شعرَ زوجي بِذنب كبير لِما حصلَ لِإبننا

كنّا عائلة سعيدة وحسَدَنا الكلّ على ذلك وإفتخرتُ بنفسي وبِزوجي سليم وبِعملنا الدؤوب على تربية إبننا جاد كما يجب. إلى جانب تهذيبه وأخلاقه العالية، كان ولدنا الأوّل في صفّه وأكّدَ لنا جميع أساتذته أنّه سيصبح رجلاً مهمّاً عندما يكبر. ولكن سعادتنا هذه لم تدم طويلاً بسبب حادث حصل فجأة وغيّرَ حياتنا جميعاً.

كان قد إلتحقَ جاد بصفّ ليلي يُعرض على التلاميذ لتقوية حسّهم الفنّي وكان زوجي يذهب إلى المدرسة لِيرجعه إلى المنزل. فبالرغم أنّ إبننا كان قد أصبحَ في الرابعة عشر، لم نكن نحب أن يعود إلى البيت وحده. كنّا نخاف عليه كثيراً ربمّا لأنّه كان وحيدنا وكنّا نعلم أنّنا لن ننجبَ سواه كما قال لنا الطبيب. وهكذا مرَّ سليم به ولكن في طريق الرجعة إصتَدمَت بهما شاحنة كبيرة. كان السائق ثملاً ولم يرَ السيّارة التي طُحِنَت تحت إطاراته. وجاءَ الإسعاف ونقَلَ الجميع إلى المستشفى وإتّصلوا بي ليعلموني بالذي حدث. ركضتُ كالمجنونة لأنّهم لم يعطوني تفاصيل بل إكتفوا بإخباري أنّ زوجي وإبني في قسم الطوارئ. وحين وصلتُ طلبتُ الأطبّاء الذين عالجوهما فقالوا لي:

 

ـ زوجكِ بخير... بعض الكسور والرضوض بفضل حزام الأمان... أمّا إبنكِ...

 

ـ ما به؟ مات؟؟؟

 

ـ لا... لم يمُت... ولكنّ عاموده الفقري محطّم في أكثر مِن مكان...

 

ـ كيف حصلَ ذلك؟ لماذا تضرّرَ أكثر مِن أبيه؟

 

ـ لأنّه لم يكن واضعاً حزام الأمان وقُذِفَ خارج السيّارة بقوّة.

 

ـ هذا غير معقول! أعرف إبني... إنّه حريص... وأبوه أكثر منه!

 

ـ الخبر السيّئ... هو أنّ إبنكِ لن يستطيع التحرّك بعد الآن.

 

ـ ماذا؟ أصبحَ مشولاً؟؟؟

 

ـ أجل ولكن... كليّاً... لديه شلل رباعي أي في أطرافه الأربعة.

 


وأُغمي عليّ. وعَمِلوا على إيقاظي وعندما عدتُ إلى وعيي حاولتُ الإستفسار عن وضع جاد ولكنّهم طلبوا منّي الصبر حتى اليوم التالي. وفي هذه الأثناء ذهبتُ أرى سليم الذي نُقِلَ إلى غرفة وقبل أن أسأله عن حالته صرختُ له:

 

ـ لماذا لم يكن جاد يرتدي حزام الأمان؟

 

سكتَ زوجي فكرّرتُ سؤالي. عندها تمتمَ:

 

ـ أنا السبب... أنا السبب...

 

ـ ماذا تقصد؟

 

ـ أردتُ أن أريه مقالة في مجلّة موضوعة على المقعد الخلفي وطلبتُ منه أن يطالها ولكنّه لم يستطع بسبب الحزام فقلتُ له:"فكّه فلَن يحصلَ شيئاً خلال تلك اللحظة." ولكنّني كنتُ مخطئاً... قالوا لي أنّ وضعه ليس جيّد ولكنّني لم أفهم مّما يشكو بالذات.

 

ـ إبننا أصبحَ مشلولاً... أتسمعُني؟ مشلولاً رباعيّاً... إبننا الوحيد لن يمشي أو يتحرّك بعد الآن.

 

وخرجتُ مِن الغرفة بعدما إنهالَت دموع سليم على وجهه وجلستُ في قاعة الإنتظار ريثما يسمحوا لي برؤية إبني في قسم العناية الفائقة. وبدأتُ أتخايل كيف ستصبح حياة جاد وكيف تحطّمَت آماله ومستقبله كلّه بلحظة واحدة. وبعد ساعات ألبسوني برنصاً وكمّامة وأدخلوني إليه. كان نائماً فلم يراني أبكي بقوّة. مسكتُ يده وقبّلتُها ووعدتُه أنّني سأكون إلى جانبه حتى آخر نَفَس أملكهُ وأنّني لن أدعَ أحداً أو شيئاً يؤذيه أبداً.

