعمال، ووجدتُ، بفضل مهارتي، وظيفة في إحدى الشركات الكبيرة. وبعد سنوات، تزوّجتُ وأنجبتُ، وكانت حياتي هنيئة. إلا أنّ زوجي تمّ نقله في عمله مِن فرع إلى آخر، لذا طلبتُ أن أُنقَل بدوري مِن عمَلي.

وهكذا وضعَتني الصّدف أمام باب مديرتي الجديدة التي كانت، ويا للغرابة، هالة. وقفتُ مندهشة وغير قادرة على التكلّم، أمّا هي فنظرَت إليّ مبتسمة. وبعد أن دعَتني للجلوس، قالت لي:

 


ـ تفاجأتِ بي، أليس كذلك؟ مِن جهّتي، كنتُ أعلم مَن تكوني، فأنا التي وافقَت على انضمامكِ إلى فرعنا.

 

ـ نعم تفاجأتُ فلَم...

 

ـ لم تتوقّعي أن أصبح مديرتُكِ؟

 

ـ لَم أعنِ ذلك...

 

ـ بلى ولا يهمّ، فأنتِ هنا الآن. أخبريني عن نفسكِ، ماذا فعلتِ خلال كلّ تلك المدّة؟

 

بدأنا نتكلّم وكانت الأجواء سلمية، وفرحتُ لأنّها لم تكن تحمل ضغينة ضدّي. لم نتطرّق إلى فترة الدراسة بل فقط إلى ما بعدها. فكان مِن الواضح أنّ هالة لم تكن تريد تذكّر تلك الحقبة.

في المساء، أخبرتُ زوجي بأمر هالة، وتساءَلنا كيف لإنسانة غير فالحة في المدرسة أن تبلغ مركزًا عاليًا ومسؤوليّة كبيرة إلى هذا الحدّ. للحقيقة، شعرتُ بشيء مِن الغيرة تجاهها، فبينما كنتُ أدرّسُها في ما مضى، صرتُ أعمل تحت أمرتها، ورأيتُ أنّني كنتُ مَن يستحقّ أن يشغل مركزها.

وبالرّغم مِن معاملة هالة الحسنة لي في الشركة، كنتُ غير مرتاحة لها وبقيتُ على حذري منها، أي أنّني أصرّيتُ على تأدية عملي على أكمل وجه كي لا أُعطيها سببًا لتوبيخي أو، مَن يدري، لطردي.

ذات يوم، أعرَبَت هالة عن رغبتها بزيارتي في البيت، واعتبرَتُ ذلك برهان حسن نيّة مِن جانبها، فقبلتُ بسرور.

جاءَت مديرتي إلى البيت محمّلة بالهدايا للأولاد وأمضَينا وقتًا ممتعًا. وبعد أن رحَلت، شعرتُ بالذنب لأنّني شكَكتُ بنواياها تجاهي.

سُرَّ زوجي كثيرًا عندما عادَ في المساء وأخبرتُه عن زيارة هالة، ووبخّني بلطف لأنّني كنتُ متشنّجة جدًّا حيال مديرتي. في تلك الليلة، نمتُ وعلى جهي وابتسامة.

لكن بعد ذلك اليوم، عادَت هالة إلى عادتها القديمة، أي الدخول إلى حياتي بنيّة المكوث فيها بصورة مستمرّة.

صارَت مديرتي تسألني عن أحوالي وأحوال عائلتي، وتُعطيني النصائح بشأن إدارة حياتي كأمّ وزوجة، الأمر الذي أزعجَني. إلّا أنّني لَم أُظهر لها إنزعاجي خوفًا مِن إغضابها. بعد ذلك، باتَت هالة تزورني أسبوعيًّا، لكنّ سرعان ما أصبحَت الزيارات قريبة مِن بعضها حتى صِرنا نجد هالة عندنا يوميًّا. ومع أنّها بقيَت لطيفة للغاية، كان مِن الواضح أنّها لم تكن تنوي تركنا بسلام.

لَم يعد لدَينا حياة شخصيّة، أي لَم نكن قادرين على التكلّم ما بيننا عن أمور خاصّة بنا، أوّلاً لأنّ تلك المرأة لَم تكن جزءاً مِن عائلتنا، وثانيًا لأنّها كانت تُبدي رأيها بكلّ شيء. حتى زوجي الذي كان فرِحًا باهتمام مديرتي بي، صارَ يمتعضُ كلّما عادَ إلى البيت ورآها عندنا، وطلَبَ منّي أن أتصرّف حيال ذلك. لكن كيف لي أن أُبعد هالة عنّي مرّة ثانية، خاصّة بعدما أصبحَت هي مديرتي وقادرة على التحكّم بمصيري المهنيّ؟

بدأتُ أختلقُ الأعذار لها لأمنعها، ولو بعض الشيء، مِن المجيء إلى البيت، على أمل أن أُسكِتَ زوجي، فكنتُ لا أزل قادرة على تحمّل وجود هالة معي في الشركة وخارجها إن أرادَت أن نلتقي في مطعم أو مقهى. لكنّها لم تقتنع بأعذاري، وباتَت "تقتحم" دارنا ساعة تشاء.

