إستغربتُ كثيرًا عندما أوكلوا إليّ منصب مديرة في المدرسة الخاصّة والضخمة التي كنتُ أعمل فيها كمدرّسة عاديّة، لأنّني، وبكل بساطة، لم أكن مؤهّلة للقيام بتلك المهمّة. إضافة إلى ذلك، كان هناك العديد مِن المدرّسات اللواتي فاقَتني خبرة وأقدميّة... وحاولتُ التملّص مِن هذا التعيين المفاجئ لكنّ محاولاتي باءَت بالفشل واضطرِرتُ للقبول، لأنّ رئيس مجلس الادارة أفهمَني بكلام شبه مباشَر أنّني قد أفقدُ عمَلي إن بقيتُ مصرّة على الرفض. وهكذا استلَمتُ منصبي الجديد، وسط استنكار واندهاش واضحَين مِن قِبَل باقي الهيئة التعليميّة.
وقبلَ أن تُغادر المديرة القديمة مكتبها لأستقرّ فيه بدوري، سألتُها عمّا جرى ويجري فقالَت لي:
ـ لم تعد الأمور كما كانت عليها حين بدأتُ العمل... كنّا نبلغ المراكز وفقًا لكفاءاتنا وليس...
ـ أفهم ما تقولينَه يا سيّدتي... وكوني على ثقة مِن أنّني لا أفتخر بنفسي لأنّني لم أفعل شيئًا لأستحقّ الجلوس على كرسيّكِ.
ـ لا تدّعي البراءة، أرجوكِ! المكتب أصبَحَ مكتبكِ. الوداع!
ومع أنّني كنتُ أعي مدى غضب تلك المرأة، إلا أنّني لم أقبل أبدًا أن تتهمّني بالتآمر أو الوصوليّة، وأخذتُ قرارًا مهمًّا في ذلك اليوم، وهو أن أبذل جهدي لأثبت جدارتي حتى لو تطلّبَ منّي الأمر أن أعمل ليلاً نهارًا.
في البدء، واجهتُ عصيانًا واضحًا ومباشرًا مِن المدرّسات والمدرّسين الذين رفضوا الإنصياع لي وصاروا يتصرّفون على هواهم، أي وكأنّني لستُ موجودة قط. لفترة وجيزة رأيتُ بذلك عذرًا لأتنحّى، لكن سرعان ما استرجعتُ إصراري على النجاح. لذلك دعوَت الجميع إلى اجتماع عام، مذكّرة بأنّ كلّ مَن سيتغيّب عنه سيُواجه تأنيبًا رسميًّا عاقبته الطرد. وهكذا اضطرَّت الهيئة التعليميّة إلى الجلوس في قاعة الاجتماعات والإستماع إليّ. وهذا ما قلتُه لهم:
ـ أتفهّم مدى استيائكم، ولو كنتُ مكانكم لغضبتُ أيضًا. لكن ثقوا بأنّني لم أطلب هذا المركز بل تفاجأتُ مثلكم بالخبر. إلا أنّ على كلّ منّا أن يقوم بواجباته كاملة، أوّلاً مِن أجل الطلاب وذويهم وثانيًا للحفاظ على أعمالنا ورواتبنا. لا تقفوا بوجهي، بل ساعدوني على تأدية عملي فأنا بحاجة إلى دعمكم.
أثَّرَت كلمتي إيجابًا على الحضور، بعد أن فهموا أنّني لم أسلب حقّ أحد وأدركوا مدى استعدادي للتعاون معهم. وانطلَقنا سويًّا للعمل وأعترفُ أنّ قلبي امتلأ بالثقة والإندفاع.
كان أهلي فخورين بي، فمركز مديرة مدرسة مهمّ جدًّا وأمر لا يُستهان به، وشعروا أنّ تعبَهم لم يذهب سدىً. فالجدير بالذكر أنّني كنتُ في ما مضى مراهقة مشاغبة بالكاد أحصّل علامات تخوّلني النجاح في آخر كلّ سنة. حتى في الجامعة لم أكن مِن المميّزات، بل تلميذة لا يتذكّرها أساتذتها.
دخلتُ معترك التعليم بفضل شهادتي، وأعطوني صفوفًا صغيرة تعوّدتُ أن ألقّنها الدّروس نفسها سنة بعد سنة. وها أنا مديرة مؤسّسة، فتصوّروا الضغط الهائل الذي هبَطَ على كاهلي!
سُعدتُ أنّ الهيئة التعليميّة لم تعد ضدّي، وبأنّ المدرّسات والمدرّسين الكفوئين باتوا يُساعدوني باتخاذ القرارات الصائبة لمصلحة المدرسة والطلاب. ومع الوقت، كبرَت ثقتي بنفسي، ووجدتُ أنّني على وشك أن أصبح مديرة بكلّ ما للكلمة مِن معنى. فإيمان الناس بي ولَّدَ لدَيَّ إيمانًا بذاتي وإحساسًا جميلاً للغاية.
لكنّ نجاحي لم يُعجب الجميع. لا أتكلّم عن زملائي، بل عن رئيس مجلس الإدارة. فبدل أن يفرح للنتائج التي توصّلتُ إليها بوقت قصير، طلَبَ رؤيتي وأجلسَني في صالة كبيرة وباردة، وقال لي إنّ عليّ أن أهدّئ مِن روعي. بالطبع لم أفهم ما قصدَه بتلك العبارة فأضافَ:
ـ إختَرتُكِ بالذات وحسب معايير معيّنة، منها، وأرجو ألا تغضبي منّي، عدَم كفاءَتكِ.
ـ ما هذا الكلام المجرّح؟ مَن قال لكَ إنّني غير كفوءة؟
ـ كلّ شيء فيكِ كان يدلّ على ذلك، هذا قبل أن تقرّري فجأة أن تصبحي إنسانة ذكيّة ونشيطة.
ـ لا أسمحُ لكَ!
ـ بل ستسمحين لي، فأنا مَن يدفع لكِ راتبكِ يا آنسة! وستفعلين ما أطلبُه منكِ وإلا وجدتِ نفسكِ بلا عمل.
ـ للحقيقة، لا يهمّني إن طردتَني. رحيلي أفضل مِن سماع إهاناتكَ لي.
ـ في حال فضّلتي الطرد، سأحرصُ على ألا تعمَلي في أيّة مدرسة مِن البلاد... وتذكّري أنّني على علاقة وطيدة مع مدراء باقي المؤسّسات التربويّة، وسأقنعُهم بأنّكِ ارتكَبتِ أخطاء لا تُغتفر أو أشياء أكثر خطورة.
ـ لماذا تفعل ذلك بي؟ ولماذا تريد لمديرة مدرستكَ أن تكون غير كفؤة؟
ـ هذا ليس مِن شأنكِ! عودي إلى عملكِ وإلى عدَم كفاءتكِ.
إحتَرتُ حقًّا لكلام ذلك الرجل الذي كان غير منطقيّ بتاتًا ولم أعد أعلم ما عليّ فعله. فمِن جهّة، لم يكن يسمح لي ضميري بأن أخفق بعملي فيُؤثّر ذلك على مستوى المدرسة، ومِن جهّة أخرى كنتُ أودّ الحفاظ على راتبي الذي كنتُ أتقاسمه مع أهلي، لأنّ أوضاعنا الماديّة والإجتماعيّة كانت أقل مِن متوسّطة وكنّا كلّنا بحاجة إلى ما أجنيه.
تذكّرتُ المديرة القديمة التي غادرَت بظروف غامضة، فالكلّ كان يعلم أنّها كانت تدير المؤسّسة على أكمل وجه وأنّها، خلال مسيرتها، رفعَت مستوى التعليم فيها.
وبالرّغم مِن يقيني بأنّ تلك السيّدة لن تكون مسرورة برؤيتي أمام بابها، إلا أنّني قصدتُها بعد أن وجدتُ عنوانها في ملفّات المدرسة.
وكما توقّعتُ، بدأَت المديرة تُسمعني كلامًا مجرّحًا. إنتظرتُها حتى هدأَت وقلتُ لها:
ـ أنا بحاجة إلى مساعدتكِ سيّدتي... أشياء مريبة تحصل في المدرسة، أقصد مِن جهّة مجلس الإدارة... هل تعلمين شيئًا عن الموضوع؟ أظنّ أنّ الجواب هو نعم، أم أنّني مخطئة؟
ـ ومَن يُؤكّد لي أنّكِ لم تأتِ لتوقِعي بي؟
ـ لا أحد... عليكِ أن تثقي بي وليس هناك مِن خيار آخر أمامكِ.
ـ أدخلي.
جلَسنا حول فنجان شاي، وبالرّغم مِن عَدَم وثوقها التام بي، بدأَت تُخبرني بما تعرفُه، وذلك بدافع محبّتها للمدرسة التي قضَت فيها سنوات طويلة.
ـ كما حصَلَ معكِ، طُلِبَ منّي التراخي ليتدنّى المستوى الدراسيّ والتعليميّ.
ـ ولكن لماذا؟ أمر غريب!
ـ هذا تمامًا ما خطَرَ ببالي... قبل أن أكتشف السبب، ليس بنفسي بل عن لسان صاحب الشأن نفسه.
ـ مَن تقصدين؟ رئيس مجلس الإدارة؟
ـ أجل، فهو قال لي إنّه واقع تحت ديون جمّة ولا حلّ أمامه سوى بَيع المدرسة، إلا أنّ باقي أعضاء المجلس لا يرَون سببًا لذلك. لكن إذا بدأت الأمور تسؤ وينخفض عدد التلامذة، سيُوافقون على البَيع للحدّ مِن خسائرهم.
ـ هو قال لكِ ذلك؟ ولِما يفضح نفسه أمامكِ؟
ـ ليُريني كم هو مصمّم على تنفيذ ما في رأسه، ولأنّه عندما انتهى مِن الكلام هدّدَني بتشويه سمعتي إلى الأبد إن تفوّهتُ بكلمة واحدة.
ـ إتّبَعَ الطريقة نفسها معي. ولكن ما العمل الآن؟ هل ندَعَه يمضي بخطّته؟
ـ هل أنتِ مستعدّة لخسارة عملكِ وسمعتكِ؟
ـ قد أخسر عملي ولكن ليس سمعتي، لأنّني سأفضحه ولن يُصدّقه أحد بعد ذلك.
ـ مِن أين جئتِ بهذه الشجاعة؟ لم أعهدكِ هكذا، فلطالما كنتِ...
ـ أعلم، إنسانة عاديّة جدًّا... لكنّني تغيّرتُ بفضل الهيئة التعليميّة، فبدعمهم لي والتفافهم حولي، إكتشفتُ قدرات لم أشكّ بامتلاكي لها. سأفعل ما يلزم، لا تخافي. لكن قد أحتاج إلى شهادتكِ، هل أنتِ جاهزة؟
ـ جاهزة تمامًا.
جمعتُ المدرّسين والمدرّسات ومِن دون أن أطلعُهم على الأسباب الحقيقيّة، قلتُ لهم إنّنا قد نواجه ظروفًا صعبة وإنّ علينا أن نبقى متّحدين. مِن ثمّ اتّصلتُ برابطة الأساتذة وطلبتُ منهم أن يُوجّهوني إلى محامٍ بارعٍ.
رفعتُ قضيّة لدى وزارة التربية والمحاكم المختصّة ضدّ رئيس مجلس الإدارة، وأدلَت المديرة القديمة بشهادتها. كشفَت المحكمة عن حساب المتّهم المصرفيّ، وتبيَّنَ فعلاً أنّه خسِرَ مؤخّرًا مبالغ كبيرة، وعرفوا أنّه كان مدمنًا على المَيسَر.
إنقلَبَ أعضاء مجلس الإدارة ضدّه، ورفضوا تصديق ادّعاءاته بأنّ مؤامرة تُحاك ضدّه، وطُرِدَ. إنتهى به المطاف في السّجن لمدّة كافية حتى يتعلّم عدَم العبَث مع أناس شرفاء.
أقَمنا احتفالاً في المدرسة لتتويج انتصارنا، دعَوت إليه المديرة القديمة وعرضتُ عليها أمام الجميع أن تستعيد مركزها لأنّني مستعدّة للتنحّي لها وبكلّ سرور. إلا أنّها رفضَت قائلة: "لن يكون هناك أفضل منكِ للقيام بهذه المهمّة". وبقيَت تلك السيّدة الفاضلة إلى جانبي حين كنتُ أحتاج إلى نصائحها القيّمة، وأنا قمتُ بعمل ممتاز طوال عشرين سنة، أي إلى حين وصلتُ إلى سنّ التقاعد. عندها استطعتُ أخيرًا أن أرتاح وأتفرّغ لهوايات وضعتُها جانبًا مِن أجل مهنتي. صحيح أنّني لم أتزوّج ولم أنجب، إلا أنّ عائلتي كانت الهيئة التعليميّة وأولادي تلامذتنا العديدين. وأيّ أمّ يتسنّى لها أن تحظى بالمئات لا بل الألوف مِن الأولاد؟
حاورتها بولا جهشان