سرّ مدفون

لم تكن الحياة منصفة مع أختي الكبرى سعاد، فهي وُلِدَت بإعاقة جسديّة في رجلَيها حمَلَتها على العرج، ولم تكن قادرة على السَير مِن دون عكاز.

طوال حياتي شعَرتُ بالذنب تجاهها، لأنّني كنتُ أجمل منها ومحبوبة مِن الفتيان ولاحقًا مِن الشبّان، وما هو أهم أنّني كنتُ فالحة جدًّا بالدّراسة على خلافها. فنِلتُ إجازة في الهندسة وحصلتُ على منحة لاكمال دراستي في الولايات المتحّدة. وبما أنّني وسعاد كنّا مقرّبتَين جدًّا، إفترقنا بصعوبة كبيرة وبدموع غزيرة يوم سافَرتُ لألتحق بجامعتي، ووعدتُها ألا أنساها وأن أتواصل معها باستمرار بكلّ الوسائل المتاحة لي.

 

بعد وصولي الولايات المتحّدة بقليل تعرّفتُ إلى سام، شاب مِن بلدي وسرعان ما أصبحنا متحابَّين. جَرَت الأمور بيننا بشكل ممتاز إلى أن وجدتُ نفسي حاملاً مِن حبيبي في سنتي الجامعيّة الأخيرة.

 

كانت صدمة كبيرة وركضتُ إليه باكية لنصلح وبسرعة تلك المصيبة. ولكنّ سام رفض رفضًا قاطعًا أن يتزوّجني، بحجّة أنّ كان لدَيه مستقبلاً واعدًا ولم يكن مستعدًّا للتضحية به مِن أجل شيء أو أحد. إضافة إلى ذلك، إكتشَفتُ أنّه لم يكن مغرمًا بي بل يكنّ لي "مودّة خاصّة" كما أسماها. وطلَبَ منّي أن أخضع لعمليّة إجهاض وأن نبقى سويًّا بعد ذلك.

 

إشمأزَّيتُ مِن ردّة فعله، وتركتُه في الحال ولكنّني لم أقتل جنيني لأنّني لم أكن لأؤذيه مهما كلّفَني الأمر. لم يعلم سام بقراري لأنّني قطَعتُ كلّ اتصال بيننا.

 


ولأنّ القدر يُصلح الأمور جيّدًا، حصل أنّ جاري جون الذي كان مِن أعزّ أصدقائي كان مغرمًا بي سرًّا. وحين أخبَرتُه عن وضعي الدقيق طالبة رأيه، عَرَضَ عليّ الزواج. بالطبع لم أكن لأرفض هكذا عرضًا، لأنّني بذلك كنتُ سأجد أبًا لجنيني وزوجًا صادقًا ومحبًّا، وكنتُ واثقة مِن أنّ جون سيعمل جهده لإسعادي.

تزوّجنا بسرعة واكتفَيتُ بزفّ الخبر إلى والدَيَّ وأختي هاتفيًّا.

 

مرَّت السنوات وكبرَت ابنتي ريما وسط أبوَين محبَّين، فلم أكن مخطئة بما يخصّ جون الذي أنساني مغامرتي مع سام وخذلانه لي.

في تلك الأثناء كانت أختي سعاد قد وجدَت لنفسها أخيرًا رجلاً، وكانت تتصل بي بصورة دائمة لإخباري عن سمير الذي استطاع تخطّي شكلها الخارجيّ ورؤية جمالها الداخليّ، فأختي كانت فعلاً فتاة رائعة، كان قلبها أبيضًا وطيبتها مِن غير حدود. وكنتُ مسرورة لأجلها واطمأنّ بالي مِن جهّتها أخيرًا.

كانت سعاد قد قرَّرت أّنها لن تتزوّج مِن دوني، لِذا فعلتُ ما بوسعي للذهاب إلى البلد مع زوجي وابنتي، وكانت تلك الفرصة مناسبة لرؤية عائلتي التي اشتقتُ إليها، ولتتعرّف ريما إلى جذورها العربيّة. وهكذا كان جون الذي لم يزر يومًا قسمنا مِن العالم، سيتعرّف هو الآخر إلى تقاليد بلدي العزيز.

عملنا الحجوزات اللازمة وطرنا إلى البلد قبل يوم واحد مِن الزفاف. في المطار كانت كلّ العائلة بانتظارنا، وعانقتُهم بقوّة خاصة أختي التي أصرَّت على المجيء بالرّغم مِن إعاقتها المؤلمة. كنتُ قد تركتُهم قبل عشر سنوات وكان ذلك اللقاء مهمًّا لنا كلّنا.

 

قضَينا اليوم التالي بتحضير الزفاف وكنتُ أطير مِن الفرَح. ووصَلَ اليوم المنتظر، ورأيتُ أختي بفستانها الأبيض ووجدتُها فائقة الجمال. لم أشعر بأيّة غيرة منها لأنّني لم أحظَ بزفاف تقليديّ، فهي كانت تستحقّ الأفضل.