لكن طَفَحَ كَيل زوجي عندما صارَت هالة تتواجد "صدفة" في الأماكن التي كنّا نقصدُها، فقد كان مِن الواضح أنّها تتبعُنا أينما ذهبنا. عندها هدّدَني زوجي رسميًّا، ولَم يعد أمامي خيار سوى التكلّم مع مديرتي بكامل الصّراحة.

 


قصدتُ مكتبها وقلتُ لها عن الذي يُتعِبُني ويُتعِب عائلتي، فأجابَتني:

 

ـ لقد رجعتِ بي في الزمَن عشرين سنة إلى الوراء... آنذاك كنتُ صغيرة وهشّة وحسّاسة وفضَّلتُ الإبتعاد. أمّا الآن، فلقد تغيّرَت المعايير يا... صديقتي. كلّ ما أريدُه هو قضاء بعض الوقت معكِ.

 

ـ بعض الوقت؟!؟ حالما ينتهي دوامي هنا، تصلين إلى بيتي بعد حوالي الربع ساعة ولا ترحلين إلا قرابة منتصف الليل! لدَيّ حياتي!

 

ـ وأريد أن أكون جزءًا مِن حياتكِ.

 

ـ ليس هكذا. هل خطَرَ ببالكِ أنّني قد لا أحبّ رفقتكِ؟ لقد فرضتِ نفسكِ عليّ في ما مضى، وها أنتِ تعيدين الكرّة. لا يجب على الانسان فرض نفسه على الآخرين بل تركهم أحرارًا في انتقاء الأصدقاء! أنا أعمل لدَيكِ لكنّني لستُ مُجبرة على مصادقتكِ. بدأتُ أتشاجر مع زوجي بسبب وجودكِ الدائم عندنا، ولم أعد قادرة على الإهتمام بأولادي كما يجب. عليكِ الكفّ عن التدخّل في حياتي الخاصّة، أرجوكِ. لا تحمليني على كرهكِ كما سبَقَ وفعَلتِ، ولنبقَ على علاقة طيّبة كأيّ مديرة وموظّفتها.

 

ـ في المرّة الأخيرة أنا التي انسحَبتُ، أمّا الآن فأنتِ التي سترحلين.

 

ـ لن أرحل، فهذا عملي وأحبُّه وأقومُ به على أكمل وجه.

 

ـ هذا بنظركِ أنتِ، أما أنا كمديرتكِ، فأرى شوائب كثيرة في تأدية عملكِ وسأرفعُ تقريرًا بهذا الشأن.

 

ـ إفعلي! لن تصلي إلى مبتغاكِ يا هالة، فأنا موظّفة كفؤة ومُلتزمة. إسمعي، لستُ أبدًا مِن الأشخاص الذين يخافون أو يخضعون لمبتزّيهم. سأحاربُكِ لأنّ الحقّ هو إلى جانبي!

 

خرجتُ غاضبة مِن مكتب هالة واعدة نفسي بالصمود. وبعد أيّام، جاءَت مذكّرة فصلي إلا أنّني وكّلتُ محاميًّا للدفاع عنّي.

كانت المعركة شرسة، لأنّ هالة ضغطَت على بعض الموظّفين ليشهدوا ضدّي، إلا أنّ أدائي في العمل كان ممتازًا وكلّ شيء دلّ على ذلك.

ربحتُ الدّعوى طبعًا لكنّني لم أكتفِ بذلك، فكان عليّ وضع حدّ نهائيّ لهالة لإبعادها عنّي قدر المستطاع، وتجنيب آخرين ما مرَرتُ به. فأقمتُ دعوى ضدّها بالتسلّط والإفتراء ربحتُها أيضًا، وهذه المرّة بمساعدة جميع الموظّفين حتى الذين شهدوا ضدّي، فقد كان الكّل ينزعجُ منها ومِن أسلوبها في امتلاك حياة الناس.

تمّ فصل هالة بعد أن حاولَت هي فصلي. لم أحزن عليها، لأنّني حاولتُ مرّتَين خلال حياتي إفهامها بأنّ الصّداقة يجب أن تكون تلقائيّة وحرّة مِن أيّ قَيد. لو سمِعَت منّي، لكنّا اليوم بألف خير، ونتمتّع بعلاقة عمل ممتازة وصداقة جميلة.

رحلَت هالة ولَم يعرف أحد إلى أين. لكن بعد سنوات، حين صِرتُ أنا مديرة الفرع، جاءَتني رسالة تهنئة منها مليئة بالإمتعاض. كانت هالة تراقبُني مِن بُعد وشعرتُ وكأنّها لم ترحل أبدًا، وصِرتُ ألتفِت مِن حولي أينما ذهبتُ لوحدي أو مع عائلتي.

متى ستنوي هالة تركي وشأني؟ هل تريد ملاحقتي طوال حياتي؟ ماذا حدَثَ لها في طفولتها كي تصير إنسانة مزعجة وملحّة تبتلِعُ الآخرين وتجرّدُهم مِن خصوصيّاتهم؟

لم أجد الأجوبة بعد، وحتى ذلك الحين، سأظلّ مهمومة ومتيقّظة، فتلك المرأة سرَقَت منّي راحة بالي إلى أجَل غير مُسمّى.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button