ومِن بعدها بدأت فترة النقاهة الطويلة وواكبَنا طبيب نفسيّ ليساعدنا جميعاً على تخطّي هذه المحنة. كان إبني شجاعاً كثيراً لأنّه تقبّلَ ما جرى له وكأنّه أمر عليه العيش معه. وأتى أخصّائيوّن لإرشادنا على كيفيّة الإعتناء بجاد لأنّه لم يكن قادراً على القيام بأيّ شيء لوحده حتى أبسط الأمور. وبدأت حياتنا الجديدة المليئة بالتعب والعذاب والحزن. وعمِلتُ جهدي لأبقى صامدة مِن أجل إبني الذي كان بحاجة إلى أهل أقوياء. ولكنّ زوجي لم يكن مثلي، فكان الذنب يأكله. حاولتُ إفهامه أنّه لم يكن لِيدري أنّ سائق الشاحنة كان ثملاً وأنّه سيفقد السيطرة على آليته وأنّ القدر يأتي دون أن ينبّهنا ولكنّ كلامي لم يؤثرّ عليه. حتى جاد لم يكن غاضب منه ولقد أفهمَه ذلك بالطرق المتاحة له ولكنّ ذلك لم يخفّف مِن أسى سليم. وحالته النفسيّة أثّرَت علينا بشكل كبير، فبات لديَ مريضَين بدلاً مِن واحد وبكيتُ كثيراً لِدرجة أنّني إنهَرتُ داخليّاً ولكنّني حافظتُ على الصورة الإيجابيّة التي أرَدتُ أن يراها جاد.

 


ومرَّت الأشهر ولاحظتُ ضياع زوجي ونصحتُه أن يأخذ إجازة ويذهب إلى مكان ما ليستردّ معنويّاته ولكنّه رفضَ أن يترك جانب إبنه قائلاً:

 

ـ لن أهرب مِن مسؤوليّاتي فلستُ جباناً... خاصة أنّني كنتُ السبب... أنظري إلى جاد... مُلقى على السرير مُجبر على البقاء هكذا طوال حياته... أين دراسته؟ أين الحبيبة التي لن تأتي؟ أين الأولاد الذين لن يولدوا له؟ ما معنى حياته الآن؟

 

ـ أعلم كلّ ذلك لكنّنا هنا معه... ولديه أم وأب ويشعر بذلك بالرغم مِن كل شيء... علينا أن نريه أنّه ليس وحيداً وأنّه يستطيع الإتكال علينا.

 

ـ وماذا سيحصل له بعدما نموت؟ مَن سيهتمّ به؟

 

ـ سنرى ذلك لاحقاً.

 

ـ لا تغضبي منّي لما سأقوله ولكن... أظنّ أنّه كان مِن الأفضل له لو مات.

 

ـ ماذا؟ لا تقل ذلك أبداً! أتسمعني؟ أبداً!

 

ـ وأنا أيضاً لو متُّ في ذلك الحادث لكنتُ بحال أفضل...

 

وخرَجَ مِن المنزل ولم يعد حتى آخر الليل. وإعتقدتُ أنّه سيلَملِم نفسه قريباً ويعود الرجل الذي عرفتُه أي قويّ ومسؤول ولكنّني كنتُ مخطئة لأنّ يأسه بلَغَ نقطة فظيعة لم أتخيّلها أبداً.

ففي ذات نهار كنتُ قد خرجتُ لشراء بعض الأشياء للمنزل وتركتُ سليم مع جاد عدتُ إلى المنزل لأجد جميع النوافذ مُغلقة والأضواء مُطفأة. وعندما لم أستطع فتح الباب بدأتُ اصرخ لزوجي لكي يدعني أدخل ولكنّني لم أحصل على جواب. إتصلتُ بواسطة جوّالي بهاتف المنزل وبهاتف سليم ولكن دون جدوى. عندها علمتُ أنّ هناك خطباً ما، فركضتُ أطلب الشرطة مِن منزل جيراننا الذين رافقوني وساعدوني وبعد عدّة محاولات على خلع الباب. وحين دخلنا شممنا رائحة غاز قوّية فتوجهنا فوراً إلى المطبخ ووجدنا سليم ميتّاً على الأرض وبيده ورقة. وأقفلنا الأنابيب وفتحنا الشبابيك ودخلتُ غرفة جاد لأراه حيّاً ولكن غائباً عن الوعي، فحملناه إلى الخارج ليتنشّق الهواء النقي. أمّا بالنسبة لسليم فكان ذلك خياره كما كتبَ في الورقة التي أرادَني أن أقرأ:

 

"عزيزتي... أنتِ حبّ حياتي ومنكِ جاء جاد وأصبحَ حبّي لكِ أكبر... أحبّكِ وأراكِ تعبة وحزينة ويائسة وكل ذلك بسببي... وإبننا الحبيب الذي أصبحَ شبه ميّت... لن أستطيع العيش ولو لِيوم واحد بعدما دمّرتُ حياتكما... سأرحل وآخذ جاد معي لكي ترتاحي ويرتاح هو الآخر... قد تقولين أنّني جبان... ولكن حبّي لكِ ولإبني أقنعَني بأنّ تلك هي الطريقة الوحيدة لأصلح ما فعلتُه... سأرحل أنا وسيرحل جاد... وستحرّرين... أتمنّى أن تسامحيني يوماً... صليّ لأجلنا... صليّ لتكون نفسنا في الجنّة... الوداع."

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button