ساعدتُها للوصول إلى القاعة، وكنتُ متشوّقة للتعرّف إلى العريس الذي كان بانتظارنا. ولكن عندما رايتُه خلتُ أنّ قلبي توقّف فجأة عن الخفقان. كان سام واقفًا أمامي ببزّة رسميّة يبتسم لأختي. لم أصدّق عينَيَّ واعتقدتُ أنّني أهلوِس إذ كان الأمر مستحيلاً.

لم أفكّر للحظة أنّ سام وسمير شخص واحد، فكيف لي أن أشكّ بأنّ حبيبي السابق وأب ريما هو خطيب سعاد؟

 

أخَذَ سمير يدَي سعاد وقبّلَهما بحنان ومِن ثمّ نظَرَ إليّ أخيرًا. تجمّدَ وقالت له أختي بفخر:

 

ـ أختي!

 

ـ أختكِ؟!؟

 


ـ أجل حبيبي، جاءَت خصّيصًا مِن الولايات المتحّدة مع زوجها وابنتها.

 

نظَرَ سمير إلى ابنتي وانخطَفَ لونه، فلم يكن مِن الصّعب عليه تكهّن سنّها وتجاهل الشبَه الكبير بينه وبينها. مِن ثمّ نظَرَ إليّ مطوّلاً وصافحَني وصافحَ جون بصمت.

قلتُ له:

 

ـ تهانينا... أتمنّى لكما التوفيق... أصرّ على أن تكون أختي سعيدة، وسأحرص على ألا يأتي شيء يُعكّر صفو هذه الأمسية الجميلة... لا شيء.

 

دخلتُ الصالة مع زوجي وابنتي وتركتُه يستوعب ما حصل، أمّا سعاد فلم تنتبه إلى شيء مِن كثرة سعادتها.

عمِلتُ جهدي لتفادي النظر إلى سمير طوال السهرة، وهو فَعَل الشيء نفسه. ولكن قبل أن نغادر بقليل، مرّ بالقرب مِن طاولتنا وفهمتُ منه أنّه يُريد التكلّم معي. لحقتُ به إلى الشرفة، فقد كان علينا أن نجري ذلك الحديث عاجلاً أم آجلاً. قال لي سمير:

 

ــ أقسم لكِ أنّني لم أكن أعلم أنّ سعاد أختكِ.

 

ـ أعرف ذلك وأنا لم أعلم أنّ سام هو سمير.

 

ـ إبنتكِ... أجهضتِ، أليس كذلك؟

 

ـ لا. أبقيتُ جنيني ولن أفترق عن ابنتي لأيّ سبب، أسمعتَني؟

 

ـ ولكنّها ابنتي!

 

ـ لا، هي لا تكون ابنتكَ عندما تطلب منّي أن أقتلها كي لا تغيّر مشاريعكَ المستقبليّة... لا، هي لا تكون ابنتكَ لأنّكَ لم تربِّها ولم تدلِّعها ولم تواسِها عندما كانت خائفة أو حزينة. أبوها هو جون، على كلّ الأحوال قام بتبنّيها، وهي تحمل اسمه وتعشقه ولا تعرف سواه... وهكذا ستبقى الأمور.

 

ـ لدَيَّ حقوق!

 

ـ إسمعني جيّدًا، أحبّ سعاد وريما أكثر مِن أيّ أحد في العالم، ولن أسمح لأيّ كان أن يتسبّب لهما بالزعل أو الحزن. لقد إختَرتَ ترك ابنتكَ وأختَرتَ أن تتزوّج مِن أختي، وأمنعكَ مِن أن تتفوّه بكلمة واحدة! ستحمل هذا السرّ معكَ إلى القبر. أنتَ تحبّ أختي فانجِب منها ودَع ابنتي وشأنها، لا تدمّر حياتكَ وحياة الآخرين بسبب حماس أبويّ مؤقّت. إذهب إلى زوجتكَ الآن فهي بانتظاركَ.

 

رحَلَ سمير وبقيتُ مكاني أرتجف، فلم أكن متأكّدة مِن أنّني استطعتُ اقناعه بالتراجع عن أبوّته وكتمان السرّ عن سعاد.

في المساء نفسه حزمتُ حقائبنا وطرنا بعد ساعات إلى الولايات المتحّدة. أثناء الرّحلة أخبَرتُ جون كلّ شيء، ولكنّه لم يتفاجأ لأنّه كان قد تعرّف إلى سمير بعدما رآه مرارًا عندي حين كنّا على علاقة، ولكنّ باله انشغل في ما يخصّ ريما إلا أنّني وعدتُه بأنّني لن أسمح لسمير بأخذ ابنتنا منّا.

لم يُطالب سمير بريما، وعلى ما يبدو لم يقل شيئًا لأختي وأنجبا سويًّا ابنَين، ولكنّه لقيَ مصرعه بعد سنوات بحادث سيّارة. وهكذا أَخذَ سرّنا معه إلى القبر.

حزنَت سعاد على سمير كثيرًا، فهو كان حبّها الأوّل والأخير، ولكنّ الأمر الذي عزّاها وسط تلك المأساة كان أنّني استطَعتُ إقناع جون بالانتقال للعيش في البلد بصورة دائمة.

اليوم عُدنا كما كنّا في السّابق، أي أختَين ملتحمتَين لا يُفرّق بينهما أحد أو شيء.